في العام 2004 نشر تقرير من العراق يتحدّث عن لجوء القوات الأمريكية للتخلص من بعض جثث جنودهم القتلى عبر إلقائها من الطائرات إلى الأنهار والصحارى المهجورة لتتحلل في روافد الأنهار تلتهمها الوحوش. لم يظهر من ذلك التقرير أي مستوى في القوات الأمريكية مسؤول عن مثل ذلك الفعل الشنيع بحق جنود أرسلهم قادة أمريكا لآلاف الأميال دفاعاً عما أفهموه إياه كمصالح لأمريكا. لكن أناساً بسطاء من أهل العراق عثروا مصادفة على جثث في صحراء أو جثث علقت في شباك الصيادين، ورغم علمهم أن هؤلاء جنود احتلال، ومنهم من قتل ونكّل بالعراقيين، إلا أنهم تصرّفوا مع الجثث بما يليق وبما يعكس الأخلاق والقيم التي تربّوا عليها، وما كان منهم إلا أن جمعوا الجثث بأكياسها السوداء ودفنوها في مقابر جماعية. تلك الوقائع مرّت بهدوء ولم يعترف بها قادة الاحتلال الأمريكي ومستواهم السياسي في واشنطن، وبما أن أي جهة مستقلّة أخرى لم يتح لها أن تتحقق من تلك الوقائع، فإن القضية لم تتفاعل. لكن الاعتراف المرعب الذي صدر عن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" يمنح الكثير من المصداقية لما ورد في التقرير العراقي. فالبنتاغون اعترفت أخيراً أنها ألقت رفات ما لا يقل عن 274 جندياً فى مقالب للقمامة فى ولاية فرجينيا.تفاصيل الواقعة الجديدة تروي أن من المتّبع أن تسعى وزارة الدفاع لتحصيل الإذن من ذوي الجنود الأمريكيين الذين يقتلون في انفجارات كبيرة ويتحولون إلى أشلاء وبقايا، لكي يتم دفنهم في قاعدة دوفر الجوية. لكن لم يكن ذوو القتلى يعلمون أن مصير رفات أبنائهم الذين قتلوا في العراق وأفغانستان، في سبيل ما اعتقدوا أنها خدمة لوطنهم، سيكون في "صندوق قمامة". اعتراف "البنتاغون" بهذه الجريمة البشعة المنافية لكل الديانات والأعراف وشرف الخدمة العسكرية، لم يكن صحوة ضمير أو مراجعة لأفعال شائنة بغية تصويب التعامل حتى مع أمريكيين، بل إقرار بوقائع فضحتها الصحافة الأمريكية.الآن يستطيع الجنود الأمريكيون أن يراجعوا ذكرياتهم، ويعودوا إلى ذلك اليوم الذي سمعوا فيه من رئيسهم السابق جورج بوش يقول لهم إن الحرب في العراق ستكون نزهة، لكي يكتشفوا الآن أن نهاية نزهتهم إلقاء جثث القتلى في القمامة. في الحالة الأولى قد يكون الدافع لإلقاء الجثث في الصحارى والأنهار محاولة لإخفاء الخسائر الحقيقية في حرب صرفت عليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة تريليونات من الدولارات، من دون أن يشعر المواطن الأمريكي أن مستوى معيشته قد تحسّن، أو أن حياته قد أصبحت أكثر أمناً، وهو يرى هذا الغضب الطاغي لدى شعوب الأرض إزاء سياسات أمريكا ومغامراتها وشغفها بالحروب باعتبارها سوقاً لكبرى شركات السلاح ووسيلة للسيطرة على خيرات الشعوب ومواردها.وإذ يتم الكشف عن هذه الفضيحة عشيّة الانسحاب من العراق، نستطيع أن نتوقّع مزيداً من الفضائح، لأن الحروب غير العادلة لا يمكن إلا أن تكون قذرة، وقد جاء "صندوق القمامة" ليقدّم الدليل على أن غرائز السيطرة وجشع الطغم المالية والسعار الإمبريالي يمكن أن يفعل أي شيء على حساب كرامة الإنسان. الأمريكيون الطيبون البسطاء الذين بيّنت آخر استطلاعات رأيهم إدراكهم أنهم لعبة سياسية، ينظرون إلى هذه الجريمة ضد الإنسانية على أنها ستظل سبّة في جبين دولة تدعي أنها بلد الحضارة الإنسانية المعاصرة!! سيصلون بالتأكيد إلى هذا الاستنتاج، لكن هناك من بيننا من يصرّون على انتظار حقوقهم وحريتهم من أمريكا، لأن مفهومهم المقلوب يقول إن فاقد الشيء يعطيه.