الخروج من العباءة الأمريكية واستقلال أوروبا، حلم طالما راود العديد من قادة أوروبا في الماضي والحاضر حتى قبل نشوء الاتحاد الأوروبي. تجسد ذلك منذ ستينيات القرن الماضي عندما أقدم الجنرال ديجول على انسحاب فرنسا من قيادة حلف شمال الأطلسي في ذروة الصراع المباشر ومن ثم الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. لقد وصل الأمر في تلك الأثناء إلى درجة من التطرف والتحدي دفعت الجنرال ديجول إلى زيارة مقاطعة كيبك الناطقة بالفرنسية في كندا وألقى خطابه الشهير الذي أنهاه بنداء «تعيش كيبك مستقلة». ما جرى بعد ذلك معروف ملخصه تغلب ظروف التحالف الغربي الواقعية في الحرب الباردة بين المعسكرين على كل المحاولات «الاستقلالية» الأوروبية وصولا إلى انهيار المعسكر الشرقي وتفكك دول المنظومة الاشتراكية. مع هذا الانهيار الكبير، بدأ التبشير في كل مكان -وبشكل نخبوي في الولاياتالمتحدة - ببزوغ عالم جديد متعدد المراكز. بدأ هذا العالم افتراضيا لأن واقع ما حدث كان يمثل «انتصارا» لمعسكر الديمقراطية الغربية على المعسكر الشرقي كرّس له المفكر الأمريكي فوكوياما مؤلفا بعنوان «نهاية التاريخ» تراجع عما جاء فيه لاحقا. هذا العالم الجديد، كان يحمل جرثومة تفككه أعراضها واضحة: القوة الأمريكية الضاربة على كل المستويات وتحديدا الاقتصادية والعسكرية والسياسية. هذا الخلل في «العالم الجديد»، كان لا بد له أن يتفاقم بفعل التطور المستقل نسبيا في الفضاءات الاقتصادية الجديدة ليس فقط في روسيا والصين والاقتصاديات الناشئة القوية في شرق آسيا والهند وجنوب أفريقيا، و «مجموعة العشرين»، بل وقبل هؤلاء جميعا في أوروبا. هذا الخليط العجيب من الأنظمة السياسية المختلفة والتي جميعها تعمل وفق نظام اقتصادي واحد - النظام الرأسمالي- تحت مظلة منظمة التجارة العالمية. هذا الخليط، وبدلاً من أن يوفر خصومات ومنافسات اقتصادية سلمية كما بشر بذلك حكماء سياسيون واقتصاديون هو الذي أوصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من حروب ودمار أضفت على أسباب الصراع الاقتصادي الحديث أسبابا استلها فقهاء الحروب من أعماق التاريخ لأسوأ ما مر به الإنسان في مراحل تطوره نحو الخير والفضيلة. اليوم ليس من الشماتة في شيء أن يكون الأوروبيون شركاء للشعوب الأخرى في تحمل تبعات سياسة الهيمنة من جانب واحد ومن حليف عضوي قادر على تخريب مصالحهم. حاربوا ترامب وقالوا عنه الكثير لأنه استصغر الاتحاد الأوروبي وحتى حلف شمال الأطلسي. راهنوا على الولاياتالمتحدةالأمريكية - دولة المؤسسات - التي ستقيم اعتبارا للتحالف التاريخي القائم على الثقافة والتاريخ المشترك. فات الأوروبيون أن أمريكا لم تتغير وأن من يعرقل مصالحهم مع روسيا في الغاز والاستثمارات ليس الرئيس ترامب بل الكونجرس بأغلبيته من الجمهوريين وكل «المؤسسات» العريقة التي بناها المعمرون الأوائل. اليوم يتنادى الأوروبيون في باريس وبرلين وفيينا وفي قيادة الاتحاد الأوروبي للوقوف ضد العقوبات الأمريكية على روسيا لأن هذه العقوبات جاءت منفردة ومضرة للمصالح الأوروبية وبخاصة في مشروع أنابيب الغاز الذي تنفذه شركات روسية - ألمانية برئاسة المستشار الألماني السابق جرهارد شنودر. الكونجرس صوت بالأغلبية على العقوبات تعبيرا عن سياسة الولاياتالمتحدة - أم للحد من تفرد الرئيس ترامب - هذا شأن أمريكي لا يخص حتى أقرب الحلفاء الذين لا بد أن يعرفوا على من يراهنون في الولاياتالمتحدةالأمريكية إن كان ثمة رهانات.