علم تفرد في كتابة النقد الحديث في الجزيرة العربية، ورصد برؤيته العميقة التيارات الأدبية والثقافية في المشهد العربي، فقد تعرف فقيد المشهد الثقافي الأديب عبدالله عبدالجبار – رحمه الله – على المناهج النقدية الحديثة منذ وقت مبكر من حياته الثقافية التي تماهى التعليمي والتربوي فيها بالنقدي والثقافي، وإذا كان أستاذ النقد الحديث في الحجاز أدرك بعبقريته كنه التيارات النقدية في العالم العربي، وما تحمله من تحولات اجتماعية وثقافية، ليصنع من خلالها مرصده النقدي الخاص الذي نظر من خلاله بوعي مثقف وعمق ناقد وبصيرة مستشرف للتيارات النقدية في الجزيرة العربية، إذ تجاوز في نقده وأدبه وما كتبه أسطح المصطلحات، ووصف التيارات، ومسالك الاتجاهات النقدية إلى ما هو أشمل وأعمق، بما قدمه من نقد التي قادته إلى ريادة نقدية استثمرت أصالة التراث، ووعت النقد الثقافي الحديث، رصد من خلاله الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.. واضعا بذلك بناء مختلفا تميز به عن مجايليه ليكون بذلك (مؤرخا حقيقيا لحركة النقد والأدب في الجزيرة العربية) مما جعله حينها (شيخ النقاد) ومؤسسا لبواكير حركة النقد الثقافي في المملكة.. بواكير تجاوزت مرحلة ما تعارف عليه من نقص البدايات، إلى مقدمات نقدية أشبه ما تكون بالأسس العملية للنقد الحديث في المملكة.. ليصبح كل أس منها بمثابة حجر زاوية لدراسات نقدية حديثة، لا تزال حتى يومنا هذا تشكل مساحات خصبة للنقد، ومعالم يصف من خلالها مزيدا من مسالك النقد الثقافي، عطفا على ما حمله من مشاعل النقد التنويري في فترة ثقافية تضاريسها وعرة.. ومسالكها محتدمة.. وتياراتها الثقافية متزاحمة متعانفة.. إلا أنه مع هذا وذاك استطاع أن يكون (عراف النقد الحديث) صاحب صناعة نقدية حديثة، ورسالة تنويرية مشرقة، لتظل بواكير نقده متنامية سامقة شامخة بشموخ عطائه.. كانت وما تزال كما حسبها بمثابة معالم ومشاعل على دروب النقد، وضعها ليهتدي بها الدارسون، وخطوطا تنسج خيوطا نقدية معاصرة، كانت كافية أن تجعل من اختياره للعزلة، اختيارا لمطل مختلف على المشهد الثقافي، ومن صمته ما تنطق به دراسات النقاد، وكشوف الباحثين في النقد والأدب.. يقول عبدالله عبدالجبار في مقدمة كتابه ( التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) : وحسبي أنني وضعت معالم ومشاعل على الدرب، ليهتدي بها الدارسون، وحسب أنني استخرجت شيئا من كنوز هذه القارة المجهولة، ورسمت خطوطا عامة وزوايا خاصة، كل خط أو زاوية منها يمكن أن يفرد بدراسة مستقلة. د. محمد الحارثي: كتاباته رصد شامل لمرحلة في وقت شحت فيه الكتابات النقدية الحديثة د. عبدالله الغذامي: كانت علاقتي ب (شيخ النقاد) مختلفة.. وقد تأثر به طلابه والأساتذة العرب الناقد والكاتب الدكتور محمد بن مريسي الحارثي، استهل حديثه عن رحيل عبدالله عبدالجبار، بالدعاء له بالرحمة والمغفرة، مشيرا إلى أن عبدالجبار يعد مؤسسا للحركة الأدبية والنقدية في المملكة، بدءا برؤيته التعليمية في التأليف التعليمي، ثم من خلال إسهامه ومشاركاته في الحركة الأدبية والنقدية العربية، سواء في المرحلة التي كان فيها بمصر، وعبر المرحلة التي تلتها بعد قدومه من مصر إلى المملكة. ويقول الحارثي: عبدالله عبدالجبار من الرواد، ولا أقصد هنا بالريادة التي تعني الأولوية الزمانية، لكني أعني بالريادة هنا ريادته الأدبية والنقدية، فكتابه ( التيارات النقدية