«أن تُخَرِّج المجتمعات أصحاب فكر ومعرفة ما بين الحين والآخر فهو أمر طبيعي، لكن أن يُخَرِّج رجل مجتمع بأكمله فهو ليس من الطبيعة بمكان، رجل من بُناة الفكر والعلم والمعرفة، لا يكل ولا يمل من تصدير الثقافة للأجيال تلو الأجيال، هو إن شئت فسمه مدرسة، وإن شئت فسمه الأب الحنون الذي يثري العقول، قلمه جف حبره وما جف من كثرة ما خطَّ وسطَّر»، رجل رحل ولم يرحل فهو باقٍ في ذاكرة الوطن وفي ذاكرة الثقافة والفكر والإعلام .. كتب الكثير ولم يكتب عنه الكثير فهل يكون الرحيل بداية لاستعادة الذاكرة عن قامة كبيرة هي قامة الشيخ الراحل الباحث والمؤرخ والاعلامي والشاعر والاديب عبد الكريم الجهيمان؟ هناك من كتب بتفصيل عن الرجل وحياته مثل الباحث محمد بن عبد الرزاق القشعمي الذي ألقى الضوء على حياة تلك القمة الشامخة، إلا أن هناك الكثير مما يحتاج إضاءته فالرجل كتب عن الاساطير في وقت لم يفكر أحد او يعرف معني ذلك.. وإذا كان الإبحار في الماضي سباحة ضد تيار الزمن بحثا عن الحقيقة، ففي الطريق نقابل الكثير ونكتشف الكثير، ونصطدم بالكثير ..لكن متعة البحث والاستقصاء لا تقارن ورحيل هذا الهرم الكبير والقامة الثقافية الشامخة تجعلنا نبحر في الماضي وفي ذاكرتنا مما نحمله له ما يدفعنا انطلاقا من الحاضر ان نضيئ لرجال صنعوا المستحيل ومواقف آن للأجيال أن تعرفها.. فعندما يكتب تاريخ الصحافة في بلادنا يأتي عبدالكريم الجهيمان ضمن الرواد وخاصة صحافة المنطقة الشرقية، فقد ساهم فيها بجهد وافر إلى جانب جهوده في التأليف والمحافظة على التراث والأساطير الشعبية، حين قدم للمكتبة العربية (الأمثال والأساطير الشعبية) الذي صدر في عشرة أجزاء ضخمة، وكذلك (أساطير شعبية من شبه الجزيرة العربية) الذي قدمه على شكل سلسلة من خمسة أجزاء، وساهم في أدب الرحلات بكتابيه (دورة مع الشمس) و(رحلة باريس) وكتب قصص الأطفال في مرحلتين الأولى عام 1399ه ضمن سلسلة مكتبة أشبال العرب وصدر منها عشر قصص، والثانية عام 1405ه ضمن سلسلة مكتبة الطفل في الجزيرة العربية، إلى جانب كتبه دخان ولهب، وأين الطريق، وآراء فرد من الشعب، وأحاديث وأحداث. واعترافاً بجهده الأدبي كتب عنه الكثيرون وألفت عنه الكتب، وكرم على أعلى المستويات. والحديث عنه كإعلامي يرتبط بشكل وثيق بمنتجه الثقافي المتنوع، لكن البداية تظل هي الصحافة خاصة والإعلام عامة.. . في بلادنا يأتي عبدالكريم الجهيمان ضمن الرواد وخاصة صحافة المنطقة الشرقية، فقد ساهم فيها بجهد وافر إلى جانب جهوده في التأليف والمحافظة على التراث والأساطير الشعبية، حين قدم للمكتبة العربية (الأمثال والأساطير الشعبية) الذي صدر في عشرة أجزاء ضخمة أخبار الظهران ويذكر الباحث محمد عبد الرزاق القشعمي في كتابه (البدايات الصحفية) نقلاً عن الجهيمان (وبعد رجوعي إلى الرياض من تلك السفرة الطويلة مع الأمير يزيد وبعد فترة قصيرة من عملي لديه استقلت من عملي لديه ثم توجهت من الرياض إلى المنطقة الشرقية وكان لي فيها صديق هو الأستاذ عبد الله الملحوق وقد أنشأ شركة للطباعة سماها (شركة الخط للطبع والنشر) وكان قد عزم على الانتقال إلى لبنان فعرض علي أن أتولى إدارة هذه الشركة.. وشجعني على ذلك وقال إنها أول شركة للطباعة في هذه المنطقة ولها مستقبل باهر... فوافقت على هذا العرض وساهمت في هذه الشركة بعدة أسهم وتوليت إدارتها وكان مقرها الدمام... وسار العمل فيها ونمت مطابعها وقدراتها ثم رأينا مع أعضاء الإدارة أن نطلب الترخيص بإصدار جريدة يومية تكون منطلقاً للأخبار وأقلام الكتاب، وجاءت الموافقة بإصدار هذه الجريدة باسم (أخبار الظهران). صدور الجريدة وصدر بعض أعداد هذه الجريدة من بيروت لأن مطابع الخط لم يكن لديها الاستعداد آنذاك لإصدارها فكنا نرسل المواد كاملة إلى بيروت... وبعد فترة قصيرة تولينا إصدارها من الدمام نصف شهرية مؤقتاً.. وكانت في بدايتها ضعيفة هزيلة كأي عمل جديد.. ولكن المثقفين المهتمين بالقراءة تابعوها وتابعوا أخبار المنطقة إلا أنهم لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من السكان. ويقول علي جواد الطاهر في كتابه معجم المطبوعات متحدثاً عن جريدة الظهران: (صدرت بالدمام في 1/5/1374ه الموافق 26/ كانون الأول 1954م تولى رئاسة تحريرها في أول صدورها عبد الكريم الجهيمان، ثم تحول اسمها إلى (الظهران) توقفت قبل صدور نظام المؤسسات، ويقول محمد ناصر بن عباس في كتابه موجز تاريخ الصحافة في المملكة الطبعة الأولى 1391ه صدرت هذه الجريدة بالمنطقة الشرقية وتولى رئاسة تحريرها في أول صدورها عبد الكريم الجهيمان الذي كان يتولى آنذاك إدارة شركة الخط للطبع والنشر، ثم تحول اسمها إلى (الظهران ). صدرت الأعداد الأولى من جريدة الظهران المانشيت العنوان الرئيسي واسم الجريدة باللون الأحمر عندما كانت تطبع في بيروت من العدد .. ومن العدد 13 الصادر يوم الخميس 15 ذي الحجة 1374ه بدأ طباعتها بالدمام. كانت الجريدة موضع الثقة من الحكومة ومن المواطنين على حد السواء عندما كثر قراؤها وظهر من بين العمال في الشركة كتاب ومفكرون صاروا يغذون هذه الصحيفة بألوان من البحوث والمقالات المليئة بالوطنية والإخلاص والجرأة في بعض الأحيان. يقول الجهيمان: (وقد اكتسبت من رئاسة تحرير هذه الصحيفة مكسباً معنوياً وكانت نقلة جديدة في حياتي الوطنية والفكرية، حيث كان يرد إلى هذه الصحيفة مختلف الآراء والاتجاهات منها ما يكون متزناً ومنها ما يكون مندفعاً أو متهوراً ومنها ما يكون مدسوساً فيه بعض الأفكار التي لا تتناسب مع محيطنا ومجتمعنا المحافظ الذي تسوده قيم وأخلاق توارثها الخلف عن السلف. وكنت بصفتي مسئولاً عن هذه الصحيفة ومسئولاً عن جميع ما ينشر فيها أنخل ما يرد إلي من بحوث ومقالات وأخبار فأعرف منها مختلف التيارات التي تعيش في المجتمع أو يعيش فيها بعض فصائل المجتمع. كان هذا هو هدف هذه الصحيفة منذ نشأتها ولكن بعض المواطنين يطالبوننا بحرية واندفاع إلى الأمام أكثر مما نحن عليه سائرون بل يريدوننا أن نقفز في درجات سلم أهدافنا قفزاً فنحاول أن نفهمهم أن القفز قد يعرض إلى السقوط وأن الاتزان هو الطريق الأسلم. والسير المتواصل وإن كان بطيئاً يصل بصاحبه إلى الأهداف التي رسمها لنفسه والتي قد لا يفصل بينه وبينها إلا خطوات معدودة».
سيرة الراحل صحفي وأديب وباحث ومثقف سعودي، ولد عام 1912 م في بلدة غسلة ونشأ في بلدة القرائن، وهما بلدتان متجاورتان في نجد. تعلم لدى الكتاتيب في بلدته، ثم انتقل عام 1925 م إلى الرياض ودرس لدى مشايخ المساجد لعام واحد، ثم غادر في 1926 م إلى الحجاز وتحديدا إلى مكة، حيث التحق في سلاح الهجانة في العام ذاته، ولبث فيه مدة عام ثم انتقل للدراسة في المعهد العلمي ، وبعد ثلاث سنوات تخرج من المعهد وانتدب لإنشاء المدرسة الأولى في بلدة الخرج وذلك عام 1930. بعد مضي عام على إنشائه مدرسة الخرج، طلب منه الملك سعود أن ينتقل إلى الرياض ليقوم بتدريس أبنائه، وهو ما حصل في العام 1931،وبقي في تعليم الأنجال مدة عام انتقل بعدها إلى الظهران وأنشأ جريدة (أخبار الظهران) وهي أول صحيفة تصدر من شرق الجزيرة العربية، غير أن الصحيفة التي كان يرأس تحريرها سرعان ما أوقفت بعد أعداد قليلة، حين نشر الجهيمان مقالا يدعو إلى (تعليم المرأة) ولم تكن هناك مدارس لتعليم الفتيات في أي منطقة من الجزيرة آنذاك.. زار الجهيمان في فترة الستينيات والسبعينيات مدناً عديدة في العالم، وألّف عنها العديد من الكتب، أهمها كتاب اسمه (رحلة مع الشمس) يحكي فيه فصول رحلته الكبرى، حيث غادر من الشرق وعاد من الغرب، كما ألّف كتابا بعنوان (ذكريات باريس) .. من أشهر أعمال الجهيمان : موسوعة الأساطير الشعبية في شبه الجزيرة العربية خمسة أجزاء. موسوعة الأمثال الشعبية عشرة أجزاء . أصدر مجموعة من الكتب جمع بها مقالاته التي سبق أن نشرها أو بعضها في الصحف وهي: - «دخان ولهب» مختارات من مقالاته في صحيفة أخبار الظهران. - «آراء فرد من الشعب» مختارات من مقالاته في صحيفة القصيم. - «أين الطريق؟» مختارات من مقالاته في صحيفة اليمامة. - «أحداث وأحاديث» مختارات من مقالاته في صحف مختلفة. إلى جانب تأسيسه لمكتبة أشبال العرب قبل عشرين عاماً ،وإصدارها للطفل العربي ،وصدر منها عشر قصص ومثلها تأسيسه لمكتبة الطفل في الجزيرة العربية وإصداره عشر قصص أخرى . كُرِّم الراحل في اكثر من مناسبه منها تكريم مهرجان الجنادرية ومعرض الكتاب ، وجهات عديده أخر ى منها نادي الشرقية الأدبي وجمعية الثقافة والفنون. تُرجمت بعض كتبه إلى لغات أجنبية منها الروسية.
