فجعت الساحة الثقافية والأدبية يوم الجمعة الماضي برحيل الأديب الرائد عبدالكريم الجهيمان عن عمر قارن القرن من الزمان، أنفقه الراحل في المعرفة والعلم والأدب، فقدم للساحة العديد من المؤلفات، كما رفد الساحة بمبادرات أدبية وصحافية عديدة، من بينها تأسيسه لصحيفة «أخبار الظهران»، واهتمامه الكبير بأدب الأسطورة... وقد أحدث رحيل الجهيمان صدى حزينًا في أوساط المثقفين والأدباء، الذين تباروا في التعبير عن مشاعرهم حيال هذا الرحيل.. دراسة منجزه الأدبي ففي البداية يقول الدكتور فهد السماري أمين دارة الملك عبدالعزيز: بلا شك إن فقد علم مثل عبدالكريم الجهيمان هو فقد لأحد رموز الثقافة السعودية، وفقد للرجال الذين عرفوا بالمنهجية والجد والمثابرة، وبلا شك إن الإنسان يحزن بفقد أديب بحجم الجهيمان؛ ولكن في الوقت نفسه العمل الذي يجب في مثل هذه الظروف يعد فرصة للجيل الجديد لكي يقرأ عن هذا العلم وأن يتعلم شيئًا عن منهجيته ومعرفته الشاملة وقدرته على الصبر والتحمل، وأن المعرفة والعلم لا تأتيان بالطريقة السهلة، وإنما تأت بالعمل الجاد، ومما يؤسف له أن أمتنا العربية عمومًا لا تتحدث عن رجالاتها وروادها إلا بعد وفاتهم، وكم كنا نود أن يكون هناك استقراء لمنهجيته واستقراء لجهوده وقراءة ما بين السطور من خلال كيف وصل لمثل هذه الأدبيات الكبيرة خاصة عمله الكبير والرائد في الأساطير الشعبية، التي ستبقى في ذاكرة التاريخ في هذا الوقت الذي نفقد فيه مثل هذا العلم ينبغي أن نرجع أنفسنا في مسألة مهمة تتمثل في هل التراث الذي خلف عبدالكريم الجهيمان يحتاج إلى عناية، وأنا أدعو الكراسي العلمية في الجامعات بأن تتبنى هذا الأمر بالتعاون مع الدارة ليس فقط في جمع هذا التراث وإنما للاستفادة منه من خلال تطوير قدرات سعودية جديدة تستطيع أن تواصل العمل الذي قام به وتركه لنا بشكل بارز ورائع الأديب الكبير عبدالكريم الجهيمان. هامة مفقودة وتقول الدكتورة سعاد المانع: إن فقد رائد الأمثال والأساطير الشعبية في الجزيرة العربية الأديب عبدالكريم الجهيمان.. الصحافي والأديب والمثقف يعد خسارة كبيرة فادحة للأدب وعلى المثقف وعلى بلدنا عامة عرف عنه البحث كتابي المتزن السيال -يرحمه الله- وما أدل على ذلك من كثرة المؤلفات التي أثرى بها المكتبة المحلية والعربية. وبموته -يرحمه الله- فقدنا هامة من هامات الأدب والثقافة والفكر، لقد كان أول من بحث وتقصى وسرد القص الشعبي واهتم بالأمثال والحكم منذ السبعينيات؛ لذا أرى من الواجب على الجميع إنشاء أو تسمية مركز ثقافي باسمه يعلَّم فيه طريقة البحث، وكتبه ومؤلفات. المتميز بالشمولية وعلى ذات السياق يقول الدكتور عبدالرحمن رجا الله السلمي: فقدنا باحثًا ومؤلفًا ترك قرابة خمسين كتابًا صنعت الفكر والثقافة والأدب بصورة عامة وخصوصًا في مجتمعنا الأدبي السعودي، فقد ساهم يرحمه الله في نهضة الصحف والكتابة والنقد، عطاؤه المتواصل لم