لا يمكن تجاهل حجم وسعة التغييرات العميقة، في سياقاتها (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية) المختلفة، وفي أنساق القوة والهيمنة العالمية والإقليمية التي حكمت المشهد العالمي في العام 2011 المنصرم. غير أن المحور الرئيس في كل تلك التغييرات، هي تلك الأحداث الدراماتيكية المتسارعة، التي جسدتها الانتفاضات والثورات والاحتجاجات الشعبية الواسعة والممتدة التي شهدها ويشهدها العالم العربي، والتي بدأت في تونس، من ولاية سيدي بوزيد في 18 ديسمبر 2010 في أعقاب إحراق بائع الخضار محمد البوعزيزي لنفسه في 17 ديسمبر احتجاجا على إهانته، ومصادرة عربة الخضار التي يسترزق منها ثم امتدت لتشمل باقي المناطق بما في ذلك العاصمة تونس، في ثورة عارمة أطلق عليها «ثورة الحرية والكرامة» وأجبرت الرئيس التونسي (بن علي) السابق على الفرار إلى الخارج في 14 يناير 2011م. تداعيات الحدث التونسي شملت بمستويات مختلفة العالم العربي برمته، حيث تتالت الثورات والانتفاضات والاحتجاجات في مصر (ثورة 25 يناير) وليبيا (17 فبراير) واليمن (11 فبراير ) وسوريا (15 مارس). تلك البلدان حكمتها على مدى عقود نظم استبدادية انبثقت من انقلابات عسكرية، حيث كان الشعار المركزي المرفوع في الساحات والميادين «الشعب يريد إسقاط النظام»، وجرى بالفعل إسقاط رموز النظام بالفرار (بن علي) أو الخلع والمحاكمة (حسني مبارك)، كما تعرض ديكتاتور ليبيا معمر القذافي إلى القتل بصورة شنيعة على أيدي الثوار الليبيين، وبدوره اضطر الرئيس اليمني علي صالح إلى التخلي عن السلطة (رغم محاولاته المستمرة في المناورة والالتفاف) وفقا للمبادرة الخليجية، وفي سوريا لايزال الرئيس بشار الأسد يصارع شعبه، وعبر أساليب المراوغة، والترغيب، والترهيب، بما في ذلك استخدام ماكينته الأمنية المرعبة، التي تمارس أساليب القمع الدموية ضد الشعب السوري، من أجل ضمان البقاء والتشبث بالسلطة، مع وجود مؤشرات قوية إلى الانزلاق إلى عسكرة الانتفاضة، بما يحمل في طياته إمكانية انزلاق سورية إلى أتون حرب أهلية، قد تجر معها تدخلات خارجية، على غرار الحالة الليبية. لم تكن النظم العربية التقليدية بمنأى عن مفاعيل «الربيع العربي»، حيث شهدت المغرب، الأردن، وبعض البلدان الخليجية تحركات شعبية متنامية ترفع مطالب متفاوتة في جذريتها، لكنها تجمع على شعار «الشعب يريد إصلاح النظام» وقد استجابت بعض الحكومات مثل المغرب والأردن وعمان بدرجات متباينة إلى مطالب الإصلاح. لاشك إن ما جرى ويجري في العالم العربي من أحداث تاريخية مفصلية، في ما بات يوصف في الأدبيات الغربية والعربية بربيع الثورات العربية، قد فاجأت العالم برمته، تستوي في ذلك بعض الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية، ونخبها السياسية والاجتماعية والفكرية، ناهيك عن القوى العالمية والإقليمية، وبالأخص القوى الغربية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وبكل ما في حوزتها من مراكز الأبحاث والدراسات وأجهزة المخابرات والرصد المتقدمة. المنطقة العربية كانت حتى الأمس القريب ينظر إليها بعيون الخارج (وفي مقدمته الغرب) والداخل (الحكومات والنخب) على حد سواء، بأنها عصية على التغيير، ويرد ذلك وفقا لهذا الفهم لوجود سمات ثابتة لطبيعة النظم والمجتمعات العربية. الأسئلة المطروحة هنا: ما هو مآل الثورات العربية، في سياقاتها المختلفة، وإلى ماذا يمكن أن تفضي؟ وهل يدخل العرب مجددا التاريخ كذات فاعلة ومبدعة لمشروع عربي نهضوي جديد؟ أم أن الربيع العربي إلى ذبول في ظل صعوبات وتعقيدات وإخفاقات المرحلة الانتقالية، وكما يبدو للبعض كسحابة صيف عابرة وتائهة في سمائنا المحرقة، وأرضنا اليباب، الممانعة والعصية على التغيير؟. للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة