شخصية أدبية مرحة، عاشت حياة بسيطة عصامية، مارس التعليم والصحافة، وجمع التراث الشعبي، وعالج مشكلات المجتمع بأسلوب جريء مستنير. ظهر في بيئة معدمة في وسط المملكة العربية السعودية، في قرية نجدية، لا تختلف عن غيرها من بلدات الإقليم المحرومة من أبسط ضروريات الحياة، غذاؤها التمر واللبن والقمح، وفي محيط اجتماعي كانت «سواني» السقيا والتراث المعماري الطيني أفضل إبداعاته، غير أن الجهيمان برز واحدا من أفراد - في محيطه - يعدّون على الأصابع، تميّزوا بذهن منفتح يتقدمون عصرهم بعشرات السنين، وكانت تلك الظروف المعيشية القاسية شبيهة بتلك التي عاشها كل معاصريه من المثقفين، من أمثال حمد الجاسر وعبد الله بن خميس ومحمد العبودي، بل إنها الظروف نفسها التي مرّ بها أهل وسط الجزيرة العربية من بادية وحاضرة، حتى ظهور البترول منتصف القرن الماضي. خرّج هذا الإقليم (الوشم) وعلى الرغم من قساوة الظروف المعيشية العصّية على الوصف والتحمّل، عشرات المشايخ والفقهاء الذين انتشروا في سائر الأقاليم المجاورة، وأعدادا من كبار رجال الأعمال المعاصرين، وكان الجهيمان، الأديب والصحافي والتراثي، أحد أبرز المثقفين الذين أنجبهم هذا الإقليم، حيث ولد عام 1912م في بلدة القراين القريبة من شقراء (قاعدة الوشم)، التي تبعد مائتي كيلومتر شمال غربي العاصمة الرياض. وقبل الاسترسال في بسط سيرته، نعرض لأبرز الكتب التي تناولت حياته وتراثه، ويأتي في مقدمتها كتابان ألّفهما صديقه الباحث محمد عبد الرزاق القشعمي، الذي لازمه في العقود الأخيرة، واهتم بجمع نوادره وإرثه الفكري، وكل ما كتب عنه من مقالات أو دراسات، حتى عُدّ مرجعا أوليّا عن الجهيمان وتراثه الثقافي، والمؤثرات النفسية والاجتماعية في تكوين شخصيته. الكتابان بعنوان: «الجهيمان.. سادن الأساطير والأمثال» (2001م)، و«الجهيمان: رحلة العمر والفكر» (2008م). وكان ناصر محمد الحميدي قد ألّف عام 1993م أول كتاب صدر في سيرته: «الجهيمان.. رحلة أبي سهيل»، ثم جاء من بعده كتاب يتحدث عن تداعي الواقع في الحكايات، ويتخذ من أساطير الجهيمان نموذجا، لمؤلفه عبد الله محمد العبد المحسن (2005م)، فهذه الكتب الأربعة تغطي كل جوانب أدبه وسيرته، بما يغني عن تكرار ما فيها. اجتاز الجهيمان مفازات محيطه وتخطى أشواك دربه، واتجه في صغره إلى مكةالمكرمة، حيث الانفتاح الثقافي، وحيث المكتبات ودور العلم، وحيث منارة الإشعاع والمعارف (الحرم الشريف)، وحيث يجد ما يكتسب منه، ويسد رمق أسرته، ويشبع نهمه في القراءة، فالتحق بسلاح الهجّانة نهارا وبمدارس مكةالمكرمة ليلا، حتى إذا ما شدا طرفا من العلم والثقافة، وخالط طلبة العلم، اتجه إلى مدينة الدمام على ضفاف الخليج وهناك بادر إلى إنشاء أول مطبعة وأول صحيفة أهلية في المنطقة الشرقية من السعودية (أخبار الظهران 1954م)، أي أنه حذا حذو صديقه العلامة حمد الجاسر قبل ذلك التاريخ بعامين في الرياض. ثم بدأ يرصد، بإصداراته التراثية (المتسلسلة في عشرة مجلدات) ما نطقت به الألسن وسجلته المسامع من أمثال وحكايات وأساطير شعبية. لكنه، وبسبب آرائه التي تجاوزت عقلية من حوله، تعرض للتضييق، وصحيفته للإغلاق، ثم يأذن الله بعد فترة من الزمن، أن يتحوّل كل ما عده