يتوقف حتى وهو على فراش المرض؛ فهو يرحمه الله يضرب له المستوى في العطاء العلمي المتواصل بما أبدعه ودوّنه للأجيال، فهو ذو قيمة أدبية ستظل في ذاكرة الأجيال، فهو شخصية اهتمت بالتراث المعاصر، ولعل من أميز مميزاته يرحمه الله شمولية تراثه لأنه يجمع جوانب الثقافة في الأساطير واللهجات والأمثال، أما على المستوى الإنساني فله مواقف إنسانية نبيلة مشاركة تطوعية يرحمه الله. فقد كبير ومن واقع اهتمامه بالتراث الشعبي يقول صالح بن سعيد أبو البراء: فقدنا مؤرخًا اجتماعيًّا وأديبًا اهتم بالشأن التراثي الشعبي والأدب السعودي؛ فقد كان واحدًا من أبرز رموزه في مجال الكتابة في الموروث والأساطير الشعبية وذلك بوفاته عن عمر يناهز 100 عام. يرحم الله الجهيمان الذي يعد صحافيًا وأديبًا وباحثًا وشاعرًا وناقدًا ومثقفًا ولد عام 1912م في بلدة غسلة بالقرائن، وتلقى تعليمه الأول لدى الكتاتيب في بلدته غسله، ثم انتقل عام 1925م إلى الرياض ودرس لدى مشايخ المساجد لعام واحد، ثم غادر في 1926م إلى الحجاز وتحديدا إلى مكة حيث التحق بسلاح الهجانة في العام ذاته، ومكث فيه مدة عام ثم انتقل للدراسة في المعهد العلمي السعودي وبعد ثلاث سنوات تخرج في المعهد وانتدب لإنشاء المدرسة النموذجية الأولى في مدينة السيح بمنطقة الخرج وذلك عام 1930. أعمال خالدة ويقول الكاتب صلاح قناة: بحق إن الراحل يرحمه الله ذهب وبقي علمه وسيرته العطرة وكتبه التي جاوزت الخمسين كتابا، فقد ذهب جسدًا وبقيت أعماله تترى، ويظل القلم يلهث في محاولة تسجيل إبداعه، فقد انتقل يرحمه الله إلى الظهران وأنشأ جريدة (أخبار الظهران) وهي أول صحيفة تصدر من المنطقة الشرقية. بطل شعبي الكاتب والإعلامي بدر عسيري قال: اشتهر الجهيمان بموسوعته عن الأساطير الشعبية، كما ألف كتبًا عديدة منها كتابه «رحلة مع الشمس»، يحكي فيه فصول رحلته العالمية حيث غادر من الشرق وعاد من الغرب، كما ألّف كتابًا بعنوان «ذكريات باريس».. والحقيقة المؤلمة أننا فقدنا بطلاً شعبيًا عركته الحياة، ولملم تلك الأمثال والقصص الشعبية لتصبح لقمًا سائغة للنهل من معين الراحل عبدالكريم الجهيمان يرحمه الله. رجل مؤسسة ويشارك الروائي يوسف المحيميد في تأبين الفقيد الجهيمان بقوله: لا شك أن فقدان أديب وكاتب بقامة الأستاذ الراحل عبدالكريم الجهيمان هو فقدان أحد أعمدة الريادة في المملكة العربية السعودية في مجالات عدة من بينها تدوين الأسطورة وكتابة الأمثال وكتابة اليوميات وما شابه ذلك؛ فاعتقد أن عبدالكريم ضمن جيل من الرواد كان كل واحد منهم في حجم مؤسسة ثقافية مستقلة بما يقدمونه في مجالات عدة نتيجة لظروف الواقع آنذاك، فلم يكن هناك عدد من البنى الثقافية الأساسية بما يتطلب من هؤلاء بأن يكون كل منهم صحافي وكاتب وشاعر ومدون ورحالة وجغرافي الخ؛ فكان من هؤلاء الراحل عبدالكريم الجهيمان. ولعل أهم ما قام به في نظري هي تدوين «آفاق شعبية من الجزيرة