في قلب الجزيرة العربية) نشره في وقت شحت فيه المؤلفات النقدية عن التيارات النقدية في الجزيرة العربية، ليصبح هذا الكتاب مفتاحا لشخصية عبدالجبار، في إطلالته على المذاهب الأدبية التي بدأت تفد إلى الساحة الأدبية والنقدية في المشهد العربي، كما يعد – أيضا – كتابه مفتاحا لشخصية باحث وفاحص ومدقق، فليس هناك فيما كتبه بعد عن مزاج العصر الذي عاش فيه، فعندما كتب هذا المصنف كان مزاج العصر يداخل بين الجديد من المذاهب والاتجاهات الأدبية وبين التراث الذي بدأت النهضة العربية تنظر إليه على أنه الكنز المنتمي الأصيل، الذي ينبغي أن يحيا عن طريق تحقيق كتب التراث البلاغية والنقدية بدءا بجهود ابن سلام فالجاحظ وابن قتيبة وغيرهم.. من الذين أسندت إليهم حركة النقد العربي الحديثة بوصفها مؤصلات للانطلاق إلى آفاق النقد الحديث. وأضاف د. ابن مريسي، بأن الفقيد عندما اشترك مع الدكتور محمد عبدالمنعم خواجي، في قراءة بعض الشعر الجاهلي، لم يجده بمستوى التيارات الأدبية، معللا ذلك بأن التيارات الأدبية حينها كانت تتسم بعنفوان التحدي، وعنفوان قوة البحث، وحب التطلع إلى الجديد والمفيد.. معرجا على ما تميزت به كتابات عبدالجبار بعد ذلك من النثرية السردية، والأخرى التي تمثلت فيما كتبه من آراء وأطروحات مما كان يطرحه بين الفينة والأخرى في المجلات والصحف ، بأنها كانت تعكس رؤية باحث متعقل في كل ما طرحه، وتكشف عن رجل ناقد لديه لطافة التناول، إلى جانب عمق ما يعرضه من أفكار نقدية وأدبية، وخاصة في تلك الكتابة التي تخصه عندما يكتب منفردا عن غيره. علي العبادي: فقدنا برحيله قامة أدبية شامخة.. وأستاذاً من رواد النقد العربي الحديث د. عبدالله مناع: ربما نعوض بناقد يوماً ما.. إلا أن ما لا يمكن تعويضه عبدالجبار القيمة ومضى د. الحارثي عن فقيد المشهد الثقافي قائلا: عبدالله عبدالجبار كان المزاج الذي دفعه إلى الإسهام مع كتاب العصر، هو ما تميز به عصره من جهابذة وقمم كبرى في مصر من تنويريين وغيرهم، إلى جانب حركة النهضة الفكرية والأدبية العربية الواسعة، التي أتاحتها الدراسات الجامعية العربية الحديثة، والتي اتسعت في غير نهج من نهوج النقد، لذا فعندما نبحث عن بداية معرفة اتجاه النقد النفسي، أو الاتجاه الأسطوري، أو الاتجاه اللغوي.. قبل زمان البنيوية وما استتبعها من حركات أدبية وفدت إلى مصر وإلى عامة البلاد العربية، وعبدالجبار في قوته وفي فتوة إرادته في مواجهة المشكلات الأدبية والنقدية آنذاك. واختتم د. الحارثي حديثه عن فقيد المشهد الثقافي، بما كان لديه من أمل أن يختار موضوعا عن ( عبدالله عبدالجبار الناقد) لاحد طلابه أو طالباته في مرحلتي الدراسات العليا، وخاصة بعد أن اجتمعت مؤلفاته إلى جانب ما اجتمع عنه من دراسات نقدية، مشيرا إلى أن ما قدمه الأستاذ حسين بافقيه في دراساته عن الراحل، تعد مفتاحا لمن أراد أن يدرس عبدالجبار، إضافة إلى نتاج عبدالجبار الذي تم جمعه وطباعته. لم يكن الفقيد مع اختياره العزلة كمطل آخر على المشهد الثقافي المحلي، كما يبدو في ظاهر الأمر لأول وهلة، إذ هناك من التواصل ما يكشف عن جانب آخر من شخصية (شيخ النقاد) الاجتماعية التي تأتي – أيضا – في سياق التواصل الثقافي مع الآخرين، مما جعله متواصلا مع صحب لم يكن لعبد الجبار اعتزالهم، وبادلهم حبا بحب ووفاء بوفاء.. ليظل حاضرا معهم حتى في أشد مراحل اعتزاله للمشهد المحلي، مما يدل على أن فقيد الأب والنقد لم يعتزل مجتمعه الحقيقي الذي يحسن كسر عزلته والالتقاء به ولو حول منبر تعليمي أو أكاديمي، إذ هو معلم وموجه تربوي مثقف، فقد ترك في هذا المضمار عن تلك السنوات التعليمية والأخرى الخاصة بالبعثات إضاءات تؤرخ لجانب من التعليم والتربية وتحضير البعثات في بلادنا. وفي هذا السياق تحدث الناقد والكاتب الدكتور عبدالله الغذامي، فقد تحدث عن رحيل الأديب عبدالله عبدالجبار قائلا: رحمه الله وتغمده برحمته، فلقد كان أستاذا للأجيال، وهو أول من فتح مجال النقد الأدبي الأكاديمي في محاضراته في المعهد العالي للدراسات العربية بالقاهرة، وكان العمل ذاك رائدا في حينه، وهو الذي أحاله لأن نصفه كلنا ب (شيخ النقاد) وهذا هو المصطلح الذي كان يتردد بيننا حوله، وتصاحبت بعد ذلك أعماله الأخرى في المسرح وفي الكتابة الأكاديمية والفكرية، وهناك جانب آخر في عبدالجبار، وهو ان مجلسه دائما كان مجلس علم وحوار، وثقافة. سعد البواردي: رحيل المبدع (البانورامي) عنا رحيل في شهادة حياة.. لا شهادة موت د. عالي القرشي: آثر العزلة متخذاً منها مرصداً آخر لقراءة آليات إنتاج النصوص وبيئاتها وعن العلاقة الثقافية والأخوية بين الغذامي والراحل عبدالجبار، يقول د. الغذامي: شرفت باستضافته في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جدة، حينما كنت رئيسا للقسم في الفترة ما بين 1400-1403ه ، وكان الأستاذ حينها يعمل مستشارا في الجامعة، وكنت أدعوه إلى القسم ليتقابل مع الطلاب والأساتذة في جلسة علمية مفتوحة لكي يراه الطلاب مباشرة.. مثلما كنت أدعو شيوخ الأدباء في جدة في ذلك الحين في دعوات متواترة.. إذ كان الأستاذ عبدلله عبدالجبار أحد هؤلاء.. ومع أنه كان شديد العزوف عن المشاركات غير أن علاقتي به بلغت في المحبة والتفاعل، جعلته يخصني بالاستجابة لطلبي، في حين كان يعتذر من الآخرين. واختتم د. الغذامي حديثه مشيرا إلى أنه يعتقد بأن حضور شيخ النقاد إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب آنذاك، قد ترك أثرا كثيرا على الطلاب، وكذلك على الأساتذة العرب المتعاقدين مع الجامعة.. مستعرضا ما كانت تتسم به تلك اللقاءات من فوائد ثقافية وعلمية كبيرة، ومؤكدا على أنه لم ينس لفقيد المشهد الثقافي أبدا ذلك الموقف الكريم والتجاوب النبيل.. قائلا: ها هو يرحل اليوم عنا، لذا فإنني أشعر بأن الدعاء له والترحم عليه، هو الخير الذي يجب أن نفعله جزاء مواقفه النبيلة تلك. كما ذكر الناقد والكاتب الأستاذ علي العبادي، بأن رحيل قامة نقدية وثقافية بقامة عبدالله عبدالجبار، ليست بالخسارة التي يمكن تعويضها في المشهد الثقافي على المدى القريب، لما تفرد به نقد عبدالجبار وأطروحاته الثقافية والفكرية من خصوصية التفرد النوعي، إلى جانب ما يكتنزه نقده من أصالة تستثمر التراث برؤية ناقد مجدد، قرأ بعلمية شاملة ما شهدته الساحة العربية من اتجاهات نقدية معاصرة، واستظهر كوامن التيارات النقدية التي استظهر حركتها ثقافيا واجتماعيا، بأدواته النقدية الخاصة. واختتم العبادي حديثه مؤكدا على أن المشهد الثقافي فقد أستاذا أديبا ورائدا ناقدا، استطاع أن يجسد لنا الحراك الأدبي والثقافي في مرحلة أدبية وثقافية هامة، وأن يسهم بكتاباته النقدية، في إشعال جذوة الحركة النقدية في بلادنا.. فمن يقرأ ما كتبه الفقيد عن التيارات النقدية في الجزيرة العربية، إلى جانب ما كتبه عن الغزو الفكري، وما دونه عن قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي، وما عرض له في مقالاته النقدية المختلفة، يدرك مدى ما تمثله هذه الشخصية من غزارة علمية، ووعي متجدد بالأدب وفنونه، والنقد ومدارسه واتجاهاته.. إلى جانب ما تعكسه كتابته من متابعة دقيقة وقراءة مستنيرة للتحولات التي شهدتها ساحة النقد في العالم العربي عامة، وفي الجزيرة العربية خاصة. من جانب آخر قال الكاتب والناقد الدكتور عبدالله مناع عن رحيل عبدالجبار: قلت ولا زلت أكرر ما قلته، بان الأديب عبدالله عبد الجبار يشكل ركنا في ثقافة هذا البلد، فقد يمكن أن يكون بوسعنا استبدال بعض الأشياء في حياتنا ومن ثم تعويض ما فقدناه أو بعض ما نفقده، إلا أن عبدالجبار كان ركنا ثقافيا حقيقيا، ومن هنا وكما نعلم فالركن إذ ما عرفنا بأن الركن الحقيقي هو أقوى الشيء، فمن هنا نقول بأن الراحل كان بمثابة أحد الأسس الثقافية، ففقده حقيقة كان مؤلما إلى حد بعيد وخسارة إلى أكبر الحدود.. المشكلة كامنة في أبعاد الحياة بأطوارها المعروفة، إذ المشكلة مع مرور الزمن، بأن الناس يكبرون، ومن ثم فالهرم يصيبهم، والشيخ عبدالله عبد الجبار في آخر أيامه أصبح في حالة من المعاناة مع التعب الكبير، ولم تجعل منه السنون ذاك الذي عرفناه، لكنه الفقيد يظل ( القيمة) تلك القيمة التي ستبقى، فإذا ما كان بالإمكان ذات يوم أن يعوض عبدالجبار بكاتب من هنا، أو ناقد هناك..إلا أنه من المؤكد أنه لا يمكن تعويض الفقيد كقيمة فكرية كبيرة. وأضاف د. المناع بأن أستاذ النقد، كان من أشجع من كتب، موضحا بأن الشجاعة هنا لا تعني كتابة التاريخ الثقافي فقط، وإنما التاريخ الثقافي في ظل وضعه السياسي، إذ يمكن أن تتجلى لنا فيه بعد ذلك مدى شجاعته، وعمق جرأته في رصد الحركة الثقافية بمداده الناقد الثاقب، مؤكدا على أن كتابه ( التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) بمقدمته العظيمة، يشكل حجر الأساس فيما صنعه الفقيد. وقال د. المناع: في اعتقادي أن كتابه هذا أشبه ما يكون بكتاب (سري) عطفا على ما صحبه خلال الفترة التي ألفه فيها، إذ لم يطلع عليه الجيل في المشهد الثقافي بالمملكة في حينه، باستثناء المقربين من عبدالجبار، أو ممن هم على تواصل معه بشكل مباشر في الساحة الثقافية، لتأتي قراءة الكتاب في مرحلة متأخرة من تأليفه، ليتحول الكتاب بشهادة من قرائه بعد ذلك بأنه أشبه ما يكون بالمفاجأة الكبرى، أن يكون بيننا في المشهد الثقافي أديب وناقد بهذا المستوى، من الوعي ومن الفكر والتقدم، ومع أن كتابه هذا كان عبارة عن محاضرات ألقاها في مركز الوحدة العربية، إذ كان مما هدف إليه عبدالجبار آنذاك، هو تعريف الأجيال بأوطانها العربية التي كان محتملا أن تتوحد بصورة أو بأخرى، ليأتي كتابه بعمق ورؤية مستفيضة شاملة، نجد فيها السياسي إلى جانب الاجتماعي إلى جانب الاقتصادي، لتتمثل فيه كل المكونات الثقافية للأمة، وتصور مرحلة للأجيال القادمة. واختتم المناع حديثه، معرجا على عدد من جلسات عبدالجبار الأخيرة، وخاصة في السنتين الأخيرتين، بأنها كانت مع كل ما زاحم الفقيد فيهما من ظروف صحية، إلا أنها كانت أشبه بحلقات الإبداع، والإضاءات التي تنبعث بين جلسة وأخرى.. ليرحل عبدالجبار مع أولئك الذين مروا على الأرض، وعبروا أيامها تاركين للأجيال القادمة بصماتهم الخاصة بإبداعاتهم التي لا ينطفئ وهجها. كما وصف الأديب الأستاذ سعد البواردي، بأن شخصية عبدالله عبدالجبار شخصية ريادية