•توطئة: تقاسمت حياة المربي والمفكر الأديب الناقد البحَّاثة وأستاذ الأجيال الراحل عبدالله بن أحمد بن عبدالجبّار (1336 - 1432ه) -رحمه الله- فصول سنوات ضوئية بين التربية والتعليم / والأدب والثقافة، على امتداد أكثر من سبعين عاما، منذ تخرجه في (كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول) عام 1359ه / 1940م. كان الشوط الطويل المديد الذي وقع (الأستاذ) خطواته الصلبة على دروب مشواره الصعب العتيد يتناهى اندياحًا للتربوي والأدبي مخضبًا بالفكر الذي يتلمس الوعي الجديد البعيد مناله لمن يستشرفه في بيئة بادئة ومجتمع يفتتح السبيل إلى آفاق المعرفة في مستهل مرحلة تحول تاريخي / حضاري نحو الدولة المدنية الحديثة في بلاد تناهز فضاء التكوين وليدة النشأة والتطلع إلى مرافئ التغيير من خلال بناء العقل المتعلم والمفكر المثقف. وفي هذه البيئة والمرحلة كانت نشأة (الأستاذ) في منتصف القرن الهجري المنصرم (الرابع عشر)؛ حيث انفرج انفتاح مديرية المعارف العامة، في نقلة نوعية رائدة، في عهد مديرها المفكر التربوي الوطني الرائد السيد محمد طاهر الدباغ منذ عام 1355ه. وفي هذه المرحلة الانتقالية ولدت صحيفة (صوت الحجاز) عام 1350ه معززة تطور أختها السابقة (أم القرى) التي حلت محل (القبلة) عام 1343ه، كما ظهرت مجلة (المنهل) عام 1355ه، وصحيفة (المدينة) عام 1356ه، وتوالى النشر الأدبي والثقافي بظهور (وحي الصحراء) ورديفه (نفثات من أقلام الشباب الحجازي) عام 1355ه اقتداء بريادة (أدب الحجاز) عام 1344ه، و(المعرض) و(خواطر مصرحة) عام 1345ه. ورافقت المرحلة إطلالة نوافذ المنتديات الثقافية مثل (ندوة جمعية الإسعاف الخيري بمكة) منذ عام 1353ه، ونشأة المعهدين: المعهد العلمي السعودي عام 1345ه ومدرسة تحضير البعثات عام 1356ه، وتطور أدوار النشاط العلمي والثقافي في فلاح جدة المؤسسة عام 1323ه وفلاح مكة عام 1330ه، وتعاطي وتداول الاطلاع على الدوريات الثقافية العربية المتقدمة التي أخذت ترد وتنشر ظلالها في هذه البيئة الجديدة، وتجلي بروز إبداعات أدباء الرعيل التأسيسي الأول في الحجاز وتوهج أصواتهم الأدبية والفكرية في المنابر الثقافية والصحافية، وتأثير حلق العلم في الحرمين الشريفين، ودور المكتبات الخاصة والعامة والمكتبات التجارية في التثقيف، وانعقاد الصلة بالأدب الحديث وأدبائه في: مصر والشام والعراق والمهجر، وتوالي البعثات العلمية إلى مصر ثم سواها منذ البعثة العلمية الأولى عام 1346ه، ثم البعثة العلمية الثانية -التي كان (الأستاذ) أحد أبرز مبتعثيها- عام 1355ه، وقبيل ذلك تكوين وتوحيد (المملكة) عام 1351ه. لقد ساهمت هذه الظروف والعوامل جميعها في بناء تطلع وتكوين الشبيبة التربوية والأدبية الجديدة التي كان (الأستاذ) في عناقيدها المتفتحة، وكان -بحق- من أبرز أعلام العشرة الأوائل الحاصلين على الشهادة الجامعية في تاريخ (المملكة)، على نحو ما كان (درعميًّا) موثق الآصرة بالتربية والتربية الحديثة الواعية، وباللغة العربية وآدابها، وبالفكر والآداب والثقافات الحديثة، وباللغة الإنجليزية المتقنة واللغتين: الفرنسية والألمانية اللتين ألم بقدر منهما، وبالهمة