قصد البيت الحرام لأداء أعمال مخصوصة في زمن مخصوص، لمن استطاع إليه سبيلاً، هذا هو الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، الذي فرضه الله تعالى على كل بالغ عاقل مستطيع. يقول عز وجل {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (197 سورة البقرة)، ويقول سبحانه {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (97 سورة آل عمران)، ويقول جل ذكره {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} (27 سورة الحج). وعن الحج المبرور، يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه، ويقول الرسول الكريم (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه. إن لفريضة الحج وفي موسمه وأيامه من الروائع والفضائل ما يعجز عن العد والوصف، بيد أنه يمكن إيراد بعض المواقف والقصص، لاستجلاء بعض الدروس والعبر والفوائد. يقول أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: حججنا مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أول خلافته، فدخل المسجد الحرام حتى وقف على الحجر ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك. وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبدالله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه! قال ابن دينار: فقلت له: أصلحك الله! إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير! فقال عبدالله بن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البرّ صلة الولد أهل وُدِّ أبيه. من هاتين القصتين نفهم كيف يكون التأسي والاقتداء برسول الهدى، وكيف يكون برّ الوالدين بعد موتهما، ويا لها من دروس. رأى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يحمل امرأة عجوزاً على ظهره ويطوف بها البيت الحرام. فسأله: مَنْ هذه؟ قال له: إنها أمي، أتراني قد وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له ابن عمر: والله مهما فعلت بها فلن يعدل ذلك طلقة واحدة طلقتها فيك ساعة ولادتها. الله أكبر، ما أعظم حق الأم وأجلّ شأنها، فيا ليت أن نقوم بذلك الحق على الوجه الذي يُرضي ربنا. كان لحاتم بن الأصم أولاد، فقال لهم: إني أريد الحج هذا العام. فبكوا، وقالوا: إلى مَنْ تكلنا يا أبانا؟. فقالت إحدى بناته: كفوا عن البكاء ودعوا أبانا يحج، فليس هو برازق {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (58 سورة الذاريات). نام الأولاد جياعا وجعلوا يلومون أختهم، فقالت: اللهم لا تؤجرني بينهم. فمرّ أمير البلد بهذا المكان وطلب ماء فناوله أحدهم كوزاً جديداً وفيه ماء بارد، فشرب الأمير فسأله الأمير: دار مَنْ هذه؟ قال: دار حاتم بن الأصم فرمى الأمير قطعة من ذهب، وقال لأصحابه: مَنْ أحبني فعل مثلي، فرموا كلهم مثله. فبكت بنت حاتم الأصم، فقالت لها أمها: ما يبكيك وقد وسّع الله علينا؟ فقالت يا أماه، مخلوق نظر إلينا فاستغنينا وشكرنا، فما ظنك بالله جل وعلا لو نظر إلينا. إلهي لستُ للفردوس أهلاً ولا أقوى على نار الجحيم فهبْ لي توبة واغفر ذنوبي فإنك غافر الذنبِ العظيم حج عبدالله بن جعفر -رضي الله عنه- ومعه ثلاثون راحلة وهو يمشي على رجليه حتى وقف بعرفات فأعتق ثلاثين مملوكاً وحملهم على ثلاثين راحلة، وأمر لهم بثلاثين ألفاً، وقال: أعتقهم لله تعالى، لعله سبحانه يعتقني من النار. هكذا فهم السلف الصالح هذا الشهر الفضيل وهذا الموسم الكريم، موسم الرحمات والغفران شهر التوبة والإنابة والسمو والصفاء. حُكي عن معروف القاضي أن الحجيج كانوا يجتهدون في الدعاء، وفيهم رجل من التركمان ساكت لا يحسن أن يدعو، فخشع قلبه وبكى فقال بلغته: اللهم إن كنت تعلم أني لا أحسن شيئاً من الدعاء، فأسألك ما يطلبون منك بما دعوا، فرأى بعض الصالحين في منامه أن الله قبل حج الناس بدعوة ذلك التركماني لما نظر إلى نفسه بالفقر والفاقة والعجز. قال ابن قيم الجوزيه رحمه الله: عندما كنت مقيماً بمكة، كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تنقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف، وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدة وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه فأجد من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء. نعم، الناس دون رحمة الله تعالى عاجزون ضعفة فقراء مرضى، وبقوة الإيمان وصحة اليقين والاعتماد عليه عز وجل تلبي الدعوات ويشفي المرضى. قال ابن الجوزي رحمه الله: حُدِّثت أن بعض التجار قدم من خرسان ليحج فتأهب للحج وبقي ماله ألف دينار لا يحتاج إليها. فقال إن حملتها خاطرت بها، وإن أودعتها خفت جحد المودع، فمضى إلى الصحراء فرأى شجرة خروع، فحفر تحتها ودفنها ولم يره أحد ثم خرج إلى الحج وعاد فحفر المكان فلم يجد شيئاً فجعل يبكي ويلطم وجهه، فإذا سئل عن حالته، قال: الأرض سرقت مالي. فلما كثر ذلك منه قيل له: لو قصدت عضد الدولة فإن له فطنة، فقال: أوَ يعلم الغيب؟ فقيل له: لا بأس بقصده. فأخبره قصته. فجمع الأطباء وقال لهم: هل داويتم في هذه السنة أحداً بعروق الخروع فقال أحدهم: أنا داويت فلاناً وهو من خواصك. فقال: عليّ به فجاء فقال له: هل تداويت في هذه السنة بعروق الخروع؟ قال: نعم. قال: مَنْ جاءك به؟ قال فلان الفراش. قال: عليّ به، فلما جاء قال: من أين أخذت عروق الخروع؟ فقال: من المكان الفلاني فقال اذهب هذا معك فأره المكان الذي أخذه منه فذهب معه بصاحب المال إلى تلك الشجرة. وقال: من هذه الشجرة أخذت. فقال الرجل: ههنا والله تركت مالي، فرجع إلى عضد الدولة فأخبره، فقال للفراش: هلم بالمال، فتلكأ، فأوعده وهدّده، فأحضر المال. يا لها من فراسة وفطنة وذكاء وحذق. - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية