حاتم الأصم رجلٌ من السلف من تلاميذ الشيخ شقيق البلخي رحمهما الله تعالى ، طلب العلم على يديه ما يربوا على ثلاثون عاما ، فحقق التقوى والتوكل في حياته خير تحقيق ، سُئل في يوم من الأيام : بما حققت التقوى يا حاتم ..؟ فقال : حققت التقوى بأربعة أمور وذكر : علمت ان رزقي لا ياخذه احداً غيري فاطمئن قلبي . وعلمت أن عملي لن يتقنه غيري فاشتغلت به . وعلمت ان الموت يطلبني فأعددت الزاد لذلك اليوم . وعلمت ان الله مطلعٌ علي فاستحييت ان يراني وأنا على معصية . وفي سنةٍ من السنوات اشتاق حاتم الأصم الى الحج ، ولكنه لا يملك النفقة على نفسه ولا على أهله من بعده لأنه سوف يغيب عنه اشهر ، فلما اقترب موسم الحج أخذه الهم والحزن والغم حتى قاده ذلك الى البكاء شوقاً لبيت الله الحرام ، فرأته ابنةً له صغيرة ولكنه كبيرة في صلاحها وتقواها فقالت لأبيها ( ما يبكيك يا ابتاه ) فقال ( الحج أقبل ) فقالت ( وما لك لا تحج ؟ ) فقال لها ( النفقة ) فقالت ( يرزقك الله ) قال ( النفقة عليكم من بعدي ) فقالت ( يرزقنا الله ) فقال لها ( الأمر الى امكِ ) – لأن الأم هي من يتحمل هم البيت والطعام والشراب والمريض وغيرها- فذهبت البنت الصالحة الى امها واخوانها واخواتها وقالت لهم ( والدنا ليس هو الرزاق وإنما الرزاق الذي يرزقنا هو الله تعالى فلندع والدنا يخرج الى الحج ) فما كان من أمر العائلة الا الموافقة لوالدهم في الخروج الى الحج ، فخرج حاتم الأصم وكان قد اعطى أهله من النفقة ما يكفيهم لمدة ثلاثة أيام – لا إله إلا الله ما أعظم هذا التوكل على الله وهو يعرف انه سيتركهم أشهر – ثم خرج يسير خلف القافلة لأنه لا يملك النفقة حتى يكون ضمن القافلة ، وفي طريقهم الى مكة قّدر الله تعالى ان عقرباً تلدغ أمير القافلة ، فاصابه الألم الشديد حتى كاد ينهي حياته ، فقالوا الحاشية ( إن حاتم الأصم الرجل الصالح معنا خلف القافلة فلماذا لا نطلب منه ان يرقي قائد القافلة ) فذهبوا إليه وطلبوا منه ذلك فوافق ، ثم أتى ورقى قائد القافلة فشفاه الله تعالى وعافاه من ذلكم السم ، فقال القائد ( نفقتك في الذهاب الى الحج وفي العوة من الحج عليّ ) فاستبشر حاتم وعمل أن ذلك من فضل الله ثم قال ( اللهم هذا تدبيرك لي فأرني تدبيرك في أهل بيتي )... عباد الله : ننتقل وإياكم الى بيت حاتم ونتأمل ما جرى فيه ، لقد مضى اليوم الأول والثاني والثالث فلم يزدد الأمر إلا سوءً وفقراً وحاجةً ، فأخذت الأم والأولاد يعاتبون البنت الصالحة وقالوا انت السبب فيما نحن فيه وانت التي فعلتي وفعلتي وأخذوا يشتمونها ، ولكنه صابرة واثقة وهي ( تضحك ) وهي تقول في نفسها ( اللهم قد عودتنا فضلك فلا تمنعنا من فضلك ) فقالت أمها ( كيف تضحكين ونحن نتضاوى من الجوع ) فقالت لهم ( هل أبونا هو الرزاق ام انه أكل رزق ) فقالوا ( بل إنه آكل رزق والرزاق هو الله تعالى ) فقالت البنت الصالحة التقية الواثقة بالله تعالى ( ذهب آكل الرزق وبقى الرزاق ) وما هي إلا ساعات وباب البيت يطرق فقالوا من الطارق فقال ( إن الأمير يستسقيكم ) فقالت الأم ( سبحان الله نحن نتضاوى من الجوع وامير المؤمنين يستسقينا ) فما كان منها إلا أن جهّزت إناءً نظيفاً وملأته ماء عذباً ) لأنها تعلم ( وانزلوا الناس منازلهم ) وأمير البلدة كان في رحلة صيد فانقطع الماء عنهم فاصابه العطش الشديد فارسل وزيره الى اقرب بيت فكان بيت حاتم الأصم ، فلما شرب الأمير من ذلكم الماء العذب احس بطعم وعذوبة الماء ، فسأل الوزراء من صاحب البيت ؟ فقالوا ( هذا بيت حاتم الأصم ) فقال الأمير ( الرجل الصالح ) قالوا ( نعم ) فقال ( الحمد لله الذي اسقانا من بيوت الصالحين ) فقال لهم ( نادوه حتى نجازيه ) فقالوا : هو خرج للحج ، فقام الأمير وخلع مِنطقته – أي حزامه وهو من القماش المرصع بالجواهر والدرر – ورمى به لأهل حاتم الأصم وقال لوزراءه ( من كان منكم لي عليه يد – يحترمني – فليفعل صنيعي ) فخلعوا جميعا أحزمتهم واعطوها اهل حاتم ، فقام احد التجار واشترى هذه الأحزمة بمبالغ كبيرة من الذهب واعاد هذه الأحزمة إلى الأمير والوزراء تزلفاً وتقرباً لهم ، فاصبح بيت حاتم الأصم من أغنى بيوت المسلمين ، فاخذوا أبناء حاتم ياكلون ويشترون ما يرودون من الطعام ولكن البنت الصالحة ( تبكي ) عجباً والله لهذه البنت التقية ، فقالت لها الأم ( عجباً لكِ يا بنيتي بالأمس كنا في جوع وفقر وانت تضحكين واليوم وقد أغنانا الله وانت تبكين ) فقالت البنت الصالحة ( هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً نظر إلينا نظرة واحدة بشفقة ورحمة فأغنانا حتى الموت فكيف لو نظر الرزاق إلينا عز وجل ) . أيها المؤمنون : لكم ان تتأملوا في عمق هذه العبارة التي قالتها هذه البنت الصالحة.. لمّا نتأمل في مقولة البنت الصالحة ( هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً نظر إلينا نظرة واحدة بشفقة ورحمة فأغنانا حتى الموت فكيف لو نظر الرزاق إلينا عز وجل ) لوجدنا ان هذه البنت صابرة محتسبة ثابتة على الحق متوكلة على الله لم ينسيها الفقر الله عز وجل . ولم ينسيها ضغط الواقع ربها وخالقها . كذلك لم يغيرها المحيط والبيئة فهي ثابت ثبات الجبال الرواسي على دينها وتقواها تحملت ألوان الشتم والضغوط والكلام والسب . فكانت الثمرات التالية: الثبات على الحق مهما كانت الظروف ، تغير الحال إلى احسن حال فقد أصبح بيت حاتم من أغنى بيوت المسلمين يومئذ . ومن الثمار كذلك أن هذا فيه درس وموعظة للمريض وصاحب الهم وصاحب الدين ان يرتبطوا بالله تعالى فهو الرزاق المعافي الشافي فارج الهم ومنفس الكرب ... أما ( الدرس الأهم في قصة حاتم الأصم) فهو : تحقيق التقوى في حياة الإنسان مهما كانت العقبات والتحديات في طريقه ، وقد رأينا هذا واضحاً وجلياً في حياة حاتم الأصم وأهله وخصوصاً البنت الصالحة وكما قال طلق ابن حبيب في تعريفه للتقوى فقال ( التقوى هي ان تعمل ما يرضي الله على نورٌ من الله تبتغي ثواب الله وتترك ما حرم الله على نورٌ من الله مخافة عذاب الله ) رحم الله الجميع رحمة واسعة . اللهم انصر الاسلام والمسلمين في كل مكان اللهم كن لإخواننا في بلاد الشام ، كن لهم عوناً ونصيرا ومؤيداً وظهيرا يوم قل المعين والناصر