عندما بدأت أدرك الأمور في الثمانينيات الهجرية وتولي جلالة الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية أخذت السياسة مني مأخذها بحكم الوسط الذي نشأت فيه وبحكم العلاقات العائلية مع الكثير من العوائل التي آلت بها الأيام للعيش في بلدنا الآمن المسلم الذي أعز كثيرا ممن ذلتهم السياسة والسياسيين فعرفت آل الوزير وآل الشامي وآل حميد الدين من عوائل اليمن الذين عصفت بهم إلى المملكة الثورة الأولى في اليمن ثم الثورة الثانية، كما عرفت الكثير ممن هربوا من جحيم الحكم الناصري سواء كانوا اخوانا مسلمين أو غيرهم، والحقيقة أنني كنت تلميذاً عند كل هؤلاء أجلس إليهم فأمطرهم بالأسئلة وأصغي جيداً لإجاباتهم وأعارضهم لاستفز منهم ما قد يكون مخبأً في ضمائرهم قد يمنعهم الحياء أو أسباب أخرى عن إبدائه، وكان السيد الفاضل إبراهيم بن علي الوزير من هؤلاء الأساتذة الذين أجلهم وأرى فيهم الفهم والفطنة والمثالية المسلمة في التصرف والتفكير، ثم أخذني العمل بعيداً عن هؤلاء إلا ما ندر سنوات طوال تغيرت فيها أمور كثيرة، فلما أرسيت قاربي التقاعدي في جدة وجعلت جل اهتمامي في القراءة والمعرفة شاءت أقداري أن التقي بالسيد إبراهيم الوزير عند أخي عبدالمقصود خوجة في إحدى ليالي التكريم لأهل العلم التي تبناها هذا المكي ابن العالم المكي المعروف لدى الأجيال السابقة العالم محمد سعيد خوجة رحمه الله وهذا الابن عمل عملاً لا تقدر عليه إلا الجامعات والمؤسسات العلمية الكبرى فله اثنينية عظيمة يكرم فيها كل مرة علما من أعلام العلماء فلله دره وأثابه الله عن هؤلاء وعن العلم جزيل الثواب، ففي أول أمسية حضرتها قابلت فيها أستاذي العظيم الدكتور رضا عبيد فجددت له حبي وفخري واعتزازي به كما قابلت أخي السيد الفاضل إبراهيم الوزير فجددت له محبتي وعلاقة عائلتي بعائلته الكريمة وتذكرنا كل أحبابنا الذين سبقونا للقاء ربنا والدي رحمه الله واخوته رحمهم الله وغيرهم من آل الوزير وآل الشامي وآل حميد الدين الذين نسأل الله لهم المغفرة، أهداني حفظه الله كتابه الرائع "على مشارف القرن الخامس عشر الهجري" وأصر أن يكتب عليه بخط يده المرتعشة اهداءً أعتز به كثيراً وكم شعرت بالحب والفخر والسعادة وأنا أطالع هذا الكتاب الذي يعكس شخصية هذا السياسي والأديب والعالم الجليل وسألخص بعضا مما قرأت على ذلك يلفت انتباه من يريدون أن يتعرفوا على نموذج الرجل المسلم ويجدون وقتاً لقراءته فهو كتاب رائع. الخلاصة: إن الكتاب هو دراسة للسنن الإلهية والمسلم المعاصر، استفتح كتابه بعد البسملة بآية رائعة ككل القرآن وهي قوله تعالى في سورة يوسف: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الآية (108) وهذه الآية تعلمنا (وكنا نعلمها للجوالة عندما كنا في الجامعة) أن الدعوة هي إلى الله أي إلى معرفة الله فإذا عرفناه حق المعرفة عبدناه حق عبادته وقدرناه حق قدره كما يحب ربنا ويرضى ولنفعل ذلك فإننا يجب أن نكون على بصيرة أي على علم وهدى وطريق نعرفه تماماً وسبيل رشد حسب ما جاء في العقيدة الصحيحة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها فنحن نكون أولئك الذين اتبعوا المعلم العظيم والنبي الكريم والرسول الأمين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فننزه ربنا من كل نقص أو شرك ونبرأ من كل من فعل ذلك ولا ننمي إلا إلى الإسلام الصحيح. وقد أهدى أخي إبراهيم كتابه هذا إلى الأجيال المسلمة في هذا القرن "الخامس عشر الهجري" وهو يؤمل فيها أن تصغي للدروس والعبر التاريخية التي مرت على هذه الأمة فتستطيع من خلال معرفتها ومن خلال دينها أن تستخرج المشاعل اللازمة لمسيرتها المستقبلية فتضيء بها الطريق لها ولمن سيأتي بعدها وليكون الأمر كذلك فلابد من العدل والشورى وحب الخير وإقامة ميزان العقل والعمل والفقه لنعمل في سنن الله الكونية فيكون الطريق بيناً للجميع، حركة تحاول أن تتحرر من القيود وتخرج من جور الجمود لتعيد للعقل اعتباره وللإنسان دوره في التعامل مع السنن الكونية، وللأسف إن عالمنا الإسلامي يواجه ظروفاً شرسة من الداخل ومن الخارج وكانت هناك تحركات بين مدٍ وجزر وأمل يحدو العاملين على أن يستمروا رغم كل الظروف لأن هناك من يؤمن بأن الزمن مهما طال فهو يعمل لمصلحة إرادة الشعوب. ولقد وصلت أمتنا إلى أقصى مراحل التمزق والتشرذم وهي لازالت تتعرض لكل أنواع الهيمنة والإذلال وسلب الحقوق والحريات، ولمن يتابع حياة أمتنا الإسلامية لا شك سيتعلم بأن الصحوة قد بدأت منذ أكثر من مائة عام على صوت الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما من الغيورين على هذه الأمة وأبنائها. ولقد اغتيلت هذه الصحوة أكثر من مرة على يد الانقلابات العسكرية وعلى يد الجمود والالتصاق العضوي لكل ما هو سلفي قديم بدعوى أنه الأساس، وقد سلب هذا الأساس حق التطور فكراً ومعنى فلا تأول إلا لعلماء الدين الذين أصروا على تأويل