العربية» في مجلدات ستة، هذه المجلدات كما أضفت على طفولتي الكثير، قدمت ربما ما كتب أو ما روي شفاهة في منطقة نجد تحديدًا من أساطير وسوالف وحكايات شعبية، هذا الجهد العظيم عادة في العالم العربي لا تقدمه إلا مؤسسات ثقافية متمكنة ماليًا ومعرفيًا وثقافيّا. ويختم المحيميد حديثه بقوله: أعتقد أن هذا الجهد بحد ذاته كان عملاً جبارًا ومهمًا من أديب بقامة عبدالكريم الجهيمان. أتمنى شخصيًا -ونحن عادة لا نلتفت للأدباء والكتاب إلا بعد رحيلهم- أن يتم الاهتمام بمنجز عبدالكريم الجهيمان، لأن التسميات عادة إما على الأماكن أو المواقع.. صحيح أنها تبقي اسم الأديب وتضعه موضعا للتساؤل من قبل الأجيال الجديدة، ولكن أيضًا وجود أعماله بشكل متصل ومتوفر للباحثين والمهتمين هو أمر حيوي ومهم خصوصًا مع التقنية، فأتمنى أن تكون هذه الأعمال على الكتاب الورقي، وإنما تكون متوفرة أيضًا لمن يريد أن يقتنيها. أعمال قيّمة أما الكاتب الدكتور فايز الشهري فيقول: عبدالكريم الجهيمان قامة وطنية قضى عمره في خدمة التراث الشعبي وخاصة في قلب الجزيرة العربية، وحفظ للأجيال ذاكرة الوطن في هذه المنطقة، وفي هذا الجزء من الوطن، وحري بنا ونحن نعزي الوطن ونعزي ذوي الفقيد أن نستلهم من تاريخه كيف كانت عزيمة الرجال في زمن لم تكن أدوات العلم والمعرفة متاحة، فهو مع قلة من الأدباء العصاميين صنعوا بأسمائهم مسيرة كان وقودها التعب والكفاح وندرة الدعم سواء المجتمعي أو الرسمي حينما كان المجتمع يبحث عن هويته وتكوينه. فعمله الموسوعي «أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب» يعتبر قيمة أدبية مضافة للحركة الأدبية في المملكة حيث استطاع أن يرفد ويصنف الذاكرة الشعبية في مهمة من تاريخ المملكة ونحن الآن نشعر بقيمة هذه الأعمال مع عصر الإنترنت حينما فقدت البيئات المحلية في الجزيرة العربية خصوصيتها واتصلت بالعالم وبدأت تتلاشى الثقافات المحلية، وستبقى مثل هذه الأعمال التي قدمها الرواد الأوائل أمثال عبدالكريم الجهيمان ذاكرة ومكتبة ومخزن الوجدان الشعبي في الجزيرة العربية، أرجو أن نستلهم من سيرة الرجل ووفاته العبرة في أهمية تكريم المبدعين ودعمهم وهم على قيد الحياة حتى يمكن استثمار هذا الإبداع فيما يخدم الثقافة والأدب والفكر ويبقى أمام الأجيال الجديدة رموز وطنية بدلاً من أن تتجه بهم الشبكات إلى رموز الشرق والغرب. ثمن غالٍ الروائي الدكتور سلطان القحطاني قال: أحسن الله عزاء الثقافة وأهلها على فقيد الأمة العربية بشكل عام وعلى الأدب بشكل خاص، فهذا الرجل الذي بذل قصارى جهده في البحث في التراث وفي المقالات وفي التنوير وفي الدعوة إلى تعليم المرأة وقد دفع ثمن هذه الدعوة غاليًا، ولم يندم على ذلك. هذه الشخصية الأدبية العلمية الفنية شخصية متميزة ففي واقع الأمر هو تربوي، وهو أديب، وهو مفكر، وهو باحث، وهو مدقق، وهو لغوي، وهو كاتب مقالة، وهو رجل أو أديب