المعطيات الميدانية على الأرض تفيد بنجاح القوات العسكرية والكتائب الأمنية الموالية للقذافي (مؤقتا على الأقل) في إعادة فرض سيطرتها من جديد على بعض المدن المحررة من قبل الثوار في غرب ليبيا مثل البريقة وزوارة، كما أعلنت السلطات الليبية الحاكمة عن سقوط مدينة أجدابيا بشرق البلاد، وهو ما نفاه الثوار، في حين تتأهب بنغازي كبرى مدن الشرق الليبي (أكثر من مليون نسمة) والمعقل الرئيسي للثورة لصد هجوم محتمل من جانب كتائب القذافي. لقد سقط في تلك المواجهات الآلاف من القتلى والجرحى غالبيتهم الساحقة من المدنيين العزل. تلك الكتائب الأمنية وجحافل المرتزقة التي يقودها أبناء القذافي استخدمت مختلف أنواع الأسلحة المدمرة كالطائرات والبوارج الحربية والصواريخ والمدفعية الثقيلة بعيدة المدى مرتكبة عشرات المجازر الوحشية بحق الثوار والشعب الليبي الأعزل. كل ذلك يحدث تحت سمع وبصر دول العالم والرأي العام الدولي، على الرغم من صيحات ونداءات الاستغاثة والمطالبات من قبل القوى الثورية التي شكلت إطارها السياسي والعسكري البديل بفرض حظر جوي على ليبيا، وذلك بهدف وقف المذابح وتمكينها من سرعة إطاحتها بنظام القذافي الدموي المقيت، وفي هذا السياق دعت المعارضة الليبية الأممالمتحدة إلى السماح بتوجيه ضربات جوية للمرتزقة الذين يحاربون إلى جانب العقيد معمر القذافي، وفقا لتصريح المتحدث باسم المعارضة عبد الحفيظ غوقة في مؤتمر صحفي عقده في بنغازي حيث قال «ندعو الأممالمتحدة وأي منظمة دولية مسؤولة إلى السماح بضربات جوية على مواقع ومعاقل المرتزقة الموالين للقذافي». وأضاف غوقة «نطالب بضربات محددة على قوات المرتزقة». مشيرا أن المرتزقة يأتون من دول مثل النيجر ومالي وكينيا بعد أن جندهم نظام القذافي لكي يستعيدوا المدن الواقعة شرق البلاد والتي باتت بأيدي المنتفضين، كما هناك إجماع عربي لتأييد الحظر الجوي وتمثل ذلك في ما رشح من قرار جماعي لمجلس الجامعة العربية إثر مداولات وزراء الخارجية العرب بخصوص الوضع في ليبيا. الدول العربية التي تبدو عاجزة أو غير راغبة (لأسباب مختلفة) في تنفيذ قرارها. هذا القرار العربي يعطي المسوغ القانوني والمبدئي والأخلاقي للأمم المتحدة والدول القادرة على تنفيذ هذا القرار وخصوصا الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى التي سبق لها المطالبة في فترة سابقة بتوفير مظلة إقليمية لتنفيذ قرار الحظر. مجلس الشيوخ الأمريكي بدوره وافق على قرار غير ملزم يدعو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى دراسة فرض منطقة حظر الطيران فوق ليبيا لحماية المدنيين من الهجمات التي تشنها القوات الموالية للعقيد الليبي معمر القذافي. غير أن وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس قال أمام جلسة بشأن الموازنة في مجلس النواب الأمريكي «لنسم الأشياء بأسمائها فحظر الطيران يبدأ بهجوم على ليبيا لتدمير دفاعاتها الجوية ثم يمكن فرض حظر للطيران دون خوف من أن يتعرض رجالنا لإسقاط طائراتهم». الولاياتالمتحدة والدول الغربية تلكأت حتى الآن في تنفيذ قرار الحظر الجوي تحت ذرائع سياسية وعسكرية ومالية وضرورة وجود إجماع دولي وهو ما توضح من نتائج هزيلة لقمة مجموعة الثماني وقبلها اجتماع النيتو، ونحن بانتظار ما سيرشح عن اجتماع مجلس الأمن الدولي (الأربعاء 16 مارس من الشهر الجاري) في ظل معارضة متوقعة من بعض الدول وخصوصا الصين وروسيا (وفقا لحساباتهما ومصالحهما الاقتصادية والسياسية) على قرار فرض الحظر الجوي على ليبيا. الولاياتالمتحدة والدول الغربية التي يسودها الارتباك الشديد في مواقفها إزاء ما يجري في ليبيا من تطورات متسارعة