يعد الناقد والمؤرخ الأدبي الألماني هانز روبرت ياوس، الذي ولد عام 1921 وتوفي عام 1997، من أبرز أعلام مدرسة كونستانس التي عني أفرادها، بصورة عامة، بعلاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ. وقد طور ياوس، مع زملائه في جامعة كونستانس الألمانية، وعلى رأسهم وولفغانغ آيزر، ما عرف في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي ب «نظرية التلقي». وكان لأستاذ ياوس هانز جورج غادامير، الذي درس على يديه في جامعة هايديلبيرغ، أكبر الأثر على أفكاره التي دارت حول معنى التأويل وعلاقة ما يتوقعه القراء من العمل الأدبي، في زمن بعينه، بمعنى هذا العمل وتاريخيته. درّس ياوس فقه اللغات الرومانسية والنقد الأدبي في جامعة كونستانس، كما درّس أيضا في جامعتي كولومبيا وييل الأمريكيتين، وجامعة السوربون في فرنسا. وتركزت التأثيرات الأساسية على عمله النقدي في المذهب التأويلي لأستاذه غادامير وشعرية الشكلانيين الروس حيث تنازعه هذان التياران، من تيارات التفكير النقدي في القرن العشرين، على مدار أعماله. ويلحظ الدارسون هذه التأثيرات في حوليات مدرسة كونستانس، التي بدأت في إصدارها منذ عام 1963، والتي ظلت تصدر تحت عنوان «الشعريات والتأويل»، وهما كلمتان تبينان حالة الانقسام داخل المدرسة بين تيارين أساسيين في مجموعة «نظرية التلقي» الألمانية يحاولان، رغم تباين وجهات النظر حول معنى العمل الأدبي، أن يتوصلا إلى طبيعة العلاقة التي تقوم بين النص والقارئ. ففي الوقت الذي يركز التأويل على تحديد المعنى تقوم الشعرية بالوصف العلمي للنص دون الانشغال بالدلالة. من الواضح في عمل هانز روبرت ياوس أنه ينتمي إلى التيار الذي يشدد على تأويل النص وتاريخيته، وتركز أعماله الأولى على تجديد معنى «التاريخ الأدبي» وجعله يحتل قلب الدراسة الأدبية. ومع أنه لا يدعو إلى العودة إلى التركيز على حياة المؤلف وبيئته التاريخية، كما يفعل النقد التقليدي، فإن جوهر دعوته النقدية يتمثل في محاولة التوفيق بين الجدل التاريخي الماركسي والشكلانية الروسية. لكنه في الوقت نفسه يرفض النظرية الماركسية في الانعكاس لأنها تختزل العمل الأدبي إلى عملية نسخ وظيفي للواقع. وهو، رغم تأثره الواضح بالشكلانيين الروس وخصوصاً بمفهوم «نزع الإلفة» الذي صكه الناقد الشكلاني الروسي فكتور شكلوفسكي، يشدد على أن عملهم غير كاف لأنه «لا يرى العمل الفني في التاريخ، أي في أفق إنتاجه التاريخي، ولا يعاين وظيفته الاجتماعية، وأثره التاريخي». في اعتراض مواز لنقده عمل الشكلانيين الروس يقول ياوس إن إصرار الناقد البنيوي الفرنسي رولان بارت على «لعبة التناص الحر، التي لا حدود لها» لا تنتج قراءات تاريخية، أو جمالية. وبالمقابل فإن مدرسة التأويل الأدبي (أي ما يسمى الهيرمونيطيقا) «تقدم فرضية شديدة الأهمية، وهي أن تعيين معاني الأعمال الأدبية يتطور تاريخياً ويستند إلى منطق محدد مما يساعد في تشكل المعايير الأدبية، ويضيف على الدوام جديداً إلى سلسلة الأعمال الأدبية الكبرى، كما يساعد في عملية تحول هذه المعايير على مدار التاريخ. والأهم من ذلك أن هذه الفرضية تسمح بعملية التمييز بين «التأويلات الاعتباطية وتلك التأويلات التي حظيت بنوع من الإجماع» بين القراء والنقاد والدوائر الأدبية المختلفة. في السياق السابق من التحليل الأدبي صاغ هانز روبرت ياوس تعبير «أفق التوقعات» ليفسر أسس عملية الاستقبال الأدبي حيث تتحدد قيمة أي نص بالاستناد إلى المسافة التي تقوم بينه وبين « أفق التوقعات». ويذكرنا مصطلح «أفق التوقعات» بتعبير «اندماج الآفاق» الذي صاغه أستاذ ياوس، هانز جورج غادامير، وفسر استناداً إليه عمليات فهم الماضي وكذلك الآخر، إذ بدلا من الحديث عن الفهم كحقيقة موضوعية يرى غادامير أن الفهم لا يتحقق إلا من خلال تكييف المعنى وتسوية الخلاف في وجهات النظر. إن عملية القراءة، حسب غادامير، هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر؛ ونحن إذ نمارس فعل القراءة في الحاضر لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتحيزات المستقرة في ثقافتنا. ولكننا مع ذلك نستطيع في هذا الأفق المحدود تاريخياً أن نتوصل إلى بعض الفهم الذي يمكننا من إلقاء بعض الضوء على النصوص القديمة. وفي أثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين «أفق توقعاتنا» وآفاق كتابة الماضي وقراءته. ومع أن هانز روبرت ياوس يحاول، في فهمه علاقة العمل الأدبي بالمتلقي، أن يفسر الطبيعة المتغيرة لمعنى العمل الأدبي، إلا أن تأثيرات غادامير ومدرسته التأويلية، التي تشدد على أن المعنى لا يتحقق إلا عبر علاقة مجاورة أو من خلال المصادفة، واضحة في عمله. لكن الاختلاف بين غادامير وياوس يكمن في طبيعة مشروع ياوس. إنه لا يعنى بالتركيز على المؤلف، أو النص، أو التأثيرات الأدبية بل على عملية تلقي النص بدءا من زمن كتابته وانتهاء بعملية تأويله من قبل القارئ أو مجموعة القراء في الوقت الحاضر. ليس النص، حسب فهم هانز روبرت ياوس، وجوداً موضوعياً محاطاً بعدد غير محدود من التأويلات التي تشكل ظلالاً شبحية له، بل إن هوية هذا النص لا تتحقق إلا في أفق عملية استقباله، ومن خلال عملية التأويل الجماعي لأجيال متتالية من القراء. يقول ياوس في مقالته الشهيرة «التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية» (التي نشرها عام 1970): «لا تستند تاريخية الأدب إلى مؤسسة «الحقائق الأدبية» (...) بل إلى التجارب السابقة للقراء مع العمل الأدبي». يخالف هانز روبرت ياوس جماعة سوسيولوجيا الأدب الذين يعتقدون أن الكاتب مرتبط بجمهور قرائه، ومشدود إلى الوسط الذي يوجد فيه، وإلى الآراء والأيديولوجية السائدة في زمنه بحيث يتوجب عليه أن ينتج كتابا يوافق «توقعات قرائه»، ويقدم لهم الصورة التي يحبون أن يروها لأنفسهم. إن هذا النوع من الحتمية الوضعية مرفوض من قبل ياوس، وهو من خلال تفسيره كيفية دخول الأعمال الجديدة، التي تنتهك «توقعات» القراء وكيفية استقبالهم للأعمال الأدبية، في السلسلة الأدبية، يفسر عملية التطور الأدبي وتطور الأشكال وتغيرات النوع. أثارت مقالة هانز روبرت ياوس «التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية» ردود فعل كثيرة في ألمانيا. وقد واصل الناقد الألماني الغربي، بتأثير ردود الفعل هذه، الدفاع عن