يتعين الوقوف أمام دلالات ودروس الثورات والانتفاضات العربية التي بدأتها تونس إثر حادثة إحراق محمد البوعزيزيي لنفسه احتجاجا على ما اعتبره هدرا لكرامته وحقه المتواضع في نيل رزقه البسيط، وكانت بمثابة الصاعق المفجر لثورة عارمة عمت كل أرجاء تونس وأدت في الأخير إلى إجبار الرئيس السابق زين العابدين بن علي إلى الفرار للخارج، وسرعان ما انتقلت رياح التغيير والثورة إلى مصر حيث أجبر الرئيس المصري السابق حسني مبارك على الاستقالة، وتسليم صلاحياته للمجلس العسكري، ومن ثم تقديمه للمحاكمة (بغض النظر عن شكليتها). في الحالتين التونسية والمصرية اتسم الحراك الثوري الواسع للجماهير والذي شارك فيه الشباب المستقلون، ومن وكافة المكونات الاجتماعية والطبقية، بالطابع السلمي بسبب حياد أو تحييد المؤسسة العسكرية إلى حد كبير، ووجود قوى وتشكيلات سياسية واجتماعية ومدنية وازنة.. فالتغيير في ليبيا أخذ مسارا مغايرا حيث جرى عسكرة الانتفاضة في مرحلة مبكرة نظرا للمذابح والأسلوب الدموي في مواجهة المحتجين الذي انتهجته كتائب معمر القذافي، وفي ظل التجاذبات الجهوية والقبلية وغياب منظمات ومؤسسات المجتمع المدني مما أدى إلى تفجر الصراع المسلح بين الثوار وكتائب القذافي، ومن ثم، تدخل قوات الناتو الذي حسم الصراع، ثم شاهدنا صور مقتل القذافي والعديد من أولاده وعناصر نظامه السابق. على خلفية الحراك الثوري في اليمن، جرى تدخل إقليمي (المبادرة الخليجية) ودولي (أمريكي) تحت مظلة الأممالمتحدة، تكلل في الأخير بتسليم الرئيس السابق علي عبد الله صالح (بعد مناورات استمرت قرابة العام) السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي وتشكيل حكومة وحدة وطنية للفترة الانتقالية. الحراك الثوري في سوريا حافظ في البداية على طابعه السلمي غير أن عنف النظام الحاكم واستخدامه لماكينته الأمنية القمعية ضد الجماهير العزل، وفي ظل التجاذبات الإقليمية والدولية حول سوريا، مما أدى إلى انزلاقها إلى ما يشبه الحالة الليبية (مع استثناء التدخل العسكري الخارجي بشكل مباشر حتى الآن) من عسكرة للانتفاضة بل واحتمال اندلاع حرب أهلية داخلية مدمرة. في الواقع فإن الاحتجاجات والتحركات والمطالبات الشعبية أصبحت السمة الغالبة في جل البلدان العربية. في ظل ما جرى ويجري من أحداث وتطورات متسارعة ومذهلة على مدى العام المنصرم، وحتى وقتنا الحاضر، ومستقبلا، والتي فاجأت النظام العربي الرسمي، وكل القوى الدولية والإقليمية. بعض الحلقات المهمة لهذا التغيير في العالم العربي قد تحقق، وستستكمل حلقاته وعناصره الأخرى في مجرى الحراك الجاري الذي يتسم بالتعقيد والتشابك والتناقض، تحت تأثير العوامل الموضوعية (السياسية والاجتماعية والطبقية) والذاتية الداخلية، والتجاذبات والتدخلات الإقليمية والدولية، وخصوصا من قبل الغرب والولايات المتحدةالأمريكية على وجه التحديد، تلك القوى المتكالبة على المنطقة العربية، لأهميتها الإستراتيجية الضخمة، والتي من بينها ثرواتها الطبيعية (أكثر من 60% من نفط العالم) الهائلة وفوائضها المالية (في الدول النفطية) الضخمة، وسوقها (للسلع والسلاح) الواسعة، وموقعها الإستراتيجي المهم، ناهيك عن ضمان الغرب لهيمنة وتفوق إسرائيل باعتبارها القاعدة الأمامية (وكعامل تقسيم واستنزاف للقوة العربية) لحماية مصالحه. من هنا نفهم كنه التعديلات والتغييرات (التكتيكية) التي طرأت على مواقف الغرب والولايات المتحدة من الحراك الثوري في المنطقة العربية، وانسحب ذلك في مراجعة موقفها من حركات (الإسلام السياسي) التي تصدرت المشهد العربي الراهن. في كل ذلك فإن الغرب والولايات المتحدة، بل وكل القوى الدولية والإقليمية، تستند إلى مقولة: إنه ليست هناك صداقات دائمة، بل هناك على الدوام مصالح ثابتة.. وللحديث صلة.