قديماً قيل «إن أهل مكة أدرى بشعابها»، ولكن هذا المثل الشعبي يمكن تحويره ليصبح «أهل جدة أدرى بشعابها»، فلقد أكدت كارثة سيول جدة الحاجة إلى هذا المثل، إذ نفاجأ بهذا الكم من المستشارين الذين يظهرون علينا عبر بعض القنوات الفضائية وهم يسهبون في الإطراء على منجزات إداراتهم، وأنها لم تكن سبباً في حدوث الكارثة، هناك فرق بين الخبرة العملية الميدانية وبين الخبرة المكتبية، وأعني بذلك الجهات ذات الصلة باعتماد المخططات، فماذا لو استعانت ببعض سكان جدة، خصوصاً القدامى منهم، لمعرفة مواقع الوديان ومجاري السيول، وبناءً على مرئياتهم تتم وضع الترتيبات اللازمة بعدم السماح للمخططات الحالية التي تقع على أودية ومصبات سيول، لكن مصيبتنا تكمن في الثقة العمياء التي تُمنح لهؤلاء المستشارين والخبراء من أجل تصميم خرائط للمخططات الجديدة بناءً على عدم خبرتهم بمواقع مصبات السيول والأودية. إن مجريات التحقيق التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين لم تنته بعد، إذ تتم بإشراف أمير منطقة مكةالمكرمة خالد الفيصل، الذي عُرِف بحزمه وإنصافه للمظلومين، ولكن نفاجأ كل يوم بظهور مستشاري بعض القطاعات الخدمية مبررين ومدافعين عن أخطاء إداراتهم الجسيمة في تدمير البنية التحتية وعمليات الغش التي جعلت «العروس» تندب حظها البائس. لقد ولى عصر المستشارين والخبراء الذين كنا نستقدمهم من الخارج، لأن شباب بلادنا أصبح لديهم الخبرة الكافية والمؤهلات العليا، فها هي جامعاتنا وكلياتنا تضخ سنوياً آلاف الشباب المؤهلين في التخصصات كافة، خصوصاً الهندسة والتخطيط، بينما لا تزال بعض قطاعاتنا تُصر على الاستعانة بالخبراء والمستشارين بمبالغ ضخمة. المستشارون جعلوا المواطن يعيش أحلاماً وردية، فخدعونا بعد أن وصفوا الذباب والبعوض بأنه فراشات وطيور زينة، وأن المستنقعات التي تنتشر في أحياء العروس كافة وتنشر معها الأوبئة والأمراض بأنها بداية لتحويل جدة إلى ما يشبه مدينة البندقية بإيطاليا، وأوهموا المواطن الغلبان بأن هناك مشاريع جبارة يتم تنفيذها حول بحيرة المسك من أجل تحويلها إلى منتجعات سياحية وحدائق غناء تحيط بتلك المنطقة ولتصبح في المستقبل مركزاً سياحياً عالمياً يفد إليه السياح والزوّار، وما زاد استياء المواطنون أن أعلن هؤلاء الخبراء والمستشارون عن اعتماد مبالغ هائلة لتطوير تلك المنطقة والبحيرات الآسنة وتحويلها إلى حدائق غناء، في الوقت الذي أغفلوا فيه ما لحق بالبنية التحتية من تدمير هائل، وكان الأولى بهم أن ينفقوا تلك المبالغ الضخمة لتطوير المناطق المحيطة بالبحيرة، وصيانة البنية التحتية من شوارع وأنفاق لحق بها الدمار. أليس من الغريب أن يتم إنفاق «95 مليون ريال» من خزينة الدولة على مشروع إنشاء غابة شرقية تقع حول بحيرة الصرف الصحي؟ أما كان من الأجدر أن ينفق هذا المبلغ على إنشاء سد جديد لحماية أحياء جدة المهددة بالسيول والغرق؟ فلو أنفق هذا المبلغ على إنشاء سد لحجز مياه السيول والأمطار شرق جدة للحد من تأثر بعض الأحياء من مداهمة السيول لها، والاستفادة من المياه في استزراع الأرض واستثمارها في مشاريع زراعية بدلاً من إنشاء استراحات وحدائق غناء تحيط ببحيرة الصرف الصحي! مثل هذه التصريحات التي يطلقها بعض المسؤولين، خصوصاً المتعلقة بالخدمات، بات المواطن لا يتقبلها ويعتبروها بمثابة جرعات «تخدير» تبثها تلك القطاعات لتسكين وتهدئة ثائرة المواطن، ولكن مطلقي هذه التصريحات أخطأوا الهدف لأنها أتت بنتيجة عكسية زادت من غضب المواطن، فهل من المعقول، وفي هذا الوقت العصيب الذي تعاني منه «عروس البحر الأحمر» من تدمير في شبكات البنية التحتية، الإعلان عن إنشاء حديقة بكلفة ملايين الريالات، وهل من المعقول إطلاق تصريحات صحافية عن إنشاء مجسم جمالي بكلفة عالية في الوقت نفسه الذي تئن فيه الشوارع المحيطة بمنطقة إنشاء المجسم بالحفريات والتصدعات؟ وهل يعقل أن يتم إنفاق 25 مليون ريال على تزويد حديقة ما بعدد من المقاعد، في الوقت الذي يشكو فيه السكان المحيطون بالحديقة من هجمات البعوض والذباب وروائح مياه الصرف الصحي التي تنساب إلى الشوارع وتحيلها إلى بحيرات؟. [email protected]