مثقفون: رحيل الجهيمان يعد فقدا لآخر رواد ومؤسسي الحركة الثقافية والأدبية في المملكة عبّر العديد من الأدباء والمثقفين والإعلاميين عن حزنهم لرحيل الرائد الشيخ عبد الكريم الجهيمان مثمنين جهده وريادته في مجال الفكر والصحافة والإعلام والدور الهام الذي قام به في الحياة الثقافية في المملكة : محمد الشقحاء: كان مرجعا ومؤرخا ومسجلا للموروث الشعبي وراصدا للحكايات الشعبية ورجلا موسوعيا ،فقدم الكثير للمكتبة الشعبية بفقده فقدنا أبرز جيل الرواد، رحمه الله.
الدكتور عبدالمحسن القحطاني: الجهيمان كان رمزاً من رموز الثقافة في بلدنا ودائماً يدعم مسيرة الشباب هذا الدعم تجلّى في سلوكه قبل أن يتجلى في عمله . مضيفاً : بدأ بالشعر في أول حياته ثم بدأ يميل إلى الأساطير والحكايات يقرأها بتأمل ويفحصها بمهارة .لم يكن جامعاً لهذه الأساطير فحسب بل كان دارساً وناقداً لها . وهذا ما أعطاها زخماً وحضوراً عند المثقفين .لم يستسلم رحمة الله عليه للأساطير ،وإنما وقف محاكماً ومتسائلاً ثم مرجحاً . هذا هو عبدالكريم الذي أراه دوماً في معارض الكتب يتلفت إلى الكتاب فيختبره قبل شرائه ومعه تلاميذ يثق فيهم ويثقون به. وأرجوكم أن تسألوا الأستاذ القدير محمد القشعمي فعنده الجواب الفصل .
عبد الحفيظ الشمري: رحيل الجهيمان يعد فقدا لآخر رواد ومؤسسي الحركة لثقافية والأدبية في بلادنا فهو -رحمه الله -كان من اوائل من كتبوا الحكاية الشعبية بأسلوب فني ،أي انه اخرجها من كونها حكاية أو سبحونة أو تعويذة أو أرجوزة إلى عمل ادبي تلتقط منه خصائص القصص الحديثة ،فكان في نقل المنجز الأدبي العربي بشكله التراثي إلى القراءة العادية، أي أنه يكتب بمذكراته ما يطّلع عليه من مؤلفات كتب وسير قديمة بمعنى أنه نقل التراث إلى العاميّة بلُغة شيّقة ونقل المحكي والمروي بأسلوب أدبي حرفي بطريقة عفوية حتى اصبح من مؤسسي فن القصص السردي الفني، رغم أنه لم يدرك أن هناك نقلة ستحدث وكان كاتب سيرة وصاحب أدب رفيع.
الشاعر أحمد الغامدي: كان علماً من أعلام الأدب في المملكة وبالذات فيما يتعلق بتوثيق الموروث الأدبي الشعبي عاش في مرحلة كانت من اصعب المراحل فيما يتعلق بالتوثيق والحديث عنه ربما يحتاج إلى وقت طويل ولم يكرّم بما قدّمه على مدار الأربعين عاما بما قدّمه للمكتبة والإذاعة ،وهو من اوائل من نقل فن الموروث الشعبي للمستمع بطريقة فنية راقيه لم يسبقه لها أحد، ومع حضوره لم يأبه بالوجاهة ولا بالريادة وإن كان يستحقها، رجل فيه تواضع ويتميز بقدرته للاستماع من الآخرين كأنه تلميذ أمام استاذه وهو عاصر عبدالله بن خميس والشيخ حمد الجاسر و حظي في الخليج والعالم العربي بالإحترام والتقدير أكثر من هنا، فهو لم يكرّم إلّا مرة واحدة .