موسوعي.. وقد أسس ثقافته على نفسه وعلى العلم الذي قرأه وعلى استيعابه. ويضيف القحطاني: ميزة هذا الرجل رحمه الله أن كان من ضمن التنويريين الذين ظهروا في زمانه كأحمد السباعي وعبدالله بن خميس وحمد الجاسر وغيرهم الكثير ممن لا تحضرنا أسماؤهم حاليًا، ولكن هذا الرجل كان يتميز عن غيره بأنه يأخذ ويدقق ما يأخذه، لا يقتدي أو لا يهتدي بآراء غيره، ولا ينتمي إلى أي فئة، رجل مستقل بنى استقلاليته منذ صغره، رجل جرّب الفقر والسجون والمجتمعات فسافر كثيرًا فتجول وكتب عن ذكرياته في باريس، وكتب مقالاته الجريئة التي كانت تبشّر بما نحن فيه الآن، ومنها تعليم المرأة والذي يعد أول من كتب فيه، وأغلقت الصحيفة بشأن هذا المقال، وسافر أو خرج من المنطقة الشرقية خالٍ من كل شيء إلا من رحمة الله، لم يكن آسفًا على ذلك لأنه تنويري، وأقول إن على كل امرأة أن تترحم عليه لأنه هو السبب بعد الله في تعليمها وفي هذا الازدهار الذي وصلت المرأة فيه إلى ما وصلت. ختاما أقول رحم الله عبدالكريم الجهيمان فإن كان رحل بجسده فقد ترك لنا ما نحن نقتات به على ثقافته في التراث وفي اللغة وفي المقالة وفي الفكر الحر غير المقيد ببيئة أو بمرجعية معينة، رحمه الله عبدالكريم الجهيمان رحمة واسعة وسيبقى في قلوبنا إلى ما شاء الله.
شخصية تنويرية وينظر الدكتور سحمي الهاجري إلى شخصية الفقيد من جانبها التنويري حيث يقول: عبدالكريم الجهيمان أعرف عنه سابقًا وفي مكتبتي الأمثال الشعبية والحكايات الشعبية وكتاباته المقالية وسيرته، والشيء اللافت هذا الاحتفاء المنقطع النظير بهذا الرجل الرائد العلم لاحظت أنه لا ينصب فقط على مؤلفاته، فمؤلفاته موجودة منذ فترة طويلة وتم الاحتفاء بهذا بكل موضوعية، ولكن كل هذا الاحتفاء موجه إلى شخصيته الإصلاحية التنويرية بالدرجة الأولى وليس إلى شخصيته فقط الكتابية والأدبية، وتلاحظ الاهتمام من الأشخاص الذين دعوا إلى الإصلاح منذ وقت مبكر، فطالب بتعليم المرأة، وواجه بعد ذلك العديد من المشاكل وحاول أن يدافع عن أهله عن طريق الصحافة، وأوقفت صحيفته وقتها، وكما نعلم أن حركة التطور الاجتماعي في ذلك الوقت لم تكن مستعدة لقبول السقف المرتفع آنذاك، وحقيقة أن هذا الشخص الذي يجد كل اهتمام بالغ في الأوساط الثقافية وعند الناس جميعًا وهو ينصب 80% على شخصيته الإصلاحية التنويرية أكثر مما ينصب على انجازاته المعروفة للجميع. محاكمة الأمثال والأساطير ويقول الدكتور عبدالمحسن القحطاني: الأستاذ عبدالكريم الجهيمان طرق أبوابًا عديدة في الأدب العربي؛ فهو شاعر من بداية عمره. ومن الطريف أنني كنت أبحث في النخلة في الشعر السعودي فوجدت له قصيدة عن النخلة حينما كان مغتربًا في إحدى الدول الأوروبية، وتذكرت عبدالرحمن الداخل عندما ناجى النخلة أيضًا. وهو صاحب أوليات سواء كان في تعليم المرأة؛ بل إنه كتب مقالات لم تعجب مجاهريه، ولم تعجب بالذات المنطقة التي كان يعيش فيها