آمن بالتطوير والتنوير.. وآمن بالكلمة.. بوصفها الخلاص الوحيد للخروج من دوائر العتمة والخوف.. والثبات.. جاء مبكرا إلى الأبجدية فأضاء بها ومن خلالها الفضاء المغسول بالسواد كتب بروح متوثبة.. وذاكرة متوقدة.. أدرك بوعي حاد وجاد معا ضرورة الكتابة بلغة مغايرة ومختلفة ومتجاوزة للخطاب السائد.. كتب «التيارات» الأدبية وفق ما يراه.. وضمن ما يفكر وقدم «رؤيته» النقدية في زمن كان بلا رؤية وفي لحظة كانت بلا بوصلة وقلة هم أولئك الذين كانوا يدركون الواقع ويؤمنون بتغييره إلى ما هو أفضل وأجمل ومضيء. * * * عبدالله عبدالجبار رجل الوعي الأول لم يرتهن إلا إلى الكلمة.. الفعل والكلمة.. الموقف إنه «رمز في المعرفة» وقيمة في الفكر.. وقيمة في السلوك ونموذج للمثقف الذي لا يتلون.. ولا يداهن ولا يتبدل كان بارعا في تربيته.. ورائعا في ثقافته وبين تربيته وثقافته.. ثمة أجيال.. أصبح بعضها في مقدمة الصفوف تلاميذ الامس يضيئون فضاء اليوم.. وكل ذلك بفعل رجل اسمه عبدالله عبدالجبار.. هذا الذي كان «يرى» ما وراء الأفق.. وكانت «بصيرته» لا «بصره» نافذته على الكلمة وعلى العصر. عبدالله عبدالجبار.. واحد.. ووحيد.. مختلف.. واستثنائي.. في زمن قل فيه.. المختلفون والاستثنائيون وكثر فيه الصخب والضجيج والعابرون.. في هذا الزمن العابر. * * * التقيته مرات عديدة فوجدت فيه رمزية الأب وأبوية الرمز.. وفيما هو منحاز إلى القديم هو أكثر انحيازا إلى الجديد. فيه تتجسد النزاهة الشامخة ويتكرس معنى أن تكون نظيفا في الفكر والسلوك، متصالحا مع نفسك فيما أنت متصالح مع الواقع والناس والتاريخ. عبدالله عبدالجبار هو الموقف حيث ينبغي أن يكون وأن يضيء. * * * «الأديب الجديد.. أو بعبارة أعم الإنسان الحديث.. هو قبل كل شيء.. إنسان حديث له عصرية هذا الإنسان وفكريته وشعبيته.. والأديب الجديد اليوم يبحث دائما عن الدم الحار.. عن النبضة الحية.. عن الثقافة النامية في الفكر الإنساني قديمه وحديثه على السواء». * * * هكذا كتب ذات يوم الأديب الكبير الأستاذ عبدالله عبدالجبار في مقالة جميلة ومختلفة ومتقدمة على مستوى الكتابة والرؤية أو هكذا عبر عن ذاته وما كان يحلم به وما كان يتمناه.. كأنما كلماته في هذه المقالة هي تحديد موقفه من الحياة والكتابة والتي تجسدت بشكل أكثر شمولا وأكثر مباشرة وجدة في كتابه المتميز «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» بجزئيه الشعر والنثر، ذلك الكتاب الذي يعد أول كتاب نقدي منهجي على مستوى الجزيرة العربية، كان عملا نقديا يمثل فكرا نقديا مختلفا ووعيا كتابيا مختلفا وأكثر اختلافا في كسر ما هو سائد آنذاك. جاء كتاب «التيارات الأدبية» ليؤسس كخطاب نقدي عبر لغة جديدة لا تفصل ما بين الثقافي والسياسي والاجتماعي لتقدم رؤية نقدية تتجاوز فضاء هذا النص وكأنه لا انفصال البتة ما بين ثقافة الشخص وعالم النص، لا مسافة ما بين الموقف والكتابة، بين الحبر والدم. إن قيمة عبدالجبار تتجاوز هذه الكتابة الآنية والسريعة والاستهلاكية.. إذ ينبغي أن يلتفت النقاد في بلادنا إلى تجربته النقدية الرائدة لقراءتها.. وتقييمها.. ومن ثم دراستها ومحاولة تفكيك خطابه الأدبي وعقد الندوات النقدية للدخول إلى هذه التجربة بوصفها تجربة رائدة علينا أن نستشرف من خلالها المسألة النقدية في بلادنا وجذورها الأولى ثم في استعادة عبدالجبار كحالة استثنائية في سياق المشهد الثقافي المحلي ضمن حالات أخرى عبر تمثلاته الريادية والتي تتجلى عند عبدالله القصيمي ومحمد حسن عواد وحمزة شحاتة وحسين سرحان وأحمد السباعي وحمد الجاسر وآخرين. لقد ظل عبدالجبار صامتا وصامدا في آن وسط هذا الضجيج والصخب.. ظل صامتا بمواقفه التي لم تنكسر بفعل الزمن داخل هذه الانكسارات الشاملة وحالة السقوط التي يراها المرء ما بين وقت وآخر لبعض المثقفين والمفكرين .. ثم إنه ظل صامدا رغم أنه كان بإمكانه ألا يذهب حدا قصيا في الصمود رغم كل الإغراءات. فقد ظل متماسكا وقويا.. ولم يكن من أولئك الذين (امتهنوا).. الكتابة، وبالتالي امتهنوا أنفسهم.. كان منحازا لنفسه حيث ينبغي أن تكون وحيث يجب أن تتعزز بهذه المواقف التي تجعل صورة المثقف تضيء من خلال قيمة هذه المواقف.. ولم يكن عبدالله عبدالجبار مجرد أديب يكتب بلغة متطلبات السوق ولكن بلغة تستجيب لثقافة النخبة والجماهير وتحترم الكلمة الشريفة التي تتجه نحو الإعلاء من معنى الوطنية بالمعنى العميق لهذه الوطنية.. وجعل رسالة المثقف رسالة سامية لا ترتهن للعابر والهامشي وألا يكون هذا المثقف رخيصا أو مبتذلا البتة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة