بينما كان يتجول في ردهات المستشفى العام يبحث لمريضه الذي رافقه من مستشفاه لإجراء فحوص طبية ، وبينما كان يحادث زملاء له في المهنة يسأل عما يجب أن يقوم به لمريضه، لمحت... عيناه عن بعد طفلة في عمر الزهور قد إختطف المرض نظارتها وبدت بجسدها النحيل تغالب إعياءها المتواصل وتبرق عيناها ببراءة تحدوها آمال لا تدري ماذا ينتظرها وتتمنى أن تعدو مثل الأطفال حتى لو كانت في مستشفى لتروح عن نفسها رغم معاناتها لكن جسدها لا يطاوع ما ترنو إليه فتستند إلى جدار الممر بيدها النحيلة تلتقط أنفاسها بصعوبة، يدفعه ما بداخله من مشاعر تجاهها لأن يعرف أسباب معاناتها ممن حوله من تمريض المستشفى سرعان ما يأتيه رد أحدهم : إنها مصابة بالفشل الكبدي ويحدو أهلها الأمل في متبرع ينقذها بجزء من كبده لتكتب لها حياة مستقرة وبعفوية ملؤها مشاعر إنسانية راقية فياضة وجد نفسه يقول دون تردد: هل أصلح أن أكون ذلك المتبرع؟ يا الله؛؛؛ لقد عقدت الدهشة وعم الجميع وقع المفاجأة ، ما لبث أحدهم أن عاجله: هل أنت جاد فيما تقول ؟ فرد عليه : وهل يبدو أني غير ذلك؟ فلعل الله يكتب لها حياة سعيدة أشارك فيها بجزء من جسدي الذي حباني الله عافيته. وتسارعت الخطوات لإدراك الوقت لإنقاذ الفتاة وأثبتت الفحوص مناسبة تبرعه لها ووجد نفسه كما تمنى على سرير العمليات وبالجانب ترقد تلك الطفلة تنتظر هبة الله وشهامة متبرع بقامة بطل لم يتردد لحظة في ما قرره هذا الفارس رغم أنه لم يعرف قبل أن يقرر التبرع لها من تكون؛ وما إسمها ؟ أومن أي بقاع الأرض مرجعها, بل ما كان ذلك يشكل له من وزن حين قرر التبرع لها ، فلقد شملته مشاعر إنسانية تقفز فوق الجغرافيا، وشدته نظرات طفولتها المسروقة في بحر الإعياء. وهاهي الآن ترفل في ثوب الصحة والعافية وتسترد لياقتها ونظارتها في خطوات مطردة تمكنها من مداعبة الألعاب والتمتع بشقاوة الأطفال فتغدو الدنيا كلها لها كملعب صغير يتسع لتسارع خطواتها لتدرك ما فاتها من مرح الطفولة، ويعود الشاب النبيل بعد إلتئام جراح العملية ليقدم خدمات وظيفته بمستشفاه ويصبح عنواناً لمهنة التمريض النبيلة ولمعدن الشاب السعودي الأصيل وسط حفاوة ونظرة إكبار من كل زملاءه وتواضع جم وكلمات تعكس رغبته إبتغاء مرضاة الله فيما قدمه. حين تناولت الهاتف في مقر عملي وجدت المتحدث رئيس قسم الإسعاف يدعوني للمشاركة في جلسة تكريم متواضعة "كما ذكرها" يكرم فيها وزملاؤه بقسم الإسعاف والطوارئ بمجمع الأمل للصحة النفسية بالرياض زميلهم صاحب العمل النبيل ، من قدم جزءاً من كبده لطفلة لايعرفها حتى يشارك في إنهاء معاناتها ويطلب ردي في الحضور أو الإعتذار، فانعقد لساني مما سمعته إكباراً لهذا الشاب ووجدتني أشكره على إتاحة الفرصة لي لأحظى بلحظات ما أروعها من وجه مشرق في خضم أعباء العمل وتلاطم المشاعر تجاه مانسمعه كل يوم من شكاوى ضد الخدمات الصحية والقائمين عليها، فكأنما هو ينتشلني بهذه اللحظات فأستعيد الثقة وأشحذ همتي من جديد رغم كل الصعوبات وكأنني أولد من جديد. ولقد سمحت لنفسي أثناء التكريم بأن أكون أول المتحدثين من خارج القسم خوفاً من أن يسبقني أحدهم للتعبير عما يجيش بداخلي وتوالت كلمات الزملاء مشبعة بالفخر يجمعنا الإنتماء فأصبحنا جميعاً كفريق - ولو للحظات- نفخر بأننا نعمل في المستشفى التي ينتمي إليها هذا الشاب فنستمد من قامته التي لاتعلوها في نظري قامة ، أقول نستمد لحظات الفخر وبارقة الأمل ليكون الجميع بمجمع الأمل بنفس مستوى هذا الشاب من العطاء للمريض حتى لو كان ذلك مع إختلاف الطريقة، فلو حظي مريضنا بخدمات مبنية على التفاني لعوض هذا قصور بعض الإمكانيات، ولو إجتهدنا في مواكبة الجديد من العلم في مجال التخصص ليحظى المريض بأقصى مانستطيع من خدمات صحية مناسبة، ولو جمعنا إنكار الذات وإستغلال كامل وقت الدوام لتقديم مانستطيع ، حتما لزادت الصورة إشراقاً ولكان ماقام به هذا الزميل لنا نبراساً . فشكراً للزملاء المنظمين الذين جعلونا نعيش هذه اللحظات وعلى رأسهم رئيس قسم الإسعاف والطوارئ الذي أسأل الله أن يشفيه ويعيده سالماً حيث هو الآن يرقد على سرير المرض بعد عملية قلب مفتوح ، وشكراً لهذا الممرض الشاب الذي فاق بفعلته التي أسأل الله أن يثيبه عليها كل التوقعات وأعاد إلينا الأمل لأن يكون هكذا روح العمل، وشكراً لله أن جعل آخر عهدي في العمل بهذا المستشفى لحظة تكريم من هذا المستوى الصادق الذي لا تغلفه أي مجاملات مما قد يهب للجميع شرارة البدء بهمة عالية نحو أهداف سامية مهما كانت الصعوبات وفي أي مكان كنا، ولولا أني لم أستأذن هذا الشاب في ذكر إسمه لذكرته حتماً في مقالي، ولعل دعاءكم له بأن يجعل الله عمله في ميزان حسناته دون معرفته يكون مثالاً للدعاء بظهر الغيب. *أستاذ مساعد طب المجتمع بكلية الطب