تعتبر ظاهرة العنف ضد الأطفال من القضايا المهمة والحرجة التي تنتشر بخفاء داخل بيوت المجتمع المظلمة والتي تظهر بعضها والأغلب يلفه الكتمان لأسباب عديدة أهمها خوف الضحايا ومن يدافع عنهم ويقف في صفهم، ولو تجولت في المستشفيات ودور الرعاية لاكتشفت حجم المآسي بسبب العنف الذي يتعرض له الأطفال، وقد شاهدنا في الفترة الأخيرة حالات متعددة لأطفال في سن الزهور وهم معنفون بأشكال متعددة، سواء كانت جسدية أو لفظية، ومع إقرار مجلس الشورى في الأسبوع الماضي نظام لحماية الطفل من الإيذاء ووضع تشريع لحماية الأسرة من العنف والتحرش الجنسي والإيذاء النفسي تنفس عدد كبير من المعنفين الصعداء، مطالبين بضرورة الإسراع في إقرار هذا التشريع والنظام وتطبيقه على أرض الواقع حماية للمجتمع عموما والأطفال خصوصا من حجم الإيذاء الذي يتعرضون له. «عكاظ» طرحت الموضوع على طاولة المختصين والمهتمين، والذي حللوا أسباب انتشار العنف في المجتمع من جانب اجتماعي ونفسي في سياق التحقيق التالي: البداية مع بعض قصص المعنفين والذين وصل بهم الحال إلى محاولة الانتحار، فالطفلة روزي (12 عاما)، حاولت الانتحار نتيجة تربيتها الصارمة والتي تفتقد للحنان والحرمان العاطفي، وذلك ما أكدته والدتها عندما قالت «لم أضمها قط إلى صدري»، الأمر الذي شكل للفتاة حالة من الذعر عند لمسها وحالة من انعدام المشاعر وتعابير الوجه في الحزن والفرح لدرجة أنها لا تعرف الضحك، ووصل بها الحال في أحد الأيام إلى إغلاق باب دورة المياه على نفسها بعيدا عن أنظار عائلتها ثم قامت بتقطيع شريان يدها وعندما افتقدتها والدتها وجدتها في هذه الحالة من النزيف الشديد وسرعان ما تم نقلها إلى المستشفى وتم إنقاذها. أما الطفل تركي (12 عاما) الذي تخلص من مشاعر القهر والقمع بإلقاء نفسه من سطح المنزل، وكان يعاني من الألم النفسي الحاد عند فقده لوالدته بعد الطلاق من والده وتركه مع الأب بعد أن أخذت الأم أخواته البنات وأهملته دون أن تخفف عنه ببعض الكلمات. رقم مخيف وكشفت عضو جمعية حقوق الإنسان سلمى سيبيه عن انتحار 259 طفلا خلال السبع سنوات السابقة قائلة «فئة الرضع وأطفال سن الروضة هم أكثر عرضة للاعتداء، وكلما كان سن الطفل أصغر كلما كان تأثير الاعتداء عليه أكبر وأكثر إلى أن يصل إلى الموت»، وأضافت سيبيه «الأطفال المتعرضون للعنف هم أكثر عرضة لأن يكونوا هم المعتدون بل إن هذا العدوان قد يتحول إلى تكوين سلوك إجرامي». ولفتت سيبيه إلى أن النساء من الفئات الأولى المعرضة للاعتداء وهن أكثر عرضة للاكتئاب، وعدم الثقة بالنفس والتفكير بالانتحار، مشيرة إلى دراسة أجرتها خلصت عن انتحار 259 طفلا خلال السبع سنوات السابقة. وبينت سيبيه أن هناك أنواعا للإساءة للطفل مثل الإساءة العاطفية والجسدية والتحرش، وقد تكون على شكل استخدام طرق عقابية غريبة، كحبس الطفل في دورات المياه أو غرفة مظلمة أو ربطه بأثاث المنزل أو تهديده بالتعذيب، أو الاستخفاف بالطفل أو تحقيره، وتظهر العلامات السريرية لضحية الإساءة الجسدية والتحرش على شكل كدمات من غير المستطاع تفسير وجودها في الوجه، الفم، الشفاة، الإليتين، والفخذين لهما أعمار التئام متفاوتة