التدين فطرة الله للإنسان، والأنبياء رُسل الله لتعزيز هذه الفطرة وتكميلها، وهو نص الكلام النبوي الشريف «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكما يقول الفقيه ابن تيمية: «الأديان تكمل الفطر، لا تؤسس الفطر»، وهو ما يؤيده النص النبوي أيضاً «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نَحلتُهُُ عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً»، الحديث في صحيح مسلم. إن التلقي الديني تجربة فردية وليس تطبيقاً معيارياً، ومن الخطأ استخدام لفظ «تطبيق»، إذ الصحيح أننا نتلقى ونتبع، كما هو استخدام القرآن الكريم (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)، والاتباع هو أمر الله لنبيه «عليه الصلاة والسلام»، (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)، وأمره للمؤمنين (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، ولكل أتباع الأنبياء (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). يصلح مصطلح التطبيق للماديات وقياساتها، لكن الروحانيات والمعنويات، وأجلها الشرائع، فهي ذات حراك إيماني معنوي يأبى أن تقولبه الأيديولوجيات الدينية والسياسية، ولعل هذا من السر في أن الدين حاضر في جدليات الحضارات كلها، وهذه مسألة مهمة جداً ولها صلة بجذور مسألة (تطبيق الشريعة)، هذا المركب الذي كان له أثره البالغ الممتد من الكلمة إلى الدم! ولعلي أفردها بمقالة خاصة حول «الشريعة... نتبع أم نطبق»؟! تجربتك الدينية الفردية تخضع للاستعدادات النفسة والقوة العقلية والظروف التعليمية والاجتماعية والسياسية، والأحدات والتغيرات. الحال المعيشية التي عليها الإنسان من الغنى والفقر، والصحة والمرض، وتقدير المصالح والمفاسد بين التغليب والتقاطع. وهكذ الفقيه الرشيد يفهم، وفي تعبير فقيهنا التيمي: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين». كما تتأثر بالحال والظرف الاجتماعي من العائلة وتكوناتها وعاداتها وأعرافها، لاسيما والدين منهج سلم اجتماعي لا يخرج المجتمعات من كينونتها ليضعها في كينونة مختلفة كلياً، وإنما الدين مكمل لجماليات النفوس وأخلاقيات الحمال (لأتمم مكارم الأخلاق)، ومن هنا فهو يحفز على تغيير العادات والأعراف والكلمات والمفاهيم الغالطة، ويضع لأتباعه رؤية تصلهم بالوجود كله. الأمر الذي يجعلني أفهم أن الدعوات التي تقوم على الفصل المجتمعي بسبب التدين غير صحيحة. كما أنني أدرك السر في التعايش الاجتماعي والانسجام المدني في العصر النبوي، مع اختلاف الأديان، فضلاً عن الاختلاف الاجتهادي داخل الدين الواحد. لأخلص قائلاً: إن التأثير الاجتماعي في التدين لا يمكن تجاهله، بل يجب تقبله كنسيج من التدين. ولعل العام الهجري التاسع، وهو عام الوفود الذي شهد حالات اجتماعية مختلفة، وبما أنها مختلفة تماماً كانت تفد للرسول «عليه الصلاة والسلام» تطلب الدين والإيمان، لم ترجع منه متبدلة اجتماعياً، ولكنها رجعت تحمل رسالة وتضطلع بمسؤولية، كما تخضع التجربة الدينية للمراحل العمرية وأثرها في النشاط الجسدي، وطبيعة كل مرحلة وما يناسبها، من الشباب إلى الشيخوخة. وكم في تلك المراحل من كل شيء! ولكل شيء اعتباره وآثاره. تدينك في مستواه النفسي وما يحققه من طمأنينة النفس وانشراح الصدر، وانبعاث أخلاق النفوس وقواها الإيجابية. تدينك في مستواه العقلي الذي يقوم فيه العقل بعمليات الاستدلال والسؤال والتركيب، وأيضاً تجاوز ما لا ينفع، فللعقل إدراكاته. تدينك في مستواه الجسدي، صحة وغذاء ونظافة وتألقاً ولباساً ورائحة، كل ذلك تمام في إحسان تدينك. تؤثر تلك التقاطعات في تجربتك الدينية، من المهم أن يعيش الإنسان تجربته الدينية على مستوى الروح والنفس والعقل والجسد بانسجام لا توتر فيه. وكل تجاهل لها باسم التدين فإنما هو تجاهل لحقيقتك، وإسقاطاً لشخصيتك، وتحملاً لضغوط وأمراض نفسية ما تلبث أن تخرج على سطحك، ولربما تزري بك وتحط من قدرك (وهم لا يشعرون).