أشرف إحسان فقيه* نقلا عن "الوطن" السعودية إذا كانت ضبابية تحديد رأي الشارع تمثل معضلة، فإن البحث وراء أسباب الرفض هي معضلة أكبر وهي القضية الحقيقية التي يجدر أن يخاض الجدال والنقاش في سبيلها. سنقر أولاً بأن مسألة "قيادة السيارة" هذه قد صارت بمثابة العقدة في منشار كل قضية حقوقية خلافية. إنها ليست المسألة الأهم.. لكنها المسألة "الرمز". وحين كتب الأستاذ (عبد الرحمن الراشد) يوم الأربعاء الماضي في (الشرق الأوسط) تحت عنوان (لن تقود المرأة السيارة في السعودية).. فإنه قد واجهَنا بعدة أسئلة محورية فيما يخص أي قضية حقوقية شعبية بالبلد.. والأسئلة التي ستواجهنا هنا تنسحب على كل طرح في هذا الإطار. يقول الأستاذ الراشد إن تعليق الأمر بشماعة القرار الرسمي هو غير صحيح.. لأن الموافقة يجب أن تصدر عن الإرادة الشعبية.. والإرادة الشعبية -كما يظهر- هي غير متصالحة بل ورافضة لسواقة النساء. هذه القراءة عموماً "تكبسل" الكثير من تعقيدات المشهد السعودي وسخرياته، لأن التاريخ يثبت أن "الإرادة الشعبية" لم تكن يوماً متصالحة مع ال"تغيير".. يثبت ذلك تاريخ الإذاعة والتلفزيون وتاريخ تعليم البنات وتاريخ "الدِش" الذي استشهد الراشد أيضاً به كدليل على قدرية الأمر الواقع.. كما أن التاريخ يثبت أيضاً أن الإرادة الشعبية تم تطويعها مراراً وتكراراً في مقابل الصالح الاستراتيجي. أصلاً.. فالكلام عن الإرادة الشعبية وعن "رأي المواطن" يجرنا جراً لصلب المسألة، لأنه يبدو من المستحيل أن تتحصل على قراءة حقيقية لرأي المواطن السعودي. ليست هناك آلية عادلة لتحصيل رأي الجمهور. ليس هناك إحصاءات رسمية معلنة. هناك "جس عام" للنبض. وهذا قائم على وسائل مخاتلة: منتديات الإنترنت، عرائض الاحتجاج أو المساندة الموقعة من شخصيات اعتبارية إنما ذات مكاسب متقاطعة والصالح العام، هناك أيضاً الصوت النخبوي عبرالصحف وهذا فقط يعبر عن صاحبه ولا يصح أبداً أن يتم تجييره لينوب عن صوت رجل الشارع.. الذي تحكم رأيه في المقابل اعتبارات تيارية وهواجس غير مرتبطة دوماً بعوامل صنع القرار الحقيقية: الاقتصادية والحضارية والاجتماعية. رأي الجمهور بالسعودية إذاً غير معروف. هناك رافضون وهناك مؤيديون وبينهما هناك "حق" ضائع. وإذا كانت ضبابية تحديد رأي الشارع تمثل معضلة، فإن البحث وراء أسباب الرفض هي معضلة أكبر وهي القضية الحقيقية التي يجدر أن يخاض الجدال والنقاش في سبيلها. لماذا يرفض السعوديون أن تقود نساؤهم السيارات؟ لقد حظي هذا السؤال بكل أشكال الإجابة الممكنة. وكلها سقطت الواحدة تلو الأخرى. في البداية كان هناك رأي شرعي قائل بالحرمانية.. ثم سقطت هذه الفتوى بعينها وبقي باب سد الذريعة. بعد ذلك تم التمترس بالرأي السياسي والنظامي قبل أن تثار المسألة قبل خمسة أعوام تحت قبة الشورى. واتضح أنه لا النظام الرسمي يحدد جنساً لقائد المركبة، ولا صانع القرار عنده إشكالية.. وتم تعليق المسألة أخيراً في رقبة العرف الاجتماعي. هذا "العرف الاجتماعي" بالذات هو الذي سيأخذنا مجدداً لمربط القرار الرسمي، إذ سيقول لك الأخ المواطن الرافض للفكرة إنها "عيب".. والعيب مبدأ فضفاض وغير عمومي ولا يصح أن يحدد مادة القانون. سيقول لك الأخ المواطن الرافض للمسألة إن القيادة خطر على المرأة ومهلكة للنفس. وهذه حجة مدهشة لأنها مدعاة لاسترخاص أرواح الرجال.. وإلا وجب من باب أولى حظر استخدام السيارة بالكلية. سيقول لك المواطن إنه لا يأمن على نسائه من شرور الطريق: من التحرشات والمضايقات من الجرائم التي سيؤدي لها وجود نساء بمفردهن في السيارات. وهذه -حقيقة- حجة وجيهة وجديرة بالاعتبار.. لكنها أيضاً حجة معيبة ومخجلة جداً.. لأنها تكشف لنا حقيقة الإشكالية، فقيادة المرأة السعودية للسيارة ليست قضية خاصة بالنساء ولا هي مسألة مساواة ولا مسألة حق مفقود. إنها هكذا تصير إشكالية مجتمع بأكمله وإشكالية أمنية في المقام الأول. إنها إشكالية أخلاق وأزمة ثقة على مستوى البلد. فنحن قد أقنعنا أنفسنا بأننا شعب ذو خصوصية وتميّز مطلق ومختلفون عن البقية من حولنا، لكن وفيما تأمن الحرة من مواطنات كل الدول العربية والمسلمة على نفسها وتقود سيارتها وحدها لا تخشى إلا الله، فإنك تجدنا نتجادل ونتناقش ونتشاجر.. إن كان من الحكمة أن يسمح أحدنا لابنته أو امرأته أن تخرج بدون ولي أمر.. أو بدون سائق آسيوي يحفظها من "ابن البلد" الذي قد يتهجم عليها إذا استفرد بها! هذه هي الإشكالية الحقيقية التي تستحق أن تتعطل قضية سواقة المرأة بسببها، والتي يتخبط رأي المواطن العادي ككرة (البينج بونج) بين مضارب التيارات والرؤى في سبيلها. القضية أمنية تربوية في المقام الأول.. وحلها بعيد المدى يتطلب خطة طويلة بطول سور الصين.. خطة رسمية تقوم عليها أجهزة الدولة المعنية بالأمن والتعليم والإعلام لخلق مواطن أكثر مثالية وتحضراً.. وإلا فإن المواطن العادي لم يعلمه أحد كيف يكون له رأي وكيف يعدل سلوكه ليخدم المصلحة العامة. المسألة مسألة حكومية بامتياز يا أستاذ عبد الرحمن الراشد!