بفكرها، وفي أخلاقها، إذ يعتبر فقده خسارة لا تعوض، مشيرا إلى أن المرحوم – بمشيئة الله - هو أحد أولئك الذين أسسوا في وطننا الغالي لثقافة الفكر، من خلال نضج تميز به، وعبر ما تميزت به أطروحاته من صدق في مجالنا الفكري، وبالذات الشعري، واصفا ما قدمه لمشهدنا الثقافي بأنه أشبه ما يكون بلوحة ( بانورامية) تعبر عن واقع مرحلة تاريخية فكرية في المملكة. وقال البواردي: إن رحيله بالنسبة إلينا، هو فقد لرائد استطاع أن يعطي لنا بوحا يحمل الحكمة في مضامينه، ويحمل الصراحة في تعابيره، ويحمل الصدق في تفنيده للحركة الشعرية والفكرية في بلادنا، لذا فإن شخصا كهذا غيابه عنا ما هو إلا غياب جسد، ولكنه لا يغيب أبدا عنا بما أعطاه لنا من أثر على الساحة الثقافية والأدبية، إذ يجيء رحيله عنا رحيل في شهادة حياة لا شهادة موت. ومضى البواردي في حديثه قائلا: إن الذين يرحلون في عالمنا، وفي كل العالم وما أكثرهم! يعدون خسائر لا يمكن تعويضها، سيما حينما يكون لهم صفة الإبداع، والقدرة على الإمتاع، وصفة الإشباع فيما يطرحونه عن أوطانهم وعن أفكارهم وعن مجتمعاتهم، لذا فإنه لا شك لدينا بعدم رحيله، كما لا يمكننا أن نعتبر الفقيد قد تركنا ورحل عنا، وإنما نقول رحل عنا جسدا، تاركا لنا ثروة من الفكر ومن الصدق، هي في تصوري أنها له وسام شرف لحياة كريمة نعتز بها. لم يكن صاحب التيارات النقدية، كغيره ممن مروا على خارطة الحركة النقدية في العالم العربي، إذ كان عملاقا يزاحم بالمناكب عمالقة النقد الذين عرفهم المشهد العربي، في فترة شهدت فيها الساحة العربية تحولات نقدية، التي كان عبدالجبار قد أتقن قراءتها ووعى مسالكها بالتتلمذ على أيدي قامات عربية في النقد، وما أعد له العدة بقراءته المتعمقة الشاملة، التي هيأته إلى معرفة علمية بالمناهج النقدية والفلسفية الحديثة.. لتصبح كتابه عن ( التيارات النقدية في قلب الجزيرة العربية) خلاصة تجارب تعليمية تربوية وثقافية اجتماعية ونقد وسياسة مما قرأه واستظهره وكتبه خلال سنوات من عمر الثقافة العربية، مما جعل من هذا الكتاب – أيضا – كشافا لشخصية صاحب التيارات لما يجسده من رؤية جمعت بين الجرأة والاتزان من جانب، والقدرة على مقارعة التيارات الأدبية ورصد حراكها المحلي من جانب آخر.. بمداد تجاوز دلالات النصوص وبنائياتها المختلفة، إلى ما هو أبعد، وإلى ما قصده من نقده الثقافي لآليات النصوص ومآلتها في مشهدنا الثقافي، مقدما ضربا مغايرا ونقدا مختلفا.. يقول الناقد والكاتب الدكتور عالي بن سرحان القرشي عن هذا الجانب: لقد استطاع عبدالله عبدالجبار في مرحلة من تاريخ الثقافة والأدب في بلادنا، أن يحفر اسمه محلقا، بما قدمه من منجز نقدي مختلف، وذلك لأنه كان يقوم برسالة (المستقر) ويقوم بعملية نقدية ليست خاصة بالنص الأدبي وإنما ببيئة النص الأدبي، فكان نقده لآليات إنتاج النص الأدبي، ونشر النص الأدبي وما يحيط بالنص الأدبي، وبالكتابة الثقافية عموما من عوائق رقابية ومحاولة لتضييق الحريات. واختتم د. القرشي حديثه قائلا: لقد كان الفقيد يشكل موقفا ثقافيا جعل لهذا الرجل اسمه في تاريخ ثقافة هذه البلاد، ومما يحسب له أنه تبنى هذا الموقف المختلف، وهو يعرف ما يؤديه هذا الموقف المختلف من ضريبة، جعلته يؤثر العزلة، ويؤثر التحليق في أفق آخر لكي يطل من خلاله على ثقافة مشهدنا المحلي. د. محمد بن مريسي الحارثي د. عبدالله الغذامي علي العبادي د. عبدالله مناع