الطامحة نحو شحذ مواهبه الأدبية المستبصرة التي كان يشغلها (الوعي الجديد) واستشراف نافذة (التنوير) في مرحلة التدريس التي استهلها -منذ العام الدراسي 1360ه /1941م- متسلقا الصعود إلى جبل الهندي (قعيقعان) بمكة؛ حيث كان ينتصب المعهدان العتيدان منذ عام 1358ه في ظلال إدارة المربي الرائد والأديب الشاعر وأستاذ الأجيال السيد أحمد بن محمد العربي، ثم استقلال المعهد العلمي السعودي بإدارة (الأستاذ) عام 1366ه. وكان (الأستاذ) -في كل محطات رحلته: المكية والقاهرية واللندنية- متجاوبًا مع حراك النهضة التعليمية والنهضة الأدبية بالعلم والفكر والرأي والأدب والنقد الثقافي متجردًا لأعباء (التنوير) بمفهوم قراءة ونقد الواقع من خلال تجديد الوعي التعليمي والثقافي والاجتماعي. وهكذا كانت رؤيته الفكرية النقدية في نظام ومناهج التعليم العام والجامعي، وطرائق التدريس والنشاط المدرسي، والحراك الثقافي والصحفي، ونظام المطبوعات، وحوار تعليم البنات، ودرس ونقد الأدب وتصديره وصَورَخة الفكر الأدبي في الساعة الخامسة والعشرين، وتحديد ووعي مفهومات الأجناس الأدبية، وكتابة التاريخ، والتفاعل مع التحولات الثقافية واتجاهاتها وتياراتها. وظلت أواصره مع الكتاب والمكتبات فالبحث عن الواقع؛ وذلك ما جرده للحياة الفكرية التي أخلص لها فصول عمره حتى رحيله صباح يوم السبت 4 جمادى الآخرة 1432ه. • المرحلة التربوية: افتتح (الأستاذ) محطات رحلته بالمرحلة التربوية التي استهلها (معلمًا) في مدرسة تحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي بين عامي 1360 - 1366ه؛ حيث أنيطت به إدارة (المعهد) إلى نهاية العام 1368ه الذي أخذ فيه نفسه بالتوجه إلى مصر لاستكمال الدراسة العليا (الماجستير والدكتوراه)، لكنه فوجئ بترشيح نائب الملك في الحجاز (فيصل بن عبدالعزيز) له لتولي منصب مراقب عام البعثات العلمية بمصر (مدير عام البعثات) الذي استتم فيه رسالته التربوية إلى نهاية عام 1374ه متفرغا -بعدها- للمرحلة الثانية الأدبية التي كانت نقلة خصبة إلى آفاق الأدب والفكر والثقافة والإبداع الأدبي والثقافي. على أن المرحلتين: التربوية والأدبية اللتين تشكلت له فيهما (الريادتان) بين أعلام بلاده في النهضتين: التعليمية والأدبية لم تكونا مستقلتين في الزمان لتداخلهما وتواصلهما في رحلة حياته التربوية والأدبية المنتجة المؤثرة في سياق الحركة العلمية الثقافية في بلادنا. ولقد اجتمع له في هذه (المرحلة التربوية) نشاط تعليمي أدبي انجلى له فيه بروز وتألق بين أعلام المربين المجددين والمؤثرين وأعلام الأدب والثقافة. ويذكر له تلاميذه كيف أنه فاجأهم في تدريس اللغة العربية وآدابها بأساليب جديدة مشوقة في تناول ومعالجة دروس العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها وأدبها في تلك الفترة المبكرة من التعليم الثانوي الحديث؟! كانت الطريقة الكلية التحليلية التطبيقية النصية أسلوبًا تفاعليًا بين الأستاذ وطلبته ومادة الدراسة، وكانت قراءاته ومقارباته الأدبية النقدية تستثير استجابة طلبته للوعي الأدبي المبكر الذي توفر على صقل المواهب والإبداعات الأدبية، ووجه إلى استقطابها