عندما تداعى الصهيونيون إلى عقد مؤتمرهم الأول في بازل عام1897، في خطوتهم التاريخية لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وضعوا عدداً من المقررات وشددوا على ضرورة تنفيذها وصولاً إلى هدفهم المنشود. كالسعي الى امتلاك فلسطين اقتصادياً ومعنوياً، وتنظيم قوى اليهود في العالم، والحصول على ضمانات سياسية من الحكومات الأوروبية وأخرى من السلطنة العثمانية. لكنهم أولوا جانباً آخر من قضية اليهود لم يكن أقل أهمية مما ذكرنا، وهو ضرورة إنماء الشعور القومي اليهودي وتقويته لدى اليهود المنتشرين في مختلف أصقاع العالم، لتجميعهم حول مشروع واحد هو المشروع الصهيوني في فلسطين. ولكن ما السبيل الى تعزيز الشعور القومي ذاك؟ إحياء اللغة العبرية بين اليهود المهاجرين تباعاً إلى فلسطين العثمانية كان أول ما تنبه إليه مفكرو الصهيونية وقادتها. فبذلوا جهوداً جبارة لإحياء اللغة العبرية بين يهودها ذوي اللغات والثقافات المختلفة والمتضاربة، بعد أن كادت هذه اللغة أن تصبح من اللغات المندثرة وبعد أن ندر استعمالها منذ آلاف السنوات، ولجأوا إلى اعتماد شبكة واسعة من الخطط والآليات التي تضمن لهم نجاح عملية الإحياء تلك. وبرز النشاط العلمي والثقافي الصهيوني في فلسطين في سبيل ذلك، فأنشأوا المدارس والكليات العلمية والفنية الحديثة وجعلوا العبرية لغة التعليم الرسمية فيها. وأصبح من أولى مظاهر الإحياء هذا هو استخدام العائلات اليهودية للغة العبرية في أحاديثهم الخاصة، بحيث بات المجتاز للشوارع والمدن الفلسطينية يسمع هذه اللغة أكثر من غيرها. وبالفعل نجح الصهيونيون في جعل العبرية من اللغات الحية عشية الحرب العالمية الأولى بفضل اتحادهم. وبذلك تمكنوا من تحقيق غايتهم الأساس في إعداد شبان وشابات من المستوطنين اليهود أصبحت العبرية لغتهم الأم، وباتوا مشبعين بالأيديولوجيا الصهيونية ومستعدين للدفاع عنها، إلى جانب إعلائهم ل «قوميتهم اليهودية» واعتزازهم ب «ثقافتهم اليهودية». وهنا ظهر الترابط المتين بين إحياء اللغة العبرية وبين الصهيونية، مدركين تأثير اللغة في تشكيل الروح القومية وفي تعزيز الروابط القومية بين اليهود. وبذلك شكلت حركة الإحياء خطراً صهيونياً آخر هدد عروبة فلسطين، حيث أصبحت اللغة العبرية عنصراً مساعداً للصهيونيين على حشد التأييد اليهودي لمشروعهم في فلسطين. ومع اللغة العبرية وعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية أخرى، تمكن الصهيونيون من تحقيق حلمهم المزعوم وتأسيس دولتهم «دولة إسرائيل» عام 1948 على الأراضي الفلسطينية جاعلين العبرية اللغة الرسمية لها. أما في عالمنا العربي فكان المشهد مغايراً، وربما معاكساً أيضاً. ففي الوقت الذي أحيا فيه الصهيونيون لغتهم الميتة وأنشأوا على أساسها «قوميتهم اليهودية» المبتدعة، قام عرب بمحاولات لدفن لغتهم العربية الضاربة في الجذور والمستمرة في حياتها وتطورها منذ آلاف السنين وخنق قوميتهم العربية الأصيلة. فارتفعت الدعوات الى إحلال اللهجة العاميّة مكان اللغة العربية الفصحى وكتابتها بالأحرف اللاتينية بدلاً من أحرفها العربية. ويبدو أن رموز الدعوة هذه ساندوا الاستعمار الغربي في بلادهم، عن وعي أو غير وعي، عندما استجابوا لمحاولات الاستعمار الدائمة الذي وجد أن تقطيع أوصال العرب والمسلمين لا يمكن أن يتم ما دام العرب يكتبون ب «حرف واحد»، ويتكلمون «لغة واحدة». وبرز تأثير الاستعمار في هذا المضمار في المغرب العربي ومصر وسورية ولبنان على وجه الخصوص. وفي لبنان، إذا كانت هذه الحركة قد خبت مع عهد الاستقلال 1943، الا انها عادت مسرعة من جديد في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. وبغض النظر عن الطروحات والحجج التي تذرع بها رموز الدعوة هذه من «تسهيل للغة» أو «خوف عليها من الانقراض ومن انتشار الأميّة» بين العرب لأن لغتهم تفتقر إلى حروف محرّكة في نظامهم التدويني، فإن ذلك لا يسد حاجتنا إلى ضرورة التساؤل عن الظروف التاريخيّة والمعطيات السياسيّة والفكريّة التي أحاطت بهذه الدعوة، وهل حملت أبعاداً سياسية- فكرية- قومية في طياتها؟ أم كانت شأناً لغوياً بريئاً فحسب؟ إذا عدنا إلى الخمسينات ومطلع الستينات من القرن العشرين، نجد أن الأمة العربية كانت تمر بمرحلة دقيقة، عناوينها الأساسية ضياع فلسطين واحتدام الصراع العربي الصهيوني ونجاح مصر عبدالناصر في التصدي للاستعمار الغربي والصهيونية واتساع المد القومي العربي، واشتداد الدعوات الى الوحدة العربية من أجل استعادة فلسطين. ويبدو أن ذلك أقلق بعض النخب اللبنانية الذين تنازعتهم التيارات الطائفية والفكرية والسياسية المتضاربة. فلم يكنوا جميعهم على تناغم مع دعوات القومية العربية والتضامن العربي، حتى أنهم دخلوا في معارك فكرية حول هوية وطنهم القومية فيما إذا كانت عربية أو فينيقية أو لبنانية أو قومية سورية أو أنها تنتمي لحضارة البحر المتوسط وغيرها من الدعوات التي تهدف إلى إخراج لبنان من الدائرة العربية وإقصائه عن عروبته ووحدة القضايا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية. فجاءت مساعي بعضهم، لتحويل اللغة العربية الفصحى إلى لغة محكيّة ومدوّنة بالأحرف اللاتينية، محاولات عبثية لمحاربة القومية العربية، مدركين أهمية اللغة العربية الفصحى في إنماء الشعور القومي العربي لدى اللبنانيين والعرب وفي تقريب المسافات بينهم، جاعلين اللغة سلاحاً استخدموه في معركتهم القومية لتفتيت اللبنانيين وإخراجهم من أي عمل عربي تضامني مرتقب، في الوقت الذي رأينا فيه نجاح الصهيونيين في استخدام اللغة سلاحاً أيضاً، لكن مع فارق جوهري وهو لضمان وحدة اليهود. خرجت اللغة العربية منتصرة من المعركة بين الفصحى والعاميّة ولم يتمكن التيار اللغوي- الفكري- السياسي من النيل منها، لكن هذا لا يعني أن التحديات لم تستمر حتى اليوم. فما هذه «اللغة» المزيفة والمشوهة التي يتخاطب بها الناشئة اليوم في تواصلهم الإلكتروني؟ خلطة عجيبة من اللهجة العامية بالحروف اللاتينية مضافاً إليها الأرقام الأجنبية؟ أليس هذا هو ما أراده أصحاب تلك الدعوات اللغوية المشبوهة في القرن المنصرم؟ لغتنا هويتنا وشخصيتنا، لنتمسك بها علّها تبقي في نفوسنا ما يذكرنا بأننا جميعنا عرب.