«افتح مطعما أو مستشفى؛ لأن الشعب كله يهتم بالأكل، فإذا أكل مرض واحتاج إلى علاج وفي هذين القطاعين تكسب الذهب»، هذه كانت توصية أحد المستثمرين العرب لأحد شباب الأعمال، ولما رأى الدهشة على ملامح الشاب وضح له قائلا: هل ترى شارعا تجاريا في أي مدينة يخلو من مطعم ومغسلة؟ الناس تبحث عن الأكل في كل مكان، وينتقل معها أينما سافرت، ولذلك تجد مطاعم المندي والحنيذ والمطبق والمثلوثة في العواصم العربية لخدمة السياح السعوديين، هذه المحادثة جرت قبل عام، وقراءة المستثمر العربي للسوق السعودي - وإن كان فيها شيء من المبالغة والظلم - فإن من المؤكد أن قطاع الأغذية والأدوية يعد من أخطر القطاعات وأهما التي تمس حياة الناس وأكثرها حساسية، وترك السوق مفتوحا لمنتجات مصانع العالم، أو إعداد من هب ودب في الداخل من دون رقيب أو حسيب فيه عبث بمصائر الناس وحياتهم وصحتهم. حين أنشئت الهيئة العامة للغذاء والدواء عام 1424ه أنيط بها جميع المهمات الإجرائية والتنفيذية والرقابية؛ لضمان سلامة الغذاء والدواء للإنسان والحيوان وسلامة المستحضرات الحيوية والكيميائية، وكذلك الإلكترونية التي تمس صحة الإنسان، وتحولت بعض القطاعات والإجراءات إليها من وزارات أخرى، وهو أمر مهم، فمقاييس هيئة الغذاء الأمريكية والبريطانية المطبقة في دولها منذ سنين طويلة تعطي الفرد شعورا بالاطمئنان، بأن هناك جهة تقنن السوق بأنظمة رقابية متجانسة، ومرة انتقد أحد الأصدقاء الهيئة؛ لأنه لم يسمع عن إنجازاتها بالشكل الذي ينتظره، فقلت له: إن عدم سماعنا بإنجازاتها دليل على أنها تعمل في الطريق الصحيح؛ لأن مهمة الهيئة أن لا تفسح أي منتج غذائي أو طبي أو تجميلي إلا بعد موافقتها، ومعنى ذلك أن عدم ظهور مواد ممنوعة، أو ضارة، أو غير صالحة، في الأسواق دليل على أنها تقوم بواجبها على الوجه الأكمل، كجهود الطب الوقائي في منع ظهور الأمراض، غير أنه رد علي بأن الهيئة اكتشفت في الأسواق منتجات ممنوعة بعد دخولها، واستخدام الناس لها لفترة تطول وتقصر حسب طبيعة المنتج، ولماذا لم يتم منعها ابتداء وليس بعد خراب مالطة؟ وحتى لا نكون متذمرين كما يتهمنا بعضهم، ونتعلق دائما بالأمل أرى أن الهيئة قامت بإنجازات جيدة، واكتشفت أمورا حذرت منها حتى ولو كانت في الأسواق، فتكون نصف مصيبة على قول إخواننا بالشام، فالعينات التسع من منتجات الكحل، التي حللتها الهيئة وجدتها ملوثة بالرصاص بمقدار عشرة أضعاف على ما هو مسموح به في المواصفة السعودية، وسبع منها فيها نسب عالية من البكتيريا تزيد على الحد المسموح به، وأغذية الأطفال هينز، وبعض مستحضرات نستله وشامبو الأطفال، الذي يؤدي إلى إصابتهم بتسمم دموي والتهاب السحايا وملتحمة العين والمسالك البولية ثم الوفاة كل هذه إنجازات تحسب للهيئة ويطمئن الناس أن هناك جهة تراقب وتتابع وتحلل وتمنع، حتى وإن كان هناك بطئا في أدائها، فليس في موقع الهيئة غير دراستين أجريتا عام 1425، وأتوقع أنه لم يتم تحديثه ولم تتوقف الدراسات، لكن ما لا يمكن فهمه هو أن تقوم الهيئة بنقل مهام الرقابة على الغذاء المستورد من وزارة التجارة، في هذه الأشهر أي بعد مرور ست سنوات على إنشائها، وعلى أي حال أتمنى أن تحكم قبضتها على الغذاء بنفس الإيقاع والنجاح في قطاع الأجهزة الطبية. أما إذا انتقلنا إلى قطاع الأغذية المنتجة محليا في المطاعم والبوفيهات والكافتيريات والفنادق فإن الأمر بالتأكيد لا يبعث على الطمأنينة، فالاستطلاع الذي أجرته الهيئة على عينة كبيرة من المواطنين أظهر أن نسبة التسمم الغذائي في المملكة تصل إلى 37.6%، أي بنسبة تزيد على الثلث، وطبيعي أن ما ينشر في الصحف والإنترنت يعد قليلا جدا، مقارنة بالواقع، فكثير من الحالات تعالج في المستشفيات من دون أن يعلن عنها، وتكشف لنا الرسائل الإلكترونية عن أخبار مخيفة إن افترضنا صحتها مع أنها مدعمة بالصور، وهي ليست مطاعم في منطقة منعزلة أو بعيدة عن الرقابة، ولكنها مطاعم مشهورة في الرياضوجدة، بأسماء محلية وعالمية معروفة، ولم نجد مع ذلك جهة رقابية، أو من أصحاب المطاعم سوى مطعم واحد يهتمون لصحة الناس ومشاعرهم، وإن ببيان يقول إننا نحقق في المسألة وتعلن النتائج مهما كانت ليطمئن الناس على الأقل، ويشعرون أن هناك جهة رقابية تتابع وتحاسب، أما تجاهل الأمر فإنه ينقل رسالة خاطئة مؤداها أن صحة الناس هانت عليهم، أو ما عندك أحد. لاشك أن مراقبي صحة البيئة في الأمانات والبلديات يقومون بدورهم في التفتيش والتحقق من توفر الاشتراطات الصحية، رغم ضعف الإمكانات من دون التوقف عند إشاعات تقاعس أو تواطؤ بعض المراقبين مع أصحاب المطاعم، ولكن يضحكني كثيرا حد الألم قيام بعض البلديات بالاتصال بالصحفيين لمرافقتهم في حملة تفتيشية مفاجئة، وتكون الحصيلة اكتشاف مخالفات مقززة ومنفرة، هذا له معنيان: أحدهما أن هذه المطابخ معروفة سلفاً للمراقبين وتم تأجيلها إلى حين التغطية الإعلامية، وفي هذا استهانة بصحة الناس الذين أكلوا في الفترة بين الاكتشاف والمداهمة، والثاني أن صحة البيئة بريئة من تهمة التخطيط المسبق وهذا يعني أن البلاء عم وطم وأي زيارة عشوائية تكشف عن البلاء المستتر. لنترك احتمالات سوء الظن ونتفق على صدق الجهود المبذولة مع ضعف الإمكانات وقلة الأفراد وضعف القوانين العقابية وندلل بقصة نشرتها صحيفة الرياض مدعمة بالصور عن مطعم أغلقته صحة البيئة ووضعت عليه لوحة، فأوقف صاحب المطعم سيارة كبيرة أمام الواجهة؛ لإخفاء اللوحة ولما فطنت صحة البيئة وأبعدت السيارة قام بنصب سقالات وأخشاب ليوحي أنه يقوم بالترميم مخفيا اللوحة، ولو علم صاحب المطعم أن عقوبة تنتظره ولو بالتشهير لما تصرف باستهتار ولا مبالاة. نحن نعلم أن نسبة التسمم الغذائي عالية، وهناك مليونا طفل في العالم يتوفون لتناول طعام، أو ماء ملوث، والدكتور إبراهيم المهيزع نائب رئيس الهيئة يؤكد أن بيئة المملكة ملائمة لحدوث التسممات الغذائية على مدار العام، وهناك دراسة توصلت إلى أن نسبة الإصابة بالسرطان زادت 20% على السنة الماضية، ونعلم أيضا أن كثيراً من العمالة همها جني الربح، وآخر همها صحة المواطن والمقيم، لذلك لا حل إلا تكثيف الرقابة الصارمة على هذه المواقع من دون استثناء اسم كبير أو مالك شهير، ولا حل لذلك إلا بزيادة عدد المراقبين المؤهلين النزيهين، فما الذي يمنع ونحن نشكو من بطالة نختلف في نسبتها، أن نعين عددا من أبنائنا بعد تأهيلهم وتدريبهم؛ لأنه يمس صحة كل فرد ويدخل في حياة كل بيت بشكل يومي.