وتجاوبها مع (ندوة المسامرات الأدبية) التي ابتكرها مدير المعهدين السيد أحمد العربي ونهض بالإشراف عليها وتوجيه نشاطها (الأستاذ)، منذ العام الدراسي 1360/ 1361ه. يقول عنه تلميذه الشيخ أحمد زكي يماني في مقالة له في (عبدالله عبدالجبار: المربي والمفكر والأديب الناقد، تحرير وإعداد فاروق بنجر وحسين الغريبي، ص 10): “والأستاذ عبدالله عبدالجبار هو الذي علمني قراءة الأدب والاستمتاع بالشعر”. ويقول تلميذه الأستاذ عبدالله بغدادي (في كتابه: ندوة المسامرات الأدبية، ص: 21- 22): “ولقد ظهرت له(مثالية) في التربية والتعليم حين أقبل على التدريس.. وكانت طريقة تدريسه شعاعًا من الأشعة التي تتراءى بين حين وآخر فتلقى ضوءًا على الطرائق الشكلية السائدة التي ظللنا نتجرع كأسها ونحن نغدو في ثياب التلمذة البريئة... فلقد تذوقت ثمار التربية الحديثة ورأيت طريقتها الجذابة على يد (الأستاذ).. وكانت دروسه الأولى في التربية وعلم النفس أول مدخل دخلت منه فقادني إلى بحوث فياضة”. ويجمع الأستاذان: عبدالله حبابي وعبدالله بوقس على عبقرية تدريس (الأستاذ) فيقول الحبابي: “كان طرحه التدريسي يقفز على ذلك النمط التقليدي الذي يعتمد على مجرد القراءة الرتيبة أو الحفظ الممل.. ومن هنا كنا نقبل على حصصه بشغف.. لما لأسلوبه من تأثير يبعث فينا مكامن الانتشاء، ويغرس في عقولنا ووجداننا المادة الدراسية”. (المصدر السابق، ص 87)؛ ويقول البوقس: “وأستاذنا شخصية فذة قل أن يجود الزمان بمثلها، درسنا على يده الأدب العربي وتاريخه.. فحببنا في فنون الأدب شعره ونثره، وعرفنا بالأدباء والمفكرين: قدامى ومحدثين... وكنا ننصت إلى درسه باهتمام؛ لأنه كان يخاطب عقولنا وأفئدتنا، ونشعر أن تعبيراته (سيمفونية) جميلة تخاطب وجداننا وأحاسيسنا”. (المصدر نفسه، ص 89). ويومئ تلميذه الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع إلى موهبته التدريسية ودوره في (ندوة المسامرات الأدبية)؛ فيقول: “تعلمت دراسة الأدب العربي من أستاذنا الكبير عبدالله عبدالجبّار.. وكان يتسم بعمق المفهوم لهذه المادة، ومتميزًا في حقل التدريس.. وقد أسهم في إقامة (المسامرات الأدبية) لتحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي.. واستطاع بجهوده الفياضة وحسه أن يعمق مفهوم (الخطابة) وحسن (الإلقاء) وحسن (الكتابة).. كما أدخل (المسرح المدرسي)، وكانت كل هذه البدايات هي التي استطاعت أن تنتج شبابًا -بعد حين- في هذه المجالات”. (المصدر نفسه، ص 11). ومن الأدوار التربوية الرائدة للأستاذ أخذه بالنظريات التربوية الحديثة الجديدة على مجتمعنا التربوي وتطبيقها في (التدريس) و(التربية العملية) في هذه المرحلة التربوية المبكرة. وكان لتأهيله التربوي المميز بين أوائل زملائه التربويين الوطنيين ما أتاح له أن يكلف بتدريس (التفسير) و(التربية وعلم النفس) في (المعهد)، وأن يناط به الإشراف على طلبة التربية العملية، وتسند إليه إدارة (مدرسة المعلمين الليلية بمكة / عام 1368ه). وقد أدخل (الأستاذ) -لأول مرة- نظرية تدريس المحفوظات المعروفة بطريقة (المحو والإثبات) مشجعًا طلابه في (التربية العملية) على تجربتها. وقد أشاد تلميذه د. عبدالعزيز الخويطر بذلك منوهًا بتأثير أستاذه وريادته التعليمية التي أنجبت طلابًا صاروا روادًا في الحركة التعليمية على مستوى التعليم العام والتعليم العالي. (ملف صحيفة الجزيرة، ع 9541، الخميس 23 رجب 1419ه). وفي المحطة القاهرية استقطبه معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية -ضمن أقطاب علماء اللغة العربية وآدابها وأساطين أساتذة الجامعات ومفكريها- ليكون أستاذًا ومحاضرًا عامي 1958 / 1959م؛ فنهض برسالته التربوية الثقافية معرفًًا بتاريخ وثقافة وأدب بلاده، وألقى محاضراته الشهيرة عن (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية)، وكان أول مفكر تربوي وأدبي (سعودي) مثَّل بلاده على المستوى العربي الكبير. وفي هذه المرحلة تجاوب مع الجماعات والمنتديات الثقافية وفي طليعتها رابطة الأدب الحديث الشهيرة، وعين وكيلا لها، وشارك في تشكيل مشروعها وحركتها الأدبية النقدية مع محمد ناجي، والخفاجي، والسحرتي، ومحمد مندور.. وغيرهم من أقطاب تجديد وتحديث الوعي الأدبي، ونهض بسفارة التعريف بأدباء بلاده ونشر فكرهم وإبداع أدبهم هناك. وفي المحطة الثالثة اللندنية -بعد مغادرته مصر- أنشأ بطلب الملحق التعليمي السعودي الأستاذ عبدالعزيز بن منصور التركي مدرسة لتعليم أبناء وبنات السعوديين والجالية العربية، وخطط لمناهجها ومقرراتها الدراسية وتنظيمها التربوي، وكانت نواة تطورت -فيما بعد- إلى أكاديمية الملك فهد الشهيرة. (د. أسامة الفلالي، مقالته في كتاب عبدالله عبدالجبّار المربي والمفكر والأديب الناقد، ص146). وتواصلت هذه المرحلة إلى ما بعد عودته من بريطانيا إلى بلاده؛ حيث أسندت إليه وظيفة مستشار مدير جامعة الملك عبدالعزيز بجدة تلميذه د. محمد عمر زبير، ثم اشتغل -بعد ذلك- مستشارًا لتهامة في إدارة الأستاذ محمد سعيد طيب؛ فكان في كلتا الفترتين ممتشقًا نبراس الثقافة يوجهه إلى أمداء مستشرفيه. وقد أهدى مكتبته النفيسة إلى جامعة الملك عبدالعزيز عند تأسيسها؛ فكانت نواة استهلت بها الجامعة الناشئة حياة المعرفة والثقافة، وتلك أدوار أضاءها الأستاذ في مرحلته التربوية الجليلة. وفي هذه المرحلة التي استحصد فيها (الأستاذ) أشرعت النافذة الأولى على: الأدب والنقد الأدبي، واستقطبته (الصحافة الأدبية) وهو في فجر الشباب، ولكنه كان قد أقبل على الفكر الأدبي والنقدي مبكرًا في تلمس روافد المعرفة الأدبية الجديدة التي فتقت له السبل إلى فضاء الوعي الأدبي الجديد فكان أن شارك في استفتاء مجلة (المنهل) عام 1365ه بمقال قيم (حول تصدير أدبنا)، ثم ابتدر تجربته النقدية الرائدة -بجدارة- في مقالاته أو أبحاثه التحليلية النقدية على (المنهج النفسي)، وهي: (مركب النقص وأثره في الحياة، المنهل: 1366ه)، و(مركب النقص وأثره في بشار، المنهل: 1367ه)، و(الحطيئة والشعور بالنقص، المنهل: 1368ه). ولقد كانت هذه الدراسات التحليلية النقدية على (المنهج النفسي) -بحق- تجربة نقدية طليعية فريدة مبكرة في تاريخ النقد المنهجي في بيئتنا الأدبية -منذ أكثر من ستين عاما- ذلك أن الدراسة الأدبية النفسية لم تكن قد عرفت في المشهد الأدبي -عندنا آنذاك- فكانت في طليعة التجارب النقدية المنهجية التي تسلك في الريادة العربية بين تجارب: العقاد، والمازني، وطه حسين، وأمين الخولي، وأحمد أمين، ومحمد خلف الله أحمد، ومحمد النويهي، ومصطفى سويف. وهذه التجربة النقدية الرائدة كان لها ما بعدها من تجارب نقدية رائدة ومميزة احتضنتها المرحلة الأدبية الناضجة الخصبة في محطة (الأستاذ) القاهرية الغنية المنتجة. (فاروق بنجر، قراءة في تجليات سيرة رائد تنويري، ملف صحيفة الندوة، إعداد حسين الغريبي، ع 13217، 18 المحرم 1423ه). • المرحلة الأدبية: تواصلت هذه المرحلة حين تحرر (الأستاذ) من قيود الوظيفة متفرغًا للأدب والثقافة منذ العام 1375ه؛ حيث اتسع فضاء اتصال أواصره بالحركة الثقافية والأدبية وبأهل الثقافة والفكر والأدب، وانداح له مدار القراءة والبحث والدرس والكتابة والإبداع الأدبي ونقده. وهنا اصطحب آفاق أوقاته في تحبير المقالات والمحاضرات والأبحاث والدراسات، وتدبيج مقدمات الكتب، ومهاجسة الإبداع الأدبي، فكان له إنتاج فكري وافر على مستوى الكاتب والباحث الممعن في: الدقة والعمق والإحاطة والجدة. فمن أبرز إنتاجه في الإبداع الأدبي: قصة أمي (1953م)، وساعي البريد / قصة قصيرة (1953 م)، والعم سحتوت / تمثيلية إذاعية (1954م)، والشياطين الخرس / مسرحية نقدية (1954م). أما أبرز أبحاثه ودراساته التي أرست موقعه الرائد في الدراسات الأدبية والنقدية ففي طليعتها: قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي / مشترك مع د. محمد عبدالمنعم خفاجي (1958م)، والتيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية / الشعر.. محاضرات ألقيت على طلبة معهد الدراسات العربية العالية (1959م)، والجزء الثاني من التيارات / النثر.. فن المقالة / 1960 م (نشر أخيرًا في مجموعته الكاملة)، والغزو الفكري في العالم العربي (1965م)، والنهضة الأدبية في السعودية (1964م).. وسواها. (ينظر: عبدالله عبدالجبّار المربي والمفكر الأديب الناقد، ص20 وما بعدها). تميزت جملة هذه الأطروحات بالتناول المنهجي، وتحري الدقة والعمق العلمي والنقدي، والتماس الإحاطة بالتغطية التاريخية والثقافية للمرحلة أو المراحل، وتحليل القضايا والظواهر، وربط المقدمات بالنتائج، واستخلاص الخصائص والسمات والاتجاهات. وحين أصدر (الأستاذ) بحثه الشهير الجهير (التيارات) كانت أطروحته جزءًا من مشروعه الفكري الذي أعد له معطيات البحث وأدواته قبل سنوات ثلاث، ثم استهله (بقصة الأدب في الحجاز). كان مشروعه ذا رؤية حضارية شمولية مستشرفة تصوبت دراسة الأدب والتاريخ الأدبي في قلب الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وكانت متعينات هذه الرؤية الحضارية الشاملة للوعي الثقافي تقتضي البحث في تاريخ التكوين الحضاري: الاجتماعي والسياسي والثقافي ضمن شبكة العلاقات والمؤثرات في الفكر والإبداع الأدبي. (المصدر السابق، ص 32). ولعل الأمانة تقتضي لفت الانتباه إلى قيمة وأهمية كتاب (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) في سياق تاريخ الأدب الجاهلي وثقافته، وأن البحث لم ينل حظه من اطلاع الباحثين على موضوعه وعلى دور (الأستاذ) في