وهي نجد. ثم أصدر مجلة قديمة في الظهران وبدأ يتنقل من مكان إلى مكان، ولكنه في جميع تنقلاته لم ينسَ همه الأكبر وهو التعليم والتثقيف، وحين عكف على الأساطير والحكايات الشعبية لم يقف أمامها ساردًا وإنما وقف متسائلًا ومحاكمًا ومناقشًا، فقرب هذه الأمثال الأساطير إلى أذهان الناس اليوم، وهذه الأساطير تعتبر المدونة الكبرى لعبدالكريم الجهيمان رحمه الله، فقد أثبت من خلالها أنه مربي في سلوكه قبل أن يكون مربيًا في تنظيره، إذ لم يكن منظرًا في التربية؛ ولكنه علم بهذا السلوك الجميل فهو صاحب مواقف، وصاحب الموقف هذا الذي تحترمه يختلف معك وتتفق معه، ولكنه يظل صاحب الموقف الشامخ.. عبدالكريم الجهيمان عاصر أجيالًا متعددة بحكم هذا العمر المديد الذي أعطاه الله له وبلغ قرنًا من الزمان، ومع ذلك ظل هو عبدالكريم الجهيمان بدءًا من انطلاقته إلى نهاية عمره.. إذًا عبدالكريم الجهيمان أديب شاعر مؤلف إعلامي وكل هذه اجتمعت في عبدالكريم الجهيمان وكأنه مجموعة يمشي وحده رحم الله عبدالكريم الجهيمان. عمق تاريخي وثقافي ويرى الدكتور عالي القرشي أن: الراحل عبدالكريم الجهيمان كان رائدًا في مناشط عديدة؛ فكان رائدًا في العمل الصحافي والاهتمام بالقضايا الاجتماعية، وكان أيضًا رائدًا في العمل الخيري، وتبرز أيضًا ريادته في تتويجه لمدونة الحاكيات الشعبية، وهذه المدونة التي التقطت حكاياتنا الشعبية من الشفاهية ومما يتردد في المجالس إلى أن أصبحت ثقافةً مدونة تتداولها الأجيال وتضع أمام الباحثين عمقًا تاريخيًا وثقافيًا تجري عليها الدراسات وتجري عليها الأبحاث والتحليلات. تدوين المذكرات رفيق الراحل وتلميذه محمد القشعمي قال: تعود معرفتي بأبي سهيل الأستاذ الأديب الراحل عبدالكريم عبدالعزيز الجهيمان إلى بداية عام 1380ه - 1960م حينما كنت طالبًا بمعهد الرياض العلمي عندما كان يكتب أو على الأصح يحرر أغلب مواد جريدة القصيم، فقد كان يكتب الافتتاحية أو كلمة القصيم خالية من أي توقيع، ويكتب في الصفحة الأخيرة عمودين مشهورين تحت عنوان «المعتدل والمايل» موقعًا باسمه الصريح. وكان يعرض كل السلبيات السائدة، فيعالجها بأسلوب يجمع بين النقد اللاذع والتهكم والغمز واللمز. وفي العام نفسه نزل إلى الأسواق كتابه الأول «دخان ولهب» والذي يحتوي على مقالاته التي نشرها عندما كان يرأس جريدة «أخبار الظهران» قبل إيقافها. والذي تخاطفته الأيدي بإعجاب؛ هذا إلى جانب مشاركته بمجلة «المعرفة» التي تصدرها وزارة المعارف، وكان وقتها مديرًا للعلاقات العامة بها، ثم انتقل إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني وأصدر مجلة «المالية والاقتصاد الوطني» كمجلة شهرية يحررها هو والدكتور عبدالله القباع. ويضيف القشعمي: التقيت الجهيمان لأول مرة في منزل الأستاذ حمد الجاسر علامة الجزيرة العربية عام 1403ه بالرياض عندما زرته مهنئًا بفوزه بجائزة الدولة التقديرية في الأدب، والتقيته