غيب الموت مساء الخميس الماضي الأديب الكبير الشيخ عبدالكريم بن عبدالعزيز الجيهمان عن عمر ناهز المائة عام (1333 – 1433ه) بعد معاناة مرضية قصيرة لم تمهله طويلا وصلي عليه بعد صلاة العصر من يوم الجمعة الماضي. ويعد الراحل الجهيمان من أبرز الأصوات التنويرية في المملكة وفي منطقة نجد خاصة حيث يعد ثالث الرواد في هذه المنطقة مع زميليه الشيخ حمد الجاسر والشيخ عبدالله بن خميس رحمهم الله. فاروق بنجر: علم وطني متعدد الريادات في التربية والتعليم والأدب والصحافة تعدد مواهب الراحل الجهيمان الثقافية فكتب المقالة الصحفية ونظم أروع القصائد ودون الأدب الشعبي من أساطير وأمثاله ومارس العمل الصحفي فأسس صحيفة (أخبار الظهران) عام 1374ه وسجل سطراً من حياته في مذاكراته وشارك في تأليف الكتب الدراسية وتحديداً المقررات الدينية وقدم تم تكريمه في أكثر من محفل أدبي ومنتدى ثقافي وكتبت عنه جملة من الدراسات العلمية والتوثيقية. لقد سخر الشيخ الجهيمان جل حياته لدعم الحركة الثقافية في المملكة عبر جمهرة من مؤلفاته التي تجاوزت الثلاثين كتاباً، ثقافة الخميس سجلت كلمات الحزن التي عبر بها الأدباء لرحيل الشيخ عبدالكريم الجهيمان. في البدء يتواصل معنا الشاعر المكي الأستاذ فاروق بنجر قائلاً: المعمر المئوي الإنسان الشيخ عبدالكريم بن عبدالعزيز الجهيمان (1333- 1433ه) علم وطني متعدد الريادات في التربية والتعليم والأدب والصحافة، كان في طليعة طلاب البعثة النجدية إلى مكةالمكرمة فتلقى تعليمه في المعهد العلمي السعودي وتخرج فيه عام 1351ه، وعين معلماً في مدرسة تحضير البعثات؛ فتتلمذ عليه أعلام خريجي هذه المدرسة الثانوية الرائدة ممن صاروا علماء وأدباء وزراء ورجال دولة ومناصب كبرى واشتغل بالأدب وأدرك الرعيل الأول من أعلامه وشارك رواده؛ منظم الشعر ومارس الكتاب وتدبيج المقالات وتوثيق الأدب الشعبي والأمثال والأساطير وأدب الطفل وألف فيها مجاميع رائدة في مجالها وترأس تحرير أول صحيفة أنشئت في المنطقة الشرقية وهي (أخبار الظهران) عام 1374ه. إن الجيهمان كان رائداً ومفكراً تنويرياً في هذه المواقع النهضوية الثلاثة رحمه الله وأكرم في الجنة مثواه. فاروق بنجر أما الشاعر الدكتور يوسف العارف فتأتي كلماته متأثرة بهذا الرحيل لكون الجهيمان – حسب وصفه مثقف شمولي إذ يقول: فاتحه: وترحل... صرختي تذبل في وادي... لا صدى يوصل ولا باقي أنين!! (بدر بن عبد المحسن) د. يوسف العارف: أديب ومثقف شمولي حفر في الصخر وكون الذات بهذه البكائية الفارهة التي انطلقت عبر حنجرة طلال مداح رحمه الله.. وقفت باكيا متأثرا بفقد الرائد التنويري والمثقف الشعبوي، والخبير الأدبي، والكاتب الصحفي، والمؤسس الفاعل، والأديب المتواضع.. عبدالكريم الجهيمان يرحمه الله. وعند الفقد تبدأ الذكرى.. ويظهر الاحتفاء، ويتداعى المثقفون للتأبين والعزاء بكلمات ماتت مفرداتها، وتخشبت معانيها لأنها أقل من المؤبن وأضعف من المعزى.. ولكنها السنة الكونية فإنا لله وإنا إليه راجعون. الجهيمان عبدالكريم.. وتتداعى إلى الذهن صور الأديب المثقف الشمولي الذي حفر في الصخر وكون الذات وهو اليتيم، وبنى النفس والكيان الثقافي وهو الفقير المعدم، وتشيأت ذاته فأصبح منارا يشع في كل الفضاءات الثقافية.. فكان نتاجه مليء السمع والبصر.. يكفيه رحمه الله موسوعة الأساطير الشعبية، ويكفيه "موسوعة الأمثال الشعبية" ففي هذين المجالين تبدو قيمته الفكرية والثقافية فهو من جيل الفواتح والمبادرات والريادة فمن كان يفكر في موضوعات كهذه.. وقد جاهد حتى استوعب كثيراً من أمثالنا السائرة، وأساطيرنا الشعبية فقام بالحفر "الأركيولوجي" في فضاء الثقافة الشعبوية وكون لنا وللأجيال المثقفة هذا السفر العظيم من تراثنا. يكفيه أنه المناضل في ميادين تعليم المرأة