من قبلهم للنصوص بل "وزادوا الطين بلة" بأن منعوا الاجتهاد بكل فروعه وأصوله فعدنا لنعيش بفكر أكثر تشدداً حتى من الذين نزل عليهم هذا الدين فانتشر التكفير والتحريم والاتهامات بالعمالة والعلمانية والماسونية والتغريب وغير ذلك كثير حتى أصبح من يتحدث عن التغيير يخاف على نفسه وأهله وعرضه فقد وجد الكثير من يدعون الغيرة على الدين وحماته ومستعدين لشن حروب شعواء ولديهم كل الوسائل لتأليب الشعوب الجاهلة على كل من يحاول إخراج هذه الأمة إلى نور الحضارة والرقي حتى أصبحنا كأصحاب الكهف الذين هربوا من الظالمين ليحافظوا على دينهم فكانوا آية بنومهم العميق ونحن نكاد نكون كأصحاب الكهف النائمين على إيمانهم ولا يفعلون شيئاً قال عز وجل: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) سورة الكهف الآية (18)، ويقول المؤلف إن من أهم السنن التي يجب اتباعها للخروج من الظلمات إلى النور وليصحوا أصحاب الكهف هو: 1 إقامة العدل بمفهومه الشامل الذي يستطيع أن يقتص فيه الرجل من العامة من أكبر رجل في الدولة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل قبل المعارك فمن له عند رسول الله مظلمة فيأخذها بما فيها، ما له من مظلمة لدى الرسول نفسه فيهب نفسه لصاحب المظلمة ليأخذ الحق لنفسه منه، وليكون هذا المجتمع عادلاً يجب أن يحقق قاعدة أساسية وهي (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية (256) ولا وصاية لأحد على أحد إلا وصاية التشريع والقانون والنظام فالمتدين ليس له أية وصاية على من ليس متديناً فتدينه لا يعطيه هذا الحق أبداً، إنما الحق لمن وضع في يده الشرع ليحكم به فللكل حق الإرادة على حريته الشخصية وعقله وعقيدته وليس بعصبيته ولا قبيلته ولا عائلته ولا حزبه ولا غير ذلك حق يعطيه له فيميزه بشيء عن غيره، ولأن الوقت الآن هو أكثر الأوقات ظلمة فمن هذه الظلمة ينبلج نور فجر هذه الأمة بإذن الله، والحقيقة أنه قد تمثل فينا قوله الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) سورة الجمعة الآية (5). 2 إقامة الشورى في الأمة بمفهوم العصر أن يفهموا مشاركة مندوبين عن الشعب يوكل إليهم أمر الشورى لتطرح هذه المشورات على أولي النهى ليقروا ما يروه محققاً لإرادة الشعب وحق الله والدين والوطن. 3 إقامة الحدود: بعد عمل القوانين التابعة من النصوص وغير القابلة للتأويل. 4 إقامة نظام مالي عادل يهتم بدخل الدولة والفرد والمؤسسات ويكون المال حقا للجميع كل حسب ما أعطاه الشرع المقنن الواضح ولا يؤثر أحد عن أحد لأي سبب كان لأن الإيثار في المال ظلم ويؤخذ حق الله في المال من الأغنياء ليرد إلى الفقراء وإلى الدولة حسب القوانين الشرعية. 5 إقامة العدالة الاجتماعية لتكون المرأة والرجل لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات ولا ننسى أن (للرجال عليهن درجة) ولكن هذه الدرجة حسب التشريع وليس حسب الأهواء لقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة البقرة الآية (228). 6 القوامة للرجال العدول والقوامة لها حقوق كالإنفاق وتحمل المسؤولية كالدفاع عن المال والنفس والعرض والأولاد.. الخ، هذه المسؤوليات التي طالما أراد لنفسه القوامة فعليه تأدية حقها. 7 أن يقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال التنظيمات الإدارية للدولة أما المناصحة فهي حق بين الناس وبين الحاكم أيضاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس خاصاً بالرجال فقط بل لكلا الرجل والمرأة لقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية (71). 8 نحن في الدولة نحكم على ما يظهر لنا دون تجسس أما ما يفعله العبد بينه وبين الله فحكمه قوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) سورة الغاشية الآيات (25 26)، ولا يحكم على أحد بافتراض نيته أن يعمل كذا فذلك تعدٍ على عالم الغيب وظلم للعبد كما قال ربنا: (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) سورة الغاشية الآية (22)، وقوله عز وجل: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) سورة ق الآية (45)، وكذا قوله: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) سورة يونس الآية (99)، وقوله عز وجل: (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) سورة الرعد الآية (40). 9 الأرض كلها لله وكلها كما أرادها الله للناس أن يعمروها، كل الناس سواسية وكلهم أصل واحد ولهم حق التحرك فيها والعمل والدخول والخروج دون معوقات. وأخيراً وليس آخراً يرى المؤلف أن تعمل الأمة بالصبر والإيمان معاً لتصل إلى ما تريده من نموذج رائع لأمة رائعة ومنهج أروع. جزى الله السيد إبراهيم الوزير ألف خير وأسأل الله أن ترى هذه الأمة طريق رشادها لتنهض بشعوبها نحو العلا والعز وتنفي عن دينها الوصمة والعار الذي لحق بالإسلام والمسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.