مرة أخرى في الشؤون الثقافية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، وكان يُحضر بنفسه بعض مؤلفاته عارضًا بيعها على الرئاسة لتوزيعها على الأندية الرياضية وغيرها، واستمرت بعد ذلك لقاءاتنا بالمكتب. وقبل حوالي عشر سنوات قرأت في إحدى الجرائد أنه خرج من المستشفى العسكري بعد أن مكث فيه قرابة أربعة أشهر بسبب كسر في رجله، وأنه طوال هذه المدة لم ينشر عنه أي خبر في جميع الصحف، فأحسست بتأنيب الضمير، وتألمت لهذا العقوق لمثل هذا الرجل الذي نعده من الرموز الوطنية، فسألت عن بيته وزرته مع الزميل ناصر محمد الحميدي الذي يسكن بالقرب منه. وقد رحب الرجل بنا، ولكنني رأيت أن خفة الظل التي كان يتحلى بها بدأت تخبو إلى جانب أنه كثيرًا كان يتبرم من بعض المواقف. وقد حاولت إخراجه من العزلة التي يعيشها سواء من خلال دعوته لزيارتي وجمعه ببعض الأصدقاء الذين ينظرون إليه بتقدير كبير، ولكنهم لا يعرفون كيفية الوصول إليه، فبدأت أزوره بين وقت وآخر بصحبة الأستاذ فهد العلي العريفي وغيره من أدباء المملكة فوجدت أنه بدأ يتحسن وأصبح يضحك من أية نكتة أو موقف طريف وبداخله الفرح بشكل لا يوصف، فشعرت أنه بدأ ينتقل من جو إلى آخر. ويمضي القشعمي في سرد ذكرياته مع الراحل مضيفًا: في إحدى الزيارات سألته لماذا لا تكتب مذكراتك؟ وذكرت له بعض من كتب، وكان آخرهم الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار من خلال كتابه «بين السجن والمنفى» فتمنع ووضع الحواجز واختلق المعاذير وذكر بعض الأشياء غير المنطقية، وبدأ يطلب بعض الكتب وبالذات ما يتعلق منها بالسيرة الذاتية واتفقت مع الأخ ناصر الحميدي على أن يطلب منه عند زيارته أن يسجل له أو يحدد له ومعه برنامجًا بحيث لا يرهقه؛ فمثلًا كل أسبوع يطالبه بعشر صفحات، وبدأ الأخ ناصر بجمع ما كتب عنه ويستعرض مؤلفاته، حيث أصدرها باسم «رحلة أبي سهيل» قراءة في حياة وأدب عبدالكريم الجهيمان، وكانت عملية استدراجه لكتابة مذكراته من خلال أن يكتب ملخصًا في حدود 30 صفحة لضمها للكتاب المذكور، وعندما صدر كتاب الأخ ناصر كانت المذكرات كاملة على وشك الانتهاء. وبعد صدور مذكراته بدا سعيدًا، وبدأ يفكر في إعادة طبع كتبه الأخرى. قبل أربع سنوات كلفني الدكتور يحيى بن جنيد عندما كان أمينًا لمكتبة الملك فهد الوطنية بدعوته لزيارة المكتبة لنبدأ معه تسجيل سيرته الذاتية من خلال برنامج «التاريخ الشفهي» فاستجاب للدعوة وتم ذلك من خلال جولته بالمكتبة أعقبتها جلسة التسجيل، وكان سعيدًا وفرحًا بالمكتبة وما وصلت إليه من مستوى طيب رغم حداثتها. ويختم القشعمي حديثه بقوله: الجهيمان كان يكره المتملقين والمنافقين والمدعين ويرثي لحالهم. وإذا عرف أن أحدهم في مكان معين يعتذر عن الذهاب إليه بدعوى أنه مرتبط بموعد مسبق، إلى جانب حبه للطيبين الصادقين، عندما كان الأستاذ عبدالعزيز مشري في المستشفى التخصصي بالرياض قبل