تاريخ الأدب ومباحثه، وأنه لم يظفر بالإنصاف الذي يستحقه من بعض بني جلدته بالقدر الذي شمله به الباحث المفكر والناقد العربي د. نبيل راغب في كتابة القيم (أصول التنوير الفكري: دراسة في منهج عبدالله عبدالجبّار 1995م) الذي توفر على دراسة الإنتاج الفكري (للأستاذ) برؤية علمية مستبصرة أمينة. والحق أنه يجدر الإفصاح بأن القراءات والمقاربات الناقصة لا تفي دور (الأستاذ) حقه في الدراسة الأدبية دون الربط بين أبعاد أبحاثه، ودون استيفاء قراءة (التيارات) بجزءيه، مع تصور ظروف ومعطيات ومؤثرات وظواهر (المرحلة) وعلاقاتها بالبيئة التاريخية والسياسية والثقافية، وأن بعض الأحكام التعميمية المرتجلة حول (المبحث التاريخي الاجتماعي) والمذاهب والتيارات (مسألة الواقعية) ينبغي أن تتحرر من أسر (المصطلح) بمفهومه المذهبي الأيديولوجي السائد واختلاق مثل (النقد الواقعي) وهو ما لم يكن له ثمة موقع مستتب في مساق المناهج النقدية. ولعل ممن فطن إلى قيمة وأهمية (المبحث التاريخي الجغرافي الاجتماعي) المطول في مستهل (التيارات) وأن له (موقعًا جديرًا من الإعراب) هو د. عبدالعزيز السبيل في مقاله المستقرئ المنصف (عبدالله عبدالجبّار والتيارات الأدبية، المجلة الثقافية، صحيفة الجزيرة، ع 90، الاثنين 22 ذو القعدة 1425ه، ص 12)، وقد وفق في تحليل منهج الباحث، واستقراء رؤيته التنويرية الوطنية والقومية ونزعته النقدية الملازمة لرؤيته في معالجة المذاهب أو التيارات والنصوص الممثلة لها، إلى غير ذلك من الاستنتاجات الصائبة. على أن الجهود النقدية الشاملة المؤثرة التي توفر عليها (الأستاذ) في مرحلتها وأوليتها وعمقها ونقلتها النوعية وتجاذبها الرؤية الشمولية نحو: النقد الفني والثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي هي التي أولته التقدير الريادي واستنطقت لشخصيته اللقب المتموج (شيخ النقاد - السعوديين) الذي لم يرقص له (الأستاذ) وأصر أن يبقى اللقب متفردًا بتميزه المرصود لزميله وصديقه الناقد العربي الكبير (محمد مندور). ولا تزال بقية أبحاثه ومقالاته ومقدماته -التي جرى الإلماع إليها- مغيبة عن الدراسة التحليلية المعمقة التي تستجلي دوره الفكري والنقدي ضمن سياق جهوده الكلية المتصلة في تاريخ الأدب ونقده. ولقد تناوله محمد العوين ضمن كتّاب (المقالة) في أطروحته (المقالة في الأدب السعودي الحديث: 1343-1400ه)، واستعرض حسين الغريبي جملة (مقدماته) في مقالة له بعنوان (إضاءات حول المقدمات الأدبية لشيخ النقاد عبدالله عبدالجبار) ضمن (عبدالله عبدالجبار المربي والمفكر والأديب والناقد، ص 50). إن الفكر النقدي أو ما أطلق عليه د. نبيل راغب (العقل النقدي) الذي انطبعت عليه شخصية (الأستاذ) التربوية والثقافية ظل يلازم اقتفاءه: الرؤى والأفكار والقضايا؛ حيث يحتكم إلى رؤيته التنويرية المتجاذبة مع تداعيات الوعي التجديدي إما بالتقويم أو التصحيح أو دواعي التغيير المستشرف. وكانت طبيعة (الناقد) تتراءى وتطل في كتاباته ودراساته، حتى في أعماله الإبداعية الأدبية على نحو ما صدرت عنه مسرحيته المبكرة المؤثرة (الشياطين الخرس/1954م) وتمثيليته الإذاعية الهادفة (العم