والتي أخذتها على حين غرة، اكتفت حتى الآن بالتنديد وفرض بعض العقوبات مثل منع توريد السلاح وتجميد الأصول المالية لليبيا وللقذافي وعائلته وبعض أفراد حكومته وحاشيته. تلك المواقف تؤكد وجود المعايير المزدوجة للدول الكبرى، وبأن ما يحكم مواقفها في التحليل الأخير هو مصالحها المباشرة، وليس المبادئ والقيم الكونية في الحرية والديمقراطية والعدالة التي تدعيها. لقد سبق للولايات المتحدة والغرب التدخل المباشر وغير المباشر في العديد من الدول كما هو الحال في نزاعات البلقان، كما فرضت عقوبات مشددة بما في ذلك الحظر العسكري الجوي على العراق إبان حكم الديكتاتور السابق صدام حسين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا هذا التلكؤ الأممي والغربي حتى الآن رغم معرفة الجميع بأن أية ساعة تأخير تعني مزيدا من المجازر والمذابح التي ترتكبها عصابات القذافي ومرتزقته بحق الشعب الليبي؟ الجميع في العالم بما في ذلك الغرب يعرف التاريخ الأسود للديكتاتور القذافي وجرائمه الوحشية ومخططاته الغادرة في الداخل والخارج طيلة 42 عاما من حكمه التسلطي / الاستبدادي / الفاسد. نظام القذافي جرى تدجينه على إثر سنوات من العقوبات وإدراجه في قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وتأثير الهجوم العسكري الأمريكي الذي استهدف تصفية القذافي جسديا، وفي ضوء ما آل إليه صدام حسين ونظامه، مما أجبره على إعلان تخليه عن مخططاته في دعم الإرهاب في الخارج، وإنهاء برنامجه النووي، ومعلنا استعداده في التعاون التام مع أوروبا على صعيد مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية لأوروبا، كما أتاح للشركات الغربية والصينية والروسية والتركية وغيرها مجالات ضخمة للاستثمار في جميع المجالات الاقتصادية بما في ذلك القطاع النفطي، ناهيك عن صفقات التسلح التي عقدها مع تلك الدول والتي تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات. الأمر الذي جعلهم يغضون النظر عن انتهاكاته الخطيرة في الداخل. هذا التلكؤ والتردد الغربي وعدم الحسم إزاء الموضوع الليبي، لا يعود في المقام الأول إلى الخوف من الوقوع في المستنقع الأفغاني والعراقي على أهميته فقط، وإنما بهدف حماية مصالحهم عبر إنضاج الثمرة الليبية من خلال إضعاف وإنهاك ما تبقى من هياكل نظام القذافي و القوى الثورية في الآن معا، بحيث يكون الغرب والولاياتالمتحدة على وجه التحديد هي المخلص المنتظر، والتي تأمل استنادا إلى موقعها السياسي والعسكري المتميز أن تكون قادرة على إعادة صياغة واقع ومستقبل ليبيا المتخمة بالنفط والغاز والمال وفقا لمصالحها وأجندتها الخاصة. المخاض الليبي سيكون عسيرا ومكلفا وذلك في ضوء الطابع الدموي لنظام القذافي الذي بات يشعر بأن خياراته باتت محدودة في ضوء ما ارتكبه من مجازر مرعبة، ناهيك عن هيمنة التركيبة القبلية والمناطقية، وخصوصا تلك المرتبطة بالنظام الحاكم، وغياب التقاليد السياسية المدنية، ومؤسسات المجتمع المدني. الثورة الليبية هي على خلاف ما حصل في ثورتي تونس ومصر حيث الطابع السلمي والحضاري والمدني لهما رغم وقوع مئات القتلى والجرحى فيهما. الثورة الليبية تعمدت بالدم الذي سال غزيرا منذ يومها الأول، ومع استمرار العجز الدولي عن التدخل الإنساني لحماية الشعب، فإن ليبيا تقف اليوم أمام مفترق طرق، حيث تواجه سيناريوهات مخيفة مختلفة، من بينها التقسيم، أو الحرب الأهلية طويلة المدى، والتي ستعكس بظلالها على عموم المنطقة العربية التي تعيش بدورها حالة من الحراك الشعبي غير المسبوق، ولن تكون أوروبا والعالم بمنأى عنها. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة