ليلة البارحة وفي مجمع المملكة في مدينة الرياض كنت أتسوق مع أطفالي. كان المجمع يعج بالمتسوقين.. ابن المدينة وابن القرية وابن الضاحية.. تستطيع ملابس البشر وطرقهم في ارتدائها ونوع العباءات التي تلتف حول أجساد المتسوقات وطرقهن في التعامل مع أطفالهن أن تخبرك الكثير عن من هم أمامك. كنا كُثُراً.. سعوديين وغير سعوديين.. أناس تبدو من سحنهم أنهم يزورون الرياض لأول مرة وآخرون كما لو أنهم يريدون أن يقولوا للأرض (توقفي ولا حد قدي) كما يقول المثل!!! في الغالب ارتدت معظم الأمهات النقابات والعباءات على الرأس فيما طرحتها الصغيرات على اكتافهن ومشين في جذل.. فجأة وبدون سابق إنذار شعرت بأن الجو من حولنا أصبح لزجا وباردا. بدأ الناس يدورون حول أنفسهم وتغيرت رائحة الجو: ذرات الهواء بدت فجأة ثقيلة.. بدأ الناس يتصرفون خارج طبيعتهم الإنسانية..؟ سرت الشائعة بأن الهيئة قريبة.. تحركت الأمهات من مقاعدهن.. توقف الأطفال عن التقافز وبدأت الصغيرات في جذب أغطيتهن السوداء ونشرها على شعورهن في محاولة يائسة لسحب أطرافها القصيرة أاصلا لتغطي أنوفهن واستدرن للجدار. لا مواجهة مع أحد.. كل منا يرغب في هذه اللحظة في أن يتبخر دون أن يراه أحد..لحظة سينمائية بامتياز.. الأطفال توقفوا عن اللعب ومدوا أعناقهم لمراقبة المواجهة التي يمكن أن تحصل أو لا تحصل. ما الذي يمكن أن يشد انتباه الهيئة الآن.؟؟ كل منا بدأ يسأل نفسه؟. هل هو أنف الصغيرة التي التفت بالحجاب لكنها لم تغطي كامل الوجه؟ أو هو خصلة من شعر متدل خارج الطرحة؟ أم هو بنطال ملون لامرأة ظهر طرفه من تحت عباءتها؟. الكل يراجع وضعه بسرعة.. لباسه وأطفاله وأين يقف.. ابتعد الناس عن وسط الطريق وتجمعوا على الأطراف وتركوه للجهة المهيبة تخوض في خيلاء وأبهة..هي لحظات وأقبل الموكب المهيب..اثنان من رجال الأمن (؟؟) على الأطراف بملابسهم الرسمية.. ورجال الهيئة في وسطهم ببشوتهم يخبون الطريق ويتمتمون في سلطة واضحة.. يسوقون أمامهم شابا سعوديا بملابس ملونة : بنطال وقميص ملون وقليل من الشعر على الجانبين.. يبدو أقرب إلى شباب الهيب هوب الجديد..بدا الشاب هادئا بشكل يفوق الوصف.. يمشي باستسلام مأساوي، كما لو أن قدره كان مكتوبا لديهم والجميع يلاحقه بنظرات الأسى والامتنان.. الكل يتمتم في سره : الحمدلله وجدوه فانشغلوا به، ولن أكون هدفهم التالي ! هكذا الجميع. الآسي لمن وقع والامتنان له فهو قد حمل عبء الجميع فلن تنشغل الهيئة بتصيد أخطاء الآخرين على الأقل الآن.. وهاهم يغادرون المكان بكبشهم الثمين !!!. تأملت حالنا كشعب: كم نحن مساكين... شعوب تساق بالقوة لتمارس أخلاقياتها. ترتعد فرائصها خوفا وقلقا من مصيبة قد تحط على رأس أي أحد فلا يعرف كيف يتعامل معها.. قارنت هذا الموقف بموقف رئيس الهيئات الشيخ عبداللطيف آل الشيخ حين زار جريدة الجزيرة الشهر الماضي. لم يتح لي حضور اللقاء للأسف لكن الزميلات لم يقصرن في وصف هدوئه المهيب ولهجته الأبوية الغادقة.. لم (يبدو) انه منهم أبدا، وقليلات ممن حضرن تمكن من إسقاط الصورة التاريخية للهيئة على رئيس الهيئة. هناك تاريخ طويل من الرعب والخوف الذي يقرص الناس حين يطرح اسم الهيئة.. كيف لم يتكرس ذلك مثلا مع رجال الشرطة وهم من يكلفون بحفظ الأمن وتطبيق مبادئه؟ هم يخبون شوارعنا ليل نهار فلا ترتعد فرائص الصغار ولا يغشى على المراهقات حين تظهر سياراتهم بإشاراتها الصارخة.. الكثير من رجال الشرطة في مدننا محدودو التعليم، وهم أحيانا يمارسون اخطاء ظاهرة سواء في السير او تجاوز الإشارات أو حتى الكلام بميكرفوناتهم بشكل غير لائق مع الجمهور.. لكن هذا لم يولد تاريخا مرعبا كما في حالة العلاقة الذهنية بين الجمهور والهيئة، والتي ترتبط بالقلق والرعب والمجهول وعدم معرفة ماذا سيحصل لك؟ والى أين سيقذفونك؟ وما التهم التي ستوجه لك؟ وما حدود صلاحياتهم في التعامل مع حالتك.. خاصة وأن التهم تتراوح في الغالب بين عدم تغطية الوجه مثلا او عدم التستر بالعباءة بالطريقة التي يرون انها هي الأصلح او تطويل الشعر في حال الشباب او ربما مضايقة بعض الفتيات.. الفكرة حتى وهم يؤدون دورا إيجابيا لإبعاد بعض الشباب العابث عن العائلات في المجمعات التجارية.. لماذا يتولد كل هذا الرعب حين يظهرون؟ لأن هناك تاريخا طويلا من قصص الظلم والتجاوز والسب العلني والاستخدام الجائر للسلطة في الأماكن العامة.. وحين نقول تاريخ. فاننا نعني ذلك.. كلنا على هذه الأرض ربينا على قصص الرعب التي تعيشها شعوب أخرى ربما مع جيوش سرية او مخابرات سرية لدول تغير على أناسها على حين غرة تهجم على البيوت والمجمعات في وضح النهار أو في منتصف الليل.. تاخذ المصيب بالمخطئ ويضيع كل من وجد في الموقف؛ سواء كان له يد في ما يحدث أو لا.. هكذا هو التاريخ الذهني للهيئة، كما يتمثله مئات ألاف من الناس للأسف. وسواء كان ذلك صحيحا أم لا.. في العادة تولد المخاوف صوراً ذهنية أكبر من الحقيقة وهذا بالتأكيد حاصل في علاقتنا بالهيئة.. هذه العلامة المميزة للجمس (الدائرة) وهذه البشوت التي يلبسونها اثناء تأديتهم لمهامهم الرسمية يمشون فيها في مهابة وإجلال فينفخها الهواء فتتسع وهم يدفعونها بأرجلهم لتنتفح أكثر فيبدون لمن يتأملهم من الخارج أكبر وأخطر. هذه السلطة التي تجعل رجل الأمن الذي يمشي معهم مجردا من سلطته مقارنة بهم. هو معهم ليؤكد سلطتهم ويمنحها طواعية تواريا وهدوءاً وعدم تدخل؛ ففي كل المواقف أنت في حضرة الهيئة، وكل ما تتمناه السلامة والخروج من أي موقف معهم بأقل الخسائر. اسئلة كثيرة تطرحها هذه الحالة العقلية التي تلبست السعوديين، لكن السؤال الأكثر وضوحا، ربما الآن هو : لماذا لا توجد هيئة في مجمعات دبي وشوارعها مثلا وهي مليئة بالسعوديين الذين يعرفون حدودهم فلا يتجاوزنها؟. وإذا حدث وطافت عين أحد رجالهم أو رجالنا ببائعة أو متسوقة فالكاميرات المنثورة بطول المجمع التجاري لن تتركه وسيقاد مباشرة للطرد من الإمارة، كما حدث في عديد من الحالات. الي متي سنظل ننظر للناس كقاصرين غير قادرين على السيطرة على ذواتهم. لعلنا نصرخ بطول الأرض وعرضها، كما فعل التونسي الحكيم عند ثورة تونس،:... لقد هرمنا.. لقد هرمنا! ملاحظة : ليلة البارحة = 14 يوليو 2012.