المناهضون لأفكاره بِدَعا من القول، سننا في زمننا هذا، بل فرائض وواجبات، وبخاصة ما تناول فيها قضايا تعليم المرأة. قال عنه دكتور غازي القصيبي (صديقه وشبيهه في الكنية أبو سهيل): «يجيئنا الجهيمان محمّلا بأساطير الجزيرة كلها، حتى لتحسبه أسطورة من حكاياتها، ويروي لنا مَثَلا بعد مَثَل لتظنه بشخصه صار مثلا سائرا يردده السمّار، هذا الفتى الشيخ، بعباءته التي تحمل عطر العرار، ووجهه المنحوت من صخور نجد، وحياته التي زرعت الورود في قلب الشوك، هذا الفتى الشيخ أبو سهيل ذخيرة من ذخائرنا الوطنية» (2000م). وهكذا كانت رحلته الطويلة مع الفكر والكلمة، تسترعي الأنظار منذ صدور جريدة «أخبار الظهران» المعروفة بجرأتها في الطرح من خلال المقالات التنويرية التي تعالج مشكلات اجتماعية تقف في طريق التنمية، وكانت الجريدة تخص قضايا المجتمع العمالي في شركة الزيت العربية الأميركية في الظهران (أرامكو) بالكثير من الاهتمام والشفافية. أما بالنسبة لمؤلفاته التي تصدّرتها الأساطير الشعبية وجمعها في خمسة مجلدات، والأمثال التي رصدها في عشرة أجزاء، فقد بلغت نحو عشرة كتب من بينها: «دخان ولهب»، و«أين الطريق»، و«آراء فرد من الشعب»، و«دورة مع الشمس»، و«أحاديث وأحداث»، و«مذكرات وذكريات من حياتي»، و«رسائل لها تاريخ». وهي كتب تحمل أبرز ما نشره من مقالات منذ أن بدأها في الأربعينات من القرن الماضي أثناء إقامته ودراسته في مكةالمكرمة، والكتب على الرغم من قِدَم محتوياتها فإنها ما زالت تنبض بالحيوية إذا ما عرفنا الأزمان والظروف التي كتبت فيها. كما تتضمن قائمة كتبه عددا كبيرا من القصص والسلاسل الموجهة للطفل، تحت عنوان: «مكتبة الطفل في الجزيرة العربية»، وتحت عنوان: «مكتبة أشبال العرب». أما الشعر، فعلى الرغم من تعاطيه وقرضه، وفي فترات مبكرة، وبلونيه الفصيح والعامي (النبطي)، فلم ينشر منه إلا القليل، لعدم قناعته بمستواه. الجهيمان، كان رمزا من رموز النزاهة، والداعي منذ صغره إلى المثالية، ومحاربة كل صنوف الفساد الإداري التي يعدّها سوسة المجتمعات العربية، يفاجئ المجتمع بعمل أراد أن ينزّه به ضميره من دنس المادة، وليضرب مثلا في الإيثار والزهد، وليكون قدوة في خدمة الوطن، فنجده - وعلى الرغم من تواضع وضعه المالي - يتبرع عام 2004م بكل ما يملك لتأسيس مدرسة في إقليمالخرج المجاور للرياض، تسميها وزارة المعارف باسمه اعترافا بالمثل التي ترسّمها في حياته، وكان قبل ذلك قدّم تبرعا مجزيا مسهما في إنشاء مركز الأمير سلمان الاجتماعي في الرياض. هناك جوانب عدة في حياته اختزلتها هذه الترجمة، ومنها دراسته في مكةالمكرمة، وعمله في التعليم، وافتتاحه مكتبة تجارية في الرياض، ورحلاته، لكنها محطات تناولتها بالتفصيل الكتب الأربعة التي صدرت عنه. لقد كان عبد الكريم الجهيمان، نحيلا في جسمه، بسيطا في أسلوب معيشته، عروبيا في نهجه، عزيزا في قومه، كبيرا في مقداره وتاريخه وشأنه الفكري، وإذا ما عُدّ التنويريون في المملكة العربية السعودية، ومنهم محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وأحمد السباعي وحمد الجاسر وعبد الله بن خميس وعبد الله عبد الجبار، فإن اسمه سيكتب في القائمة نقلا عن الشرق الاوسط السعودية