سحتوت /1954م)؛ وهما من إنتاج المرحلة الأدبية الرحبة. فتجربة العقل النقدي التي تجسد شخصية (الأستاذ) الفكرية -كما جرى الإيماء إليها في مقالة سابقة (عبدالله عبدالجبار المربي والمفكر والأديب الناقد، ص39- 40)- متماسة مع الفكر التنويري فيه؛ لأن سمة المفكر التنويري انطلاقه من عقل نقدي يتجاوب مع الحقيقة والحق وتغيير الواقع إلى المستشرف. وفي دراسته المتجاوبة مع عبدالله عبدالجبار يؤكد الناقد العربي د. نبيل راغب على رسوخ (العقل النقدي) في منهجه، وأنه ضرورة ملحة لأية ثقافة معاصرة. يقول د. راغب: “وهذا العقل النقدي ينهض على التمحيص والتحليل والتفسير والشك المنهجي وإحقاق الحق في ضوء موضوعي متجرد تمامًا من الأهواء الشخصية أو الميول الذاتية أو ضغوط اللحظة العابرة”. (كتابه السابق، ص13) ويستنتج د. راغب من دراسة (التيارات) و(الغزو الفكري) و(قصة الأدب في الحجاز) أن العقل النقدي عند عبدالله عبدالجبار نقيض العقل التبريري والعقل الآلي والعقل الانتهازي الدعائي. يقول (ص14): “إن العقل النقدي هو الذي يتجاوز اللحظة الراهنة، ويتسلح بالرؤية الحضارية التاريخية التي تنظر إلى الواقع كتاريخ، ولا يزور الحقائق، ولا يقصر في استخلاص الدلالات”. ولقد جرد د. راغب آليات دراسته التحليلية المعمقة لمنهج عبدالله عبدالجبار الفكري؛ فخلص إلى أن أصول التنوير الفكري تأسست في نسيج منظومة مترابطة متمثلة في: منهج التنوير الحضاري/ ومنهج التنوير الثقافي / ومنهج التنوير النقدي. وفي الدراسة -بعد ذلك- إجابات للكثير من الأسئلة التي دارت حول منهج (الأستاذ) في بحث تاريخ الأدب والثقافة وفي الدراسة الأدبية وأبعاد العلاقة التواشجية، وذلك بدراسة المؤثرات الاجتماعية والتاريخية والحضارية والبيئية على الأدب الذي تنتجه بقعة ما من بقاع الأرض؛ على حد قول د. راغب (ص15)، وذلك ما حمله على أن يعد (الأستاذ) من رواد علم الاجتماع الأدبي، وهو ما لم يفطن إليه باحث قبله أو بعده. وهو ما يوثق الرؤية الفكرية الشمولية لمفكرنا التربوي والأدبي الناقد والمثقف الموسوعي الذي أخذ نفسه بالثقافة الموسوعية في النظر إلى المعرفة، فأمكن له أن يحيط منهجه وموضوعه بأبعاد نظر واسعة وعمق موضوعي دقيق. وعبدالله عبدالجبّار الناقد -ورائد النقد المنهجي عندنا- قد أكسبته هذه النظرة الموسوعية أفقًا رحبًا في الدرس والتحليل والنقد، وهو -منذ أبحاثه التحليلية المبكرة السابقة على (المنهج النفسي) وفي مدار حركة (مرصاد الفلالي) و(مرصاد المرصاد)- قد عمل (بخبرته النقدية) على نقل النقد الصحافي السائد من مستوى (النقد الجزئي) و(الرؤية الانطباعية) إلى مستوى (النقد الكلي) المبني على المناهج والمقاييس النقدية. وقد هداه سجاله الفكري والنقدي إلى ارتياد مجال (النقد الثقافي) قبل أن يشيع في البيئيات العربية المركزية وينجلي له توجه في مشهد البيئات المبتدئة والنامية. هو في بحثه القيم الرائد في مجاله المبكر (الغزو الفكري في العالم العربي) يرود السبيل نحو (النقد الثقافي) مفكرًا نقديًا يطرح السؤال في سياق الإشكالية التي تتطلب الحل في جوابه التحليلي المعلل؛ فيعرِّي ويناقش ويتلمس تقويم الحركات الثقافية، وينحو ويوجه إلى بناء استراتيجيات للدفاع عن المقومات الثقافية للأمة. (ينظر: فصل الاستعمار الثقافي، ص 12 وما بعدها؛ وفصل كيف نقاوم الغزو؟