والمنادى الأول لهذا الحق الأنثوي يوم كان المجتمع - كل المجتمع - يرى أن المرأة مكانها البيت وخدمة الأسرة!! يكفيه تلك المقالات الاجتماعية التي نشرها تحت عنوان إبداعي ومؤثر "المعتدل والمايل" في إحدى صحفنا السيارة في تلك الأزمنة الماضوية وناقش فيها من قضايا المجتمع وشؤون الناس بحرية رأي، وسلامة تعبير.. كل ذلك يجعلني أقول بآخره.. أننا فقدنا أهم رموز التنوير النجدي في بلادنا، ولئن مات ووراه الثرى فإن علمه باق تحفل به المكتبات ويتذكره المثقفون ويتلمذ عليه الدارسون.. د. سلطان القحطاني د. سلطان القحطاني: ثقافة الجهيمان وعلمه من آداب كثيرة استقاها من مجالسة العلماء وأصحاب التجارب عليك الرحمة أستاذنا عبدالكريم الجهيمان.. وإليك المعذرة.. وإنا لفراقك لمحزونون!! الناقد الدكتور سلطان القحطاني يلم بجوانب متعددة من حياة الجهيمان ويذكر جملة من مواقفه فقال: كان عبدالكريم يتمتع بشخصية فريدة ومواهب كثيرة في حياته، مكنته من الدخول في الحياة الثقافية بجرأة لم تتوفر لكثيرين من أقرانه، ممن تعلموا تعليماً أولياً، فكان لا يجامل في الحق، ويجد نفسه في النهاية منتصراً لم يخضع في يوم من الأيام لإملاء الآخرين، فما أصدر رأياً إلا بعد أن درسه بنفسه واقتنع بجدواه، ولذلك حاز على تقدير من لا يعرفه قبل من يعرفه، كان يجد نفسه فوق التفاهات فلا يلقي لها بالاً، وحق له أن يكون كذلك، فكان الناس يتلقفون مقالاته، لأنه واحد منهم، فلم يتنطع بعلمه، بل استثمره في خدمة أبناء جلدته، ولم يسوق لنفسه في يوم من الأيام، بالرغم من الظروف الصعبة التي عصفت به، فوقف رابط الجأش أمام تلك الزوابع التي تغلب عليها بالصبر والإيمان، وهو يعيش أسوأ الظروف المادية، كان يرأس تحرير أول جريدة تصدر في المنطقة الشرقية باسم" الظهران" فأغلقت الجريدة، وخرج خالي الوفاض إلا من رحمة الله، وتقبل النقد الاجتماعي والثقافي من قاصري النظر، عندما ألف كتابه المشهور (الأمثال الشعبية في جزيرة العرب) في عشرة مجلدات هي المرجع الأول لكل دارس وباحث، ومثله كتابه الذي لا يقل شهرة عن أخيه (الأساطير الشعبية في قلب جزيرة العرب). وقوبل الكتابان بهجمات من المتحذلقين ومن نصبوا أنفسهم حراساً للفضيلة، بحجة الغيرة على اللغة العربية، لكن أبا سهيل كان له من اسمه نصيب، صمد كما صمد سهيل اليماني في موعده، فلم يخلف وعده مع نفسه والآخرين، وقد ترجم الكتاب إلى اللغة الروسية، واستقبل قبولاً حسناً في الأوساط العلمية، مكانة عبدالكريم الجهيمان ثقافته وعلمه من آداب كثيرة استقاها من مجالسة العلماء وأصحاب التجارب، وخاصة من أسرته في مجالس السمر، ومن السفر برفقة والده عبدالعزيز، فصدق مع نفسه فصدقه الآخرون، كان يثق بما يقول ويفعل، فكان رده على من نقدوه واتهموه، قوله: اقرؤوا الكتاب أو لا تقرؤه، ذموه أو امدحوه، إن كان يستحق الحياة فسيعيش، وإن كان لا يستحق فسيقتل نفسه بنفسه، ولا حاجة للمدح أو الذم. د. محمد العوين د. محمد العوين: أسهم في النقد الاجتماعي بنصيب وافر ثم انصرف إلى دراسة التراث الشعبي من الأساطير والأمثال خرج من سلك التدريس لأنه لم يشأ أن يملي عليه أحد في مهمته العلمية، ففضل الحياة الحرة على بيع نفسه بثمن بخس، ولو كان ملايين، لم يأسف على شيء فعله بنفسه، فهو يعلم أنه تنويري في زمن التنويريين، وكل ما حصل له سيكون في يوم من الأيام هو الباقي لأنه سينفع الناس كالسيل في الأرض، وغير ذلك غثاء سيذهب جفاء، سئل مرة سؤال مداعبة من أحد حوارييه: بماذا خرجت من المنطقة الشرقية التي أثرى فيها كثير من الناس، فقال وهو يضحك من هذا السؤال: خرجت منها بما ترى من أساتذة وأستاذات، تعرفهم جيداً. وسئل مرة: هل يمكن أن تؤلف كتاباً على شاكلة كتابك (الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب)؟