.. ليس هناك فكرة كاملة! وإن فرضنا وجود فكرة مكتملة في وقتٍ معين في مكانٍ معين، فإنها ليست ستاتيكاً ثابتاً، فستكون ذات الفكرة غير صالحة إن تغيّر الزمان وبقي المكان، أو تغيّر المكان وثبت الزمان، أو ثبت الزمان والمكان وتغيّر الظرف.. الأفكار يجب أن تُوضع باستمرار تحت المجهر، وعبر المنخل، وفي جهاز الاختبار.. فقد نغيّر الفكرة من جذورها، إن وجب الأمر، وقد نجدّد الفكرة ونبقي جذورها. في الزمان القديم لمَن يطلع على تاريخ ملوك أوروبا، سيجد أن عند كل ملك من هؤلاء الملوك شخصاً يكون ساخراً ومضحك الليوان الملكي، ويُطلق عليه بلغتهم "Jester"، وهو غير البهلوان المعروف في قصور الملوك. ومن أهم مهام هذا الشخص المضحك الساخر، بما أنه لا يعاقب على قوله، أن يناقش أفكارَ الملك. فالملك يعرف أنه محاط ببطانةٍ ستقول له: نعم! وأبشر! وحاضر على الدوام، لذا يأتي الساخرُ الذي لن يؤذي شعورَ أو تضخم ذات الملك، في انتقاد أفكاره لأنها ستُساق على سبيل الضحك والتسلية، ولكن يقيس فيها الملك أول ردّ فعلٍ شعبي لأي قرار سيصدره.. وروى التاريخُ عن ملوك غيّروا قراراتٍ وسياساتٍ كثيرةً بفضل وجود ساخر الليوان. من أرقى سياسات الإدارة هي ما ابتكرته شركة تويوتا فيما يُسمّى طاولة الحرب، أو مائدة العراك، حيث تُعرض الأفكارُ من أكبر رؤوس بالشركة على طاولة البحث والنقاش، من مجموعات المهندسين والماليين والاقتصاديين والمسوقين والبائعين والمستخدمين، وتتصاعد منها أدخنة الحرب حتى تسفر عن استقرار على فكرة أو خطة بعينها. ثم إن طاولة الحرب هذه مفتوحة على الدوام لأنهم يتعاملون مع الأفكار كأشياء سريعة التغيُّر، وقابلة للنمو، وحتى الموت. لذا لا عجب أن يقوم المجتمعون بوأد أفكارهم بعد أول بوادر تغيير سلبية. نحن ضد العراك بالطبع الذي لا ينصب على الأفكار لتغييرها أو تبديلها أو تطويرها، فتكون حرباً نقاشية عنيفة تصدع بالمجتمع أو الأمة لأن العراك يكون ضارياً ومُضراً حين يكون التعصب للأفكار والدفاع عنها بتعصب يعمي عن أول مبادئ التفكير، وأساسيات المنطق.. فتختنق العقولُ، وتختنق قبلها الأفكار. ويجب ألا نرى منطقياً ومقبولاً أن نقول إن هذه الفكرة جيدة ومناسبة، ثم نضع عليها السياج بلوحات تحذير: "ممنوع الاقتراب!" فهنا ستتحجر الفكرة، ولا تعد فكرة حية نابضة، بل حجراً جلموداً لا نبض لأي حياة بها. فالأفكارُ الجيدة قابلة للتطوير لتكون أحسن. كان يبدو للناس أن السيارة لما كانت تسير بسرعة 18 ميلاً في القرن التاسع عشر فكرة عبقرية اختراقية غيّرت كل التاريخ البشري.. لو وضعنا ذاك الإنجاز داخل سياج محكم، لصار أننا ما زلنا نسبق جيل سياراتنا. إنها فكرة جيدة، ومن صفات الفكرة الجيدة أنها قابلة للتطور والتحسُّن والتقدم. والأفكار السيئة لن تتغيّر أبداً وستسوء أكثر على مرّ الزمن إن لم نسمح لأنفسنا بكشف عيوبها بعيداً عن أي هالاتٍ نتخيل أنها تتجلل بها، ما دامت تضر بالإنسان وتؤخر تقدمه وتمرض لياقته العقلية، وتشوّه صحة منطقه.. ثم تؤثر سلبا في كامل المجتمع والأمة. تذكروا أن شركة "أبل" الأمريكية لما قدمت منتجها الحاسب المحمول "اللاب توب" قدّمته، أو صنعته تحقيقاً لفكرة واحدة يتيمة، وهي تصميم حاسوبٍ يوضع بالحضن حتى يستخدم في الطائرات للمسافرين الجويين، والتعامل التوافقي مع إلكترونيات الطائرة. شيء حصل جعل مهندسي الفكرة يفركون كل شعرة برؤوسهم دهشةً لما وضع اللاب توب في السوق.. تزاحم عليه الناس بكل فئاتهم، وتخصصاتهم، وأعمالهم.. إلا فئة واحدة: المسافرون الجويون! ومع ذلك دعت الشركة خبراءها لاجتماع خطير عاجل: تعالوا نجتمع ونفكر: "ما الذي حصل؟ لم تنجح فكرتنا أبداً وحققت فشلاً ذريعاً.. رغم النجاح السوقي المذهل". لماذا بدل أن يفرحوا ويتبادلوا الأنخابَ عقدوا اجتماعَ طوارئٍ بمؤشر الخطر، السبب: أن الفكرة لم تحقق كما خطط لها.. إن هناك خطأ جسيماً بالأفكار، وفي قراءة السوق، واستشفاف متغيرات المستقبل القريب. وترون أن أي فكرةٍ بشرية يجب ألا تحمل قداسة.. ومتى حملتها فستنمو القداسة الموهومة لتصبح فيلاً، وتصغر الفكرةُ لتصير نملة.. ثم يُطلب من النملةِ أن تحمل الفيل!