سنتين وفي إحدى زياراتي له وعند الوداع قال لي: أتمنى أن أرى الأستاذ عبدالكريم الجهيمان وأن تلتقط لي معه صورة، وعندما نقلت رغبة المشري لأبي سهيل أبدى ترحيبه الكامل وذهبنا إليه، وكانت سعادتهما لا توصف وهما يناقشان القضايا والمشكلات الاجتماعية والمصور يلتقط لهما الصور؛ وكان أبو سهيل يتحاشى أن يحدث المشري عن أمراضه بل يشد من عضده ويشجعه ويشيد بكتاباته ويشكره على استمراره رغم معاناته. تلك لقطات قصيرة ماتعة من حياة طويلة حافلة بالعطاء والمواقف النبيلة والروح اللماحة المرحة، رغم كل الصعاب، لهذا الرائد الكبير. العناية بفكره ويصف الدكتور تركي الحمد الراحل عبدالكريم الجهيمان بأنه كان شخصية أديبة وثقافية لها حضورها الطاغي على المشهد الثقافي المحلي والعربي، وله تواجده الكبير من خلالها، ولكنه يحتاج إلى كثير من الدعم بعد وفاته في مجال العناية بإنتاجه الفكري والثقافي والأدبي، وفي مجال تخليده في ذاكرة كثير من أبناء الوطن من هذا الجيل ومن الأجيال القادمة. ففي كل مرة يرحل عنا عظيم تنبري الأقلام للكتابة عنه وعن سبل تكريمه، ولكن لا نلبث قليلًا حتى ننسى هذا الراحل وننسى ما نادينا به من أجله، ويطويه النسيان، ولكننا من خلال هذه المرحلة في تاريخ المملكة لا بد أن يتسع المجال بشكل أكبر لبقاء عبدالكريم الجهيمان بيننا حتى بعد رحيله، ونظل نتذكره إما بمركز ثقافي وأدبي، أو بإعادة طباعة إنتاجه الأدبي والثقافي وتعريف المجتمع به من جديد وتوفيره لأكبر كم من أفراد المجتمع. وبين الحمد أن الجهيمان كان يعنى بجانب هام من الثقافة في حياته وهو الجانب الأنثربولوجي من خلال دراساته للأمثال وعنايته بالأسطورة في الجزيرة العربية، وما قدمه في هذا المجال يعد نواة وقاعدة متينة للإبحار في دراسة هذا الجانب الثقافي، ويمكن أن يقوم مراكز أبحاث ودراسات للعناية بهذا الجانب ويكون للجهيمان حظًا وافرًا منها. كما لا ننسى دوره التنويري وكتاباته في هذا المجال من خلال نقاشه للعديد من القضايا والأفكار. قلم المعرفة ويؤكد الناقد الروائي الدكتور حسن بن حجاب الحازمي أن رحيل الصحافي والأديب السعودي عبدالكريم الجهيمان يعد خسارة للمشهد الثقافي في بلادنا، حتى وإن لم يكن للجهيمان من حضور كبير في آخر حياته بسبب كبر سنه إلاّ أنه يبقى واحدًا من الرواد الذين خدموا الوطن في مجالات عدة وكرسوا معنى الوفاء والتفاني وبذل الجهد في سبيل الإصلاح. ويضيف: إن الجهيمان لم يكن فقط صحافيًا ومثقفًا؛ بل أديبا وشاعرا وراويا على مستوى عال من الإتقان والموهبة والعطاء وتشهد بذلك مؤلفاته التي تنوعت واشتملت على عدد من الفنون في مجالات كثيرة في الأدب الشعبي والمذكرات والذكريات، وأحاديث المسافر، وأدب الرحلات، وكم هائل من المقالات المتنوعة في شتى الموضوعات والفنون، تدلك بشكل واضح على أديب يمتلك بحق قلم المعرفة، ويعرف كيف يوجه حرفه وكلمته في طريقها المناسب الذي خرجت من أجله.