يقول مصطفى صادق الرافعي متحسرا على ما آلت إليه اللغة العربية من انحسار: «ما ذلت لغة شعب، إلا ذل، وما انحطت، إلا كان أمره في ذهاب وإدبار». هناك علاقة طردية بين تقدم اللغة وتقدم أمتها، ولكن أيهما الذي يقود الآخر؟ هل حقا ما يقوله الرافعي من أن اللغة هي التي تقود تقدم الأمة وأنها متى ضعفت، ضعفت الأمة معها؟ أم أن العكس هو الصحيح، حين تضعف الأمة، تضعف لغتها؟ هل اللغة العربية ضعفت فأضعفت معها أمتها العربية، أم أن الأمة العربية ضعفت فأضعفت معها لغتها؟ إني لا أريد الدخول في جدل (البيضة أم الدجاجة)، ولكن من المهم التسليم بأن اللغة العربية اليوم يصيبها الأفول على أيدي أبنائها، ليس بسبب ما هم عليه من ضعف في العلوم والتقنية والحضارة العلمية الحديثة فحسب، وإنما أيضا لما تلقاه منهم من هجر واحتباس يجعلها تختنق داخل حلوقهم. إن اللغة العربية في هذا الزمان، تتعرض لهجمة شرسة تقصيها وتعزلها عن البروز في البحوث العلمية والتقنية، وفي المؤتمرات الطبية والعلمية، وفي المحافل الدولية التي تعقد محليا، وذلك يحرمها من التطور والنمو ويعرضها للإصابة بالتقلص والذبول. عشاق هجر اللغة العربية حين يعاتبهم أحد على ذلك الهجر غير المبرر، يعتذرون بالقول إنهم مضطرون إلى ذلك، لأن اللغة العربية غير عالمية، وغير معروفة لغير العرب، ولأن معظم العلوم والمعارف والصناعات مدونة بغير العربية، كما أن أغلب المصطلحات العلمية والتقنية المتداولة عالميا، لا يمكن إيجاد مقابل لها في اللغة العربية، وغير ذلك من التبريرات. ويقيني الذي لا أحيد عنه، أن ما يقولونه ما هو إلا حجة الكسالى غير الراغبين في بذل أدنى جهد لإبقاء لغتهم عزيزة شامخة. صحيح إنها مهمة عسيرة، لكنها غير مستحيلة، وما يجعلني أقول ذلك بثقة، ما نراه في النموذج الإسرائيلي الذي يرتسم أمامنا حيا، فإسرائيل استطاعت أن تبث الحياة من جديد في اللغة العبرية التي كانت مندثرة لا يحس بها أحد، وهي لا تضاهي ولا تقارن باللغة العربية الزاخرة بالحياة. فعلت إسرائيل ذلك، فلم يتسبب إحياؤها لتلك اللغة المندثرة، في إعاقتها عن تحقيق التقدم العلمي والتقني، بل إنها استطاعت أن تبني لها معرفة علمية وتقنية وثقافية متقدمة، معتمدة في المقام الأول على لغتها العبرية، فإحياء اللغة العبرية بالنسبة لإسرائيل كان أمرا مرتبطا بإثبات الوجود، أمر بقاء أو عدم، لذا جندت كل قواها لتعزيز اللغة العبرية وإزاحة كل العوائق التي تعترض ذلك. هذا المثال يبرهن لنا أن استخدام الأمة للغتها، ليس عائقا عن تحصيل التقدم العلمي والمعرفي والتقني كما يردد كثير من العاقين للغة العربية. ما أريد قوله باختصار، هو أن أمر إنعاش اللغة العربية وإعادة التاج إلى رأسها، لا ينبغي أن يوكل إلى المعاجم اللغوية، ولا إلى الجامعات أو وزارات التعليم، فقد برهنت جميعها على فشلها في ذلك، ما يحتاج إليه بضعة قرارات رسمية حاسمة تدفع باللغة العربية إلى أعلى، وتفرض حراسة مشددة على حدودها تحميها من عقوق أبنائها. وكنت أرجو أن تتضمن رؤية المملكة 2030 مواد صريحة لدعم اللغة العربية ومحاسبة من يتعمد عزلها وإقصاءها. [email protected]