تصوراته النظرية التي طرحها في مقالته الشهيرة. ولكنه في الوقت نفسه قام بتعديل هذه التصورات منذ سنوات السبعينات أكثر من مرة، في معاركه النقدية مع ممثلي مدرسة فرانكفورت، ونخص بالذكر هنا انتقاداته لعمل ثيودور أدورنو، أو رده على النقاد الذين ينتمون إلى جمهورية ألمانيا الديموقراطية قبل سقوط جدار برلين. إن الفيلسوف والمنظر الأدبي الألماني ثيودور أدورنو إذ يبحث، في كتابه «نظرية علم الجمال» (وقد نشر بعد وفاته عام 1963)، معنى الموضوعات الأساسية في علم الجمال - أي استقلالية العمل الأدبي، والعمل الأدبي بوصفه ظاهرة اجتماعية - تاريخية، والجمال المشترك بين الطبيعة والفن - يشدد على دور علم الجمال الفلسفي في فهم طبيعة الفن الحداثي، الذي يصر على النفي السلبي للمجتمع كنوع من النقد الاجتماعي والكفاح ضد التكيف الاجتماعي والسلبية اللاعقلانية التي سادت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا فإن الفن العظيم بالنسبة لأدورنو هو بمثابة البوصلة التاريخية الفلسفية التي تضيء جوانب من الواقع الاجتماعي ولكنها تنكره وتوجه أشد الانتقاد له في الوقت نفسه. إنه، بهذا المعنى، ينكر أي دور تغييري مباشر للفن في المجتمع. يعارض هانز روبرت ياوس نظرية أدورنو التي عرضنا لها قبل قليل قائلا إن بإمكان الأدب والفن أن يلعبا دوراً تقدمياً في المجتمع، وينتقد النظرة النخبوية للفن ومفهوم استقلالية العمل الأدبي، والتجربة الجمالية نفسها، والمتعة المتضمنة في التواصل مع العمل الأدبي أو الفني. وهو يقوم من ثمّ باستبدال مصطلحه، الأثير إلى نفسه، «أفق التوقعات» بتعبير «التجربة الجمالية» بوصفها المتعة الذاتية التي يحصل عليها المرء من خلال التواصل مع متعة جمالية أخرى. يميز ياوس في كتاب «التجربة الجمالية ونظرية التأويل الأدبي»، بين أنواع ثلاثة من التجربة: إنتاج الممارسة الجمالية، وعملية التلقي، والعملية التواصلية (التي تحقق عملية التطهير) مما يذكر بفهم الفيلسوف الإغريقي أرسطو لوظيفة العمل الأدبي. ويمكن القول إن النوع الثالث من أنواع التجربة، ممثلا بالعملية التواصلية، يحتل في هذه المرحلة من مراحل تفكير ياوس بؤرة مركزية. ويعرف ياوس هذا النوع من التجربة بأنه «متعة المشاعر التي يحركها الكلام أو الشعر الذي يستطيع أن يحدث تغييرا في المعتقد، ويؤدي في الوقت نفسه إلى تحرير عقل السامع او المشاهد. أي أن التجربة الجمالية تحقق ثلاث وظائف في المجتمع: فهي تعمل على إيجاد المعايير والقيم، أو أنها تبقي على المعايير السائدة في المجتمع، أو ترفض التكيف مع هذه المعايير السائدة. بناء على التصور النظري السابق للعلاقة بين النص والقارئ يرى هانز روبرت ياوس أن هناك خمسة أنماط من التفاعل بين العمل الأدبي وكيفية تلقيه: وهي علاقات التداعي، والإعجاب، والتعاطف، والتطهير، والإحساس بالمفارقة. ومن ثمّ فإن ياوس يوفر نموذجا شاملا لفهم العلاقة بين علم الجمال وعملية استقبال الأعمال الأدبية، متوجاً بذلك نظريته في التلقي، التي ركزت في البداية على بنية «توقعات» القراء وانتهت إلى التشديد على معنى التجربة الجمالية، ووظائفها المتحققة من خلال عملية القراءة.