، ص77 وما بعدها). وينحو إلى مثل ذلك في مقالاته: (من مشكلات الأدب الحديث) و(الكاتب والمجتمع) و(الأديب الجديد)، ويعرف بأدب بلاده في مرحلة التحولات الثقافية في مقالته المكتنزة المبكرة (النهضة الأدبية في السعودية) التي نشرها في مجلة المصور المصرية (1964م). وهو في مقدماته للكتب ودراسات الأدباء والنقاد والدارسين ذلك الناقد والمفكر النقدي، وتشهد له على ذلك مقدمته المطولة المستفيضة الممتلئة لكتاب الناقد العربي الجهير مصطفى عبداللطيف السحرتي (الشعر العربي المعاصر على ضوء النقد الحديث)، ومقدمته للرواية السعودية الرائدة (ثمن التضحية) لرائد فن القصة حامد دمنهوري، التي كانت قراءة نقدية تحليلية مستبصرة وجهت الأنظار إلى القيمة التاريخية والفنية التي حققها المربي الشاعر والقصصي الرائد في فن السرد الروائي عندنا، وكانت مدخلًا رصينًا الإضاءة للولوج إلى عوالم ومشاهد الرواية. وهو في نقده أو دراسته في (التيارات) يستنطق (النصوص) قبل تصنيفها في إطارها الفني أو ظواهرها المعنوية واتجاهاتها ونزعاتها. وقد أبرز لنا -ولأول مرة- القيم الفنية والفكرية والنفسية للإبداع الأدبي في مرحلة التحولات الثقافية التي مهدت لتطور الأدب ونظريته ونقده في حركتنا الأدبية، وكان نموذجًا للأمانة والنزاهة الفكرية والنقدية، والضمير الوطني الذي حقق المثير والاستجابة، ولقي نقده النزيه المخلص ترحيبًا وتجاوبًا وطنيًا ساهم في تطوير جملة من المجالات في النهضتين التعليمية والأدبية وغيرهما. على أن أظهر ما طرحه منهج (التيارات) ذلك التحول أو التطور من منظور (دراسة الأدب في ظلال التاريخ الأدبي) إلى (الدراسة النصية الداخلية) أو ما طرحه ويليك وأوستن في سِفرهما القيم (نظرية الأدب) - وهو (الاتجاه الداخلي لدراسة الأدب)، مع وعي لنظرية (النقد الجديد) الذي ترسمه بروكس ورانسوم وزملاؤهما؛ فحاول إشاعة أو طرح منهج حديث في نظرية الأدب، بعد أن كان الاتجاه التقليدي السائد على صعيد الدراسة الأدبية والمناهج والمقررات المدرسية هو (الاتجاه الخارجي لدراسة الأدب). وهكذا، فقد كان الدور الذي نهض به صاحب (التيارات) متفردًا ومتميزًا حتى على مستوى جملة الأبحاث والدراسات التي أعقبت (التيارات) واستلهمت فتوحاته المنهجية والنقدية، وتعرفت على مصادر ومراجع الأدب وتاريخه ومعطيات ومرجعيات دراستهما، واستضاءت بالمشاعل التي أنارها البحاثة والناقد الكبير. (عبدالله عبدالجبار المربي والمفكر والأديب الناقد، مقالة الكاتب، ص 39). وبعد؛ فإن صاحب الريادة الفكرية: التربوية والأدبية مفكر تربوي وأدبي شغل عمره الوطني المديد (رحمه الله) قارئًا وكاتبًا ومبدعًا، وباحثًا جادًا، وعقلًا نقديًا لناقد موهوب ظهر في البواكير النقدية؛ فبسط مهاد النقد العلمي، وأسس للنقد المنهجي نموذجه المبكر قبل ولادة الأكاديمية والنقد الأكاديمي -عندنا- بوقت طويل؛ فكان تأثيره في الأجيال الأدبية يفوق الدور الأكاديمي المتأخر الذي وطأ له (صاحب التيارات) الأكناف ومهد السبيل.