منذ البدء كانت حال العنف وإرادة الاستئصال تؤرّقان الباحث في شأن الإنسان، القتل أو الحسد أو الحقد أو العنف حالات من دون تاريخ، وهذا أحد براهين أصالتها في النزعات البشرية، ذلك أن ما هو طارئ يمكن أن يكون له تاريخ، والعنف يتنوّع من القتل الفردي، وصولاً إلى القتل السياسي المنظّم والمبرر لغوياً واستراتيجياً وإعلامياً. في المئة الخامسة قبل الميلاد كتب الفيلسوف اليوناني «هيراقليطس»: «الحرب هي ربّةُ الأشياء»، وهو سليل أسرةٍ ملكَتْ في مدينة «أفسس» في آسيا الصغرى. وفي النصوص الفلسفية التي تلت القرن ال16 طُرحت مواضيع العنف على مشارط المعالجة الأخلاقية، تصطدم المعالجة ب«العنف الضروري» الذي بررتْه بعض النظريات بحثاً عن «فردوس أمني». حمّلت نصوص كبرى مسؤولية مجازر عالميّة، جيء بنصوص الفيلسوف الألماني «نيتشه» - وهو قنطرة الفلسفة بين القرنين ال«19 و20» - على منصّة الإدانة، وهي إدانة منقوصة لأن هتلر قرأ «السوبرمان» بتأويله هو، وعشق هتلر لنصوص نيتشه، أو لموسيقى صديق نيتشه ريتشارد فاغنر، وتحديداً مقطوعة «ذا فالكيري» لم يلغِ فعالية المنتَج وتعدد تأويلاته، ويمكن إدراك معاناة النص النيتشوي في دراسة جيل دلوز عنه في كتابه «نيتشه والفلسفة»، أو قراءة رودولف شتاينر في كتابه «نيتشه مكافحاً ضد عصره». كانت القراءات قد طرحت فلسفاتٍ أخرى لإدانتها بالتهيئة للعنف والتبريرين اللغوي والنظري للقتل، مثل نصوص ميكافيللي، أو توماس هوبز، أو هيغل، وعن الأخير يشنّ الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر جامّ غضبه، إذ رأى أن فلسفة هيغل ليست مؤسسةً للحرب فقط، وإنما أسهمت في إشعال الحربين العالميتين، فهو يكتب: «فلسفة هيغل تعهّدت بظهور وطنيّة اليمين، فأطروحاتٍ مثل: إن الشعب لا يؤكد ذاته إلا بالحرب ضد شعوبٍ أخرى، وأن فكر الشعوب يجد أقصى تعبيره في الدولة التي لا توجد فوقها أي أخلاقٍ أو عدالة، واعتبار الفرد مجرد أداةٍ في خدمة الدولة الوطنية، وأفكار أخرى أعطت لهيغل مسألة الريادة في إشعال حربين عالميتين وبالأخصّ الحرب العالمية الثانية». يكتب هيغل: «لا يمكن إنكار الحرب في تطوّر الإنسان»، وهذه الضربات من بوبر لهيغل عالجها بوضوح روني بوفريس في كتابه «العقلانية النقدية عند كارل بوبر». بقي سؤال العنف مؤرّقاً للباحث في مجالات الإنسان وسلوكياته وأعطاله وهزائمه، وحين حاول إيمانويل كانط أن يطرح نظرية السلم الدائم في كتابه «نحو سلامٍ دائم» إنما كان يصرخ بوجه العالم أكثر مما كان يعني إمكان وصول البشرية لديمومة السلم. هيغل يذهب أبعد من ذلك في دحض «سلام كانط الدائم»، إذ رأى أن طرحاً كهذا إنما هو «وهم محض». العنف ينتج العنف، والفوضى تحرس العنف، والقوة تولّد العنف، إذ الحروب تحفّزها «القوة الفائضة» التي تتولّد عن قوة المال والاقتصاد ودور العلم في تطوير الأسلحة والقنابل وحاملات الطائرات، وكل الانتصارات العلمية في المجالات العسكرية. بين ترسانة الصور الدموية؛ هذه التي تطاردنا في كل وسائل الاتصال، يفكّر الإنسان مليّاً، هل هذه الحروب التي يعيد تدويرها جهاز الإعلام بكل تفريعاته بدعةً على الإنسان؟! ثم نتذكّر الحروب الرمزية والصامتة التي يخوضها الإنسان يومياً، إذ يصارع حربه وهو يقود سيارته، أو يبني تجارته، أو يغذّي هوايته، فالواقع هو الحرب، وإذا كان بودريار قد قال: «حرب الخليج لم تقع»، مطّرداً مع نظريته بأن: «النسخة الشبيهة صورة في المرآة عن أصلٍ ما، وبالتالي إشارة عنه»، فعلينا أن نبصر حروبنا الذاتية واليومية والحالات الاستئصالية لنعرف أن الحرب والعنف ليست أموراً طارئة بل هي السواد على جبين الإنسان. وبين «الإنسان الأعلى» لنيتشه، أو «الإنسان الأدنى» لعلي حرب، أو «الإنسان المريض» لأدونيس، تتالى حالات رسوب الإنسان وفشله في تحديات وجوده. www.shoqiran.net shoqiran@