الشروق - القاهرة أحد أسباب الخلاف بينى وبين عدد غير قليل من القراء مصدره المعلومات المتوفرة لدى كل طرف. ذلك اننى استشعر فى الرسائل التى اتلقاها من أولئك القراء الذين أعنيهم درجة عالية من الإخلاص والغيرة، تكمن وراءها أزمة كبيرة فى الخلفية المعرفية. وتتجلى تلك الأزمة اما فى نقص المعلومات وغياب بعضها، أو فى تشويهها. وبعض ذلك راجع إلى اختلاف خبرة الأجيال والبعض الأكبر نتاج عمليات غسيل المخ التى تتعرض لها الاجيال الجديدة التى يكتسب بعضها ان لم يكن أغلبها مصادرة المعرفية من وسائل الإعلام. وهذه النقطة الأخيرة مهمة للغاية. وتأثيرها شديد الوضوح فى التجربة المصرية، ذلك ان المجتمع المصرى خلال الأربعين سنة الأخيرة بوجه أخص هجر السياسة بحيث انكفأ كثيرون على ذواتهم. ربما لأنهم أدركوا أنهم مهمشون ولا دور لهم أو تأثير فى صناعة مصيرهم الذى تولته السلطة المحتكرة وصادرته لحسابها. وربما أيضا لأن أعباء الحياة المتزايدة احتلت أولوية لدى الأغلبية، بحيث صار السعى وراء الرزق وتأمين حياة الأسرة والأولاد هو الشاغل الأساسى والمهيمن، أو للسببين معا. هذا الوضع تغير بعد ثورة 25 يناير التى أعادت الوطن إلى أصحابه، وفجرت مشاعر الانتماء لدى الملايين الذين بدوا وكأنهم ولدوا سياسيا من جديد، وهو التحليل الذى سبق أن أشرت إليه، وأوضحت فيه ان تلك القطاعات العريضة من الجماهير حين انتقلت من العزلة إلى المشاركة ومن سلبية الرعية إلى ايجابية المواطنة ومن هوامش السياسة إلى قلب ميادينها فإنها اعتمدت فى زادها المعرفى على ما تبثه وسائل الإعلام بالدرجة الأولى. وكان ذلك أوضح ما يكون فى السلوك السياسى لما سمى بحزب «الكنبة»، الذى يضم القاعدات فى البيوت من النساء والقاعدين على المقاهى من الرجال. وهؤلاء أصبح التليفزيون هو المصدر الأساسى لتشكيل وعيهم وثقافتهم السياسية. ولذلك لم يكن مستغربا ان يميل هؤلاء مع ميل البث التليفزيونى ومع مؤشرات الهوى السياسى للسلطة وللقوى المتحالفة معها التى أصبحت صاحبة اليد الطولى فى الساحة الإعلامية. فى وقت سابق قدم الرئيس الأسبق أنور السادات نفسه باعتباره رب العائلة المصرية، وكان ذلك تعبيرا ساذجا ومبسطا كاد يلغى فكرة الدولة بمؤسساتها وأجهزتها. ومبدأ الفصل بين سلطانها. فضلا على أنه كان استثمارا لمناخ الفراغ السياسى، الذى بدا فيه شخص الزعيم وحده القادر على ملئه. وازاء استمرار هذا الوضع لعدة سنوات فإننا اكتشفنا فى نهاية المطاف ان التليفزيون صار هو رب الأسر الحقيقى. هو الذى يشكل الإدراك والوعى ويؤثر على الرؤية السياسية والسلوك الاجتماعى. فى وقت ليس بعيدا هتفت المظاهرات بسقوط حكم العسكر. وفى الوقت الراهن تحول حكم العسكر إلى مطلب شعبى «وضرورة» وطنية. وخلال الفترة ذاتها تقريبا صوتت الأغلبية فى خمسة استحقاقات لصالح الإخوان، وخلال الأشهر الأخيرة خرجت مظاهرات مرددة هتاف «الشعب يريد إعدام الإخوان»، وهذه التحولات طالت عناوين أخرى كثيرة. فمبارك الذى تفجرت الثورة ضد استبداده وفساد نظامه طوال ثلاثين سنة تمت تبرئته وصار قائدا وطنيا. والداخلية التى كانت سوط الاستبداد الذى أذل المصريين وعذبهم والتى قتلت ألفا من شبابهم إبان الثورة تمت تبرئتها وصارت اليد التى تسهر على حماية المواطنين وتؤمنهم من غوائل الإرهاب والغدر. وإسرائيل صارت حليفا والفلسطينيون أعداء يهددون استقرار مصر ويتطلعون للتمدد فى سيناء. والجماعة الوطنية التى ظلت تزهو بتماسكها وتدافع عن وشائجها صارت شعبين لا يطيق كل منهما الآخر. والمقاومة التى اعتبرناها رمزا للعزة والكبرياء صارت تهمة وإرهابا. بل ان التظاهرات التى اسقطت نظام مبارك والتى تم احتضانها والتباهى بإنجازها حين اسقطت نظام الإخوان أصبحت محظورة ومجرمة بالقانون. وحرمة الجامعات التى ناضل كثيرون دفاعا عن استقلالها حتى نجحوا فى إبعاد الشرطة عنها بحكم قضائى تاريخى، لم تجد من يدافع عنها حين انتهكت وأصبحت الشرطة تعسكر داخل الحرم الجامعى برضا وبطلب بعض العمداء أحيانا. نماذج اختلاط الإدارات واحتلال المفاهيم عديدة ولا حصر لها. حتى وجدنا قبولا وتبريرا من جانب البعض للحكم بإعدام 528 شخصا لاتهام بقتل ضابط شرطة والحكم بالسجن عشر سنوات فقط لضابط أدين فى قتل 37 شخصا حرقا، وشاعت حالة نقص المناعة المعرفية بحيث وجدنا أجيالا لا تعرف من اغتصب فلسطين وصدقت ان أبناءها باعوا أراضيها للصهاينة. ولا تعرف ان الفلسطينيين رفضوا اقتراحا لعبدالناصر للتوطين فى سيناء. ولا تعرف من حارب الاحتلال الإنجليزى فى قناة السويس، ومن هم الوطنيون والخونة، أو الإرهابيون والدعاة، ومن هم التكفيريون والوسطيون. إلى جانب الأهواء السياسية التى وظفت وسائل الإعلام لإفساد الوعى وتشويه الذاكرة فإن نفرا غير قليل من المثقفين والنخب سايروا الركب وتقدموه أحيانا، إذ انتهزوا الفرصة المواتية لتصفية حساباتهم التاريخية والتعبير عن خصوماتهم الفكرية. ومنهم أناس كانوا محترمين طوال الوقت، ولكن الأهواء والغوايات أفقدتهم توازنهم حتى كشفوا عن وجوه لم تكن مرئية من قبل. وللأسف فان إعصار الإفساد والتشويه ملأ الأجواء فى مصر بالسموم التى تحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير لإزالة آثارها. مع ذلك فإننا لم نفقد الأمل فى وعى الشباب الذى لم يتلوث وظل محتفظا بنقائه. فضلا على اننا لا نعرف إعصارا استمر طول الوقت، حيث لابد أن تكون له يوما ما نهاية بحيث يصبح السؤال منصبا على قدرة الأسوياء على الصبر والصمود.