ما من شيء يمكنه أن يُشعرك بالطمأنينة بجلال مشهدية الحياة مثل الجمال. للجمال لحظاته المباغتة، معه يتغيّر مستوى سير الزمن، لم تستغن عنه حتى أصلب العلوم. استعارت الفيزياء من الموسيقى مفاهيم علمية، كما في اسم «نظرية الأوتار الفائقة»، كما استعارت الفلسفة من الشعر، كما في مفهوم «شعرنة الفلسفة» لدى جيل دلوز. إنه يتدخل بسحره بغية تشكيل مفاهيم كبيرة، أو تحسين صورتها وإذابة بعض جمودها. والتجربة الجمالية تجربة شعرية بالضرورة، على اعتبار الشعر أكبر من الكلمات، من خلال الشعر يمكن أن تتشكل الحياة، لكنه ليس الشعر بالمعنى المدرسي البسيط، وإنما الشعر بمعنى التجربة الذاتية في قراءة الجمال. والجمال يُعاش أكثر مما يُعرّف، التجارب الجمالية هي التي تحدد مفهومنا عنه، فهو خبرة ذاتية تأتي من خلال التمرّن على إدراك تجلي الجميل، الكثير من التعريفات تجرّنا إلى القرب من المعنى العام فحسب، أما الغوص في جوهر المجال الفني أو الجمالي أو الشعري فإنه يصاغ من خلال التجربة الذاتية، والجمال حين نعرّفه يفقد صيغته العظيمة التي تتمثل في التشكل الدائم على صيغٍ مختلفة ومتنوعة، يكتب بورخيس: «لا نستطيع تعريف شيء إلا عندما لا نعرف أي شيءٍ عنه، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، واللون الأحمر، أو الأصفر، أو معنى الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب، أو حب بلادنا، هذه الأشياء متجذرة فينا، بحيث لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الرموز المشتركة، التي نتداولها وما حاجتنا إلى مزيدٍ من الكلمات». بالجمال يمكننا أن نعرّف ذواتنا، لكن ذواتنا لا يمكنها سكّ تعريف حادّ لمعنى الجمال، إنه أكبر منا. للحياة مسارها اليومي العادي، الذي يشترك فيه الناس جميعاً، بحوائجهم وأغراضهم، غير أن نزع الذات عن الغرق ب«الهُم» أو «الذوق الجمعي» يمكن أن يتمّ عبر آليتين، آلية فلسفية، وآلية فنية، بالآلية الفلسفية يتحرر الإنسان من «الهُم»، بمعنى إدراك الإنسان لوجوده ومعناه والتساؤل المستمر في الألغاز وعدم الركون إلى دربٍ واحد، بل عليه أن يعبر «الدروب المتعددة»، كما يقول الفيلسوف الألماني هيدغر. أما الآلية الفنية فهي التي تنقذ الإنسان من الذوق المتشابه، وإذا كان «هيراقليطس» كتب عن استحالة مرور النهر علينا في مرتين، فإن كل تجربةٍ جماليةٍ تحمل بصمة الإنسان نفسه، ولا يمكن لتجربةٍ جماليةٍ أن تتكرر بالصيغةِ ذاتها لدى فردين. السيمفونية التي نسمعها نصحبها بخيالنا الشخصي، ومن بجوارنا لديه تأمله عنها وصورته فيها، كذلك الشريط السينمائي، أو قراءة الجسد واللوحة والصورة والنص. التجربة الجمالية هي اكتشاف لأسرار الذات والعالم، بها ندرك حميميتنا مع الأشياء، الجمال ملاذ الإنسان من معترك الحياة اليومية بصخبها وسفالتها، لهذا كان الحب والفن والوجد ورقص القلب من بين المفاهيم الحاضرة لدى الفلسفات الحيوية، سواء كانت مسيحية، كما في بدايات القرن ال «18» في أوروبا، أو لدى المسلمين، كما لدى «ابن عربي» في القرن ال «12»، الذي عاش تجربته العلمية البحثية كتجربة جمالية ذوقية. بمثل هذه التجارب نظهر حيوية الحياة ومركزية الجمال في حياة الإنسان، والذين يعيشون من دون أي إدراك للجميل، أناس انقرضوا وجودياً. التجارب الجمالية بالنسبة للمفكر مثل الأثاث، ذلك أن الفكر من دون جمال يصبح فكراً مدرسياً يتداول في المقررات والمناهج، من أجلّ ما ارتبطت به النصوص الكبرى في الفلسفة، البعد الشعري والجمالي فيها، إذ زيّن الفلاسفة نظرياتهم بألوانٍ فنية وجمالية، فأثمرت عن نصوصٍ آسرة يتلقفها القراء حباً وجمالاً، فالكلمة لها وقع «النوتة» الموسيقية أحياناً، وإذا كان دلوز يقول: «الفيلسوف عاشق المفاهيم» فإن عشق الجمال أحد العلاجات الوجودية من شتى الأمراض الضارة بالبشرية. [email protected] twitter | @shoqiran