لن تغير نتيجة الانتخابات الإيرانية الأخيرة شيئاً يذكر في سياسة إيران الخارجية، ولكنها تحدث تغييراً طفيفاً في الشؤون الداخلية، ولعل تجربة محمد خاتمي لمدة 8 سنوات في سدة الرئاسة الإيرانية خير دليل على تلك الحقيقة. فرئيس الجمهورية ضمن تركيبة معقدة أرساها الدستور الإيراني ليس إلا رئيساً للهيئة التنفيذية وسلطاته مقيدة وصلاحياته محدودة، لأن الدستور يحتفظ بالسلطات الأهم والصلاحيات الأقوى لشخصية أخرى هي المرشد الأعلى أو «ولي الفقيه». ووفق الدستور الإيراني، هناك توزيعة دقيقة جداً تعكس مراكز القوى داخل المجتمع الإيراني والقوى التي شاركت في الثورة الإسلامية منذ ثلاثين سنة، ويمكن الحديث ضمن تلك القوى عن «علماء الحوزات وآيات الله» الذين قادهم الخميني وحشد معظمهم خلف نظريته الجديدة، «ولاية الفقيه»، ورجال البازار التجار الذين موّلوا الثورة وغطوا تكاليفها، وقيادات الحرس الثوري الذين خلفوا قيادة الجيش المنهارة بعد نجاح الثورة وتصدوا للمؤمرات التي حيكت ضدها. ظهرت خلال السنوات الثلاثين قوى جديدة على مسرح الحياة السياسية الإيرانية أهمها: قيادات الجيش الذي أعيد بناؤه، والنخب السياسية التي ترعرت في ظل الحياة السياسية وشكلت أحزاباً لها جمهورها ومؤيدوها، وكذلك وفي المقدمة الجموع الشعبية الغفيرة التي أيدت الثورة ضد الشاه وشاركت في الحرب المستعرة لمدة عشر سنوات مع العراق وضحّت بالملايين في المعارك التي لم تتوقف، وساهمت في عمليات التنمية المستمرة وظهرت منها عقول نابغة صنعت المشروع النووي السلمي لطاقة متجددة ومستمرة وتصدت لكل المؤامرات الأميركية والغربية التي تم إنفاق مئات الملايين من الدولارات عليها. هذا الشعب له من يمثله اليوم وهي القيادات السياسية التي يتحلق حولها ويثق بها، ويكفي أن مير حسين موسوي حصد بحسب الأرقام المعلنة ثلث أصوات الناخبين، أي عشرة ملايين صوت. في ظل الخميني وفي حياته وكقائد لإحدى أبرز ثورات التاريخ الحديث تم تركيز أهم السلطات في منصب «المرشد الأعلى» أو «ولي الفقيه» وهو المنصب الذي تولاه الخمينى بقوة الأمر الواقع، وعند صياغة الدستور تم تشكيل «مجلس الخبراء» الذي يتم انتخابه من عدد محدود لهم مواصفات ضيقة جداً وغالبيتهم من رجال الدين، وهذا المجلس هو الذي يتولى اختيار المرشد الأعلى ومحاسبته وعزله إن اقتضى الأمر، وهو ما لم يتم إلا مرة واحدة باختيار السيد خامنئي ولم يكن وقت اختياره أحد آيات الله العظمى بحسب تسلسل رجال الدين الشيعة. وتم إعداد الدستور في ظل هجمات متتالية ضد الثورة ورموزها وقياداتها من اتجاهات متعددة أدت إلى اغتيال أكثر من مئة شخصية متميزة، وقد عكس الدستور المظالم التاريخية والتهديدات الحاضرة وغابت عنه التصورات المستقبلية. اليوم هناك حاجة ملحّة إلى إعادة صياغة الدستور الإيراني بعد ثلاثين سنة مملوءة بالحيوية والمعارك العسكرية والسياسية الداخلية والخارجية. وأهم التطويرات المقترحة: - خلع الرداء المذهبي عن الدستور لإتاحة الفرصة لكل أبناء المذاهب، خصوصاً أهل السنّة، للتمتع بكل حقوق المواطنة الكاملة. - خلع الرداء القومي الفارسي لاستيعاب كل القوميات التي تشكل أقلية داخل إيران، مثل الأذريين والعرب والأوزبك والبلوش والأكراد. - إعادة توزيع القوى داخل تركيبة السلطة وإحداث توازن بين الرئاسة والبرلمان والجيش والشعب ممثلاً بالأحزاب السياسية. - إعادة النظر في منصب «ولي الفقيه» وإعادة النظر في «الحرس الثوري»، خصوصاً بعد اشتداد عود الثورة وتحولها إلى دولة مستقرة، أو الاحتفاظ بالموقع الخاص ل «المرشد الأعلى ولي الفقيه» في صورة رمزية بصلاحيات محدودة، خصوصاً أن هناك من المراجع الشيعية المعتبرين مثل نائب الخمينى حسين منتظري من يطالب بالعودة عن نظرية «ولاية الفقيه» تماماً لعدم اتفاقهم عليها أو لأنها أدت دورها. أعتقد أن هناك مراجعة مطلوبة لكل المهتمين بالوضع الإيراني لتصبح إيران دولة نموذجاً لممارسة إسلامية لا تكون محسوبة على المذهب الشيعي أو حتى على اجتهاد أحد أكبر رموزه في العصر الحديث للخروج من نفق طويل تسببت فيه «الغيبة الكبرى» التي يؤمن بها الشيعة الجعفرية الإثني عشرية للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري باجتهاد نظرية «ولاية الفقيه» أو «الحكومة الإسلامية»، التي يمكن تلخيصها بنيابة الفقيه عن الإمام الغائب حتى يعود. إذا تحققت تلك التطويرات، فإن المذهب الشيعي يقترب جداً من النظرية السياسية لأهل السنّة والجماعة التي تعود بالأمر كله إلى الشعب المسلم الذي له حق الاختيار والمحاسبة والعزل للحاكم، وبذلك نكون حققنا أفضل تقريب بين الجماعتين الكبيرتين في الإسلام والذي تسببت الخلافات السياسية حول من هو الأحق بتولي أمور المسلمين وولاية الشأن العام في هذا الشرخ الكبير وفي حروب دامية واغتيالات مؤلمة إجرامية وانقسام طويل لمدة 14 قرناً من الزمان. مراجعة تجارب نظم الحكم في الدول الإسلامية، خصوصاً تلك المحسوبة على التجربة الإسلامية، سنّية كانت أم شيعية، هي واجب، وعلى الجميع أن يدلوا بدلوهم في هذا الشأن. * قيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» – مصر