وعلى شكل عناقيد، صعوبة في المشي أو الجلوس ولها أشكال محددة للأداة اللاتي استخدمت مثل أسلاك كهربائية أو حزام أو إبزيم الحزام وتظهر على الطفل عادة خلال إجازة الأسبوع أو فترة غيابه عن المدرسة. وأشارت إلى وجود مؤشرات وأنماط سلوكية خطيرة على الأطفال منها انعزال الطفل المعنف عن زملائه، التبول اللا إرادي، كوابيس، مص الإبهام، والهرب من المنزل والفشل الدراسي والإدمان ومحاولات الانتحار. الأم مشغولة وعن أبرز مسببات العنف ضد الأطفال في المملكة قالت «يشكل ضعف الوازع الديني لدى المعتدي نسبة (96 في المائة)، بينما يشكل انشغال الأم بأمورها الخاصة وترك رعاية البيت والأطفال نسبة (90 في المائة)، وبنفس الرقم والنسبة الإدمان على الكحول والمخدرات، وكذلك الكبت الجنسي وعدم تيسير الوسائل المشروعة لتفريغ هذا الكبت بالطرق الصحيحة، وطبيعة عمل المعتدي العنيفة، وسوء التربية الخلقية للمعتدي»، مؤكدة على أن هذا مؤشر إلى أن طبيعة عمل المعتدي وتربيته لها درجة عالية في وقوع العنف، ثم علاقة الكراهية بين الوالدين وبنسبة تحقق كبيرة بلغت (80 في المائة) لعدة مسببات منها: جهل الأم، عدم نشر الوعي في الأسرة من المدرسة وأماكن العمل والتجمع، وعدم إشباع حاجات الطفل العاطفية، مطالبة بضرورة تفعيل نظام حماية الطفل وإقراره بصورة كبيرة. شكاوى متكررة وأوضحت الاختصاصية النفسية في مستشفى الصحة النفسية فاطمة الرفاعي أبرز الحالات التي تتعرض للعنف بقولها «أبرز الحالات التي تأتي لنا تكون دائما من النساء والأطفال، ومنها حالات معنفة جسديا ونفسيا، وحالات تحرش جنسي، ونجد أن الحالات المعنفة تكون دائما مصابة ببعض الكسور والرضوخ الذي يبدأ في بعض الحالات من الطفولة من قبل آباء مارسوا ذلك التصرف غير الإنساني مع بناتهن بأختلاف أشكاله إما بالقول أو الاعتداء حسب درجاته وتستمر الكارثة حتى مراحل عمرية مختلفة، بينما نجد الشكاوى التي تقدمها الفتيات تكرر بشكل دائم في المحاكم وجمعية حقوق الإنسان دون نتيجة تذكر لسنوات، ونجدها تختم ببطلان الدعاوى مع وجود التقارير الطبية وكافة الإثباتات التي تؤكد صحة دعوى المعنفات». وأرجعت الرفاعي بعض أسباب حالات العنف إلى الخلافات الزوجية والطلاق والتفكك الأسري في غياب أحد الوالدين وتسلط زوجة الأب أو زوج الأم أحيانا واضطهاد الأطفال وتعنيفهم للتخلص منهم، كما حدث في قصص مشابهة سابقة وصل التعنيف لدرجة تعذيب الأطفال بالنار، وأشارت الرفاعي إلى استقبالها لحالات لفتيات صغيرات لا تتجاوزن أعمارهن السادسة وآثار الحريق بادية على أجسادهن. وأشارت إلى تلقيهم بعض الحالات المعنفة ليست لها أسباب معينة، مؤكدة أن الفتيات الأكثر تعنيفا في المجتمع، مبينة وجود حالات يمنعن من حقوقهن الشرعية في التعليم والعمل لمجرد أن العادات والتقاليد الخاصة لبعض الأسر تتنافى مع ذلك، مشيرة إلى أن بعض الآباء يهرب من مسؤولية التعليم ويتقاعس فيحرم بناته من الذهاب للمدارس ليوفر قيمة المصاريف المادية، ومن ذلك أسر كثيرة تعيش في مدينة جدة لديهن فتيات غير متعلمات، ومنهم أسر نازحة من الجنوب أو الشمال ومن مختلف مناطق المملكة. وطالبت الرفاعي بزيادة الوعي الاجتماعي في جميع وسائل الإعلام وتغيير المفاهيم الاجتماعية وأن يعي كل الآباء وأولياء الأمور أن الأبناء أمانة، وليسوا مجرد ملكية خاصة يتصرف بها كيفما يشاء، وتفعيل دور محاكم الأحوال الشخصية وإيجاد محاكم أسرية لسرعة البت في القضايا، إضافة لتفعيل نظام حماية الطفل. العنف الرجولي وأكدت الاختصاصية النفسية إيمان عشقي أن العنف ضد الأطفال منتشر ومتوغل في المجتمع بشكل كبير بقولها «لا تقتصر هذه الظاهرة على مجتمع أو بيئة أو ثقافة معينة بل هي ملموسة في معظم المجتمعات الحديثة، ولا تنحصر مكانيا على المنزل فقط، بل تتعداه إلى المؤسسة التعليمية المتمثلة في المدرسة ومؤسسات ودور الرعاية». وأضافت «هناك مجموعة من العوامل التي تتمخض في عقد نفسية تقود قسرا المعنف إلى التعويض باللجوء إلى استخدام العنف، ومنها دوافع تعرض لها في منزله كسوء المعاملة، وإهمال، ونقص في الحب والعاطفة، لبعض العادات والتقاليد التي تسوغ العنف معرف وسلوك مقبول اجتماعيا والنظر له كشكل من أشكال الرجولة، وكذلك دوافع اقتصادية كالفقر التي تتكون بسبب البطالة، مما يشكل تفريغا لشحنة مكبوتة». وألمحت عشقي إلى أنه يجب علينا النظر في الآثار المترتبة على الطفل المعنف، الأمر الذي يجعلنا نعيد حساباتنا من جديد لتحديد حجم المشكلة الحقيقي، فزيادة احتمال انتهاج الطفل المعنف لذات المنهج عالية جدا، بالإضافة إلى أن البيت الذي يتسم أحد الوالدين أو كلاهما بالعنف أو أي مكان آخر يمارس فيه هذا السلوك يعتبر بيئة خصبة لنشوء العقد النفسية كانعدام الثقة بالذات وتزعزع المبادئ والأخلاقيات، والتبلد العاطفي، والحالات المرضية كالاكتئاب والانتحار، وفي حالات العنف الجنسي ينشأ الشعور بالخزي ووصمة العار وانتشار الأمراض المعدية وصولا إلى جرائم القتل، مرورا بالرفض الاجتماعي. الحد من العنف واقترحت عشقي عددا من الإجراءات الممكن اتباعها للحد من ظاهرة العنف الموجة ضد الأطفال، قائلة «يجب إيلاء أهمية كبيرة إلى نفسية الطفل من خلال تطوير ثقته بنفسه وإبعاده عن جو العنف والتقليل من مشاهدة مناظره وتوفير وسائل للترفيه والتسلية، إضافة للدور الكبير للمؤسسات المجتمعية من خلال تشريع مواجهة العنف ضد الأطفال بإنشاء أجهزة لحماية الطفل في كل حي، وإدراج خدمات التبليغ السريعة والميسرة عن حالات العنف بكافة أشكاله، وتشديد العقوبة ضد مرتكبي جرائم العنف، وإقامة دورات قبل الزواج لتوعية المقبلين على الزواج بأسس التربية والتنشئة السليمة وللآباء والأمهات التي توضح أهمية الحوار في الأسرة، ونبذ العنف والمساواة بين الولد والبنت في حقهما ونصيبهما من الحب والحنان، وإقامة دورات للمعلمين في المدارس وإنشاء مراكز يتوافر فيها اختصاصيون نفسيون واجتماعيون للتدخل في الوقت المناسب والحد من تفاقم المشكلة، والترغيب في العمل التطوعي والخيري كتقديم التبرعات للمحتاجين، وتفعيل دور الخطباء والوعاظ والأئمة بالتذكير بسماحة الإسلام ونبذه للعنف والدور الذي أولاه للأسرة والطفل والمرأة وسن قوانين صارمة ومشددة ضد المعتدي، وتكثيف العمل الميداني لرصد الحالات للحصول على إحصائيات دقيقة تساعد على الفهم العميق للمشكلة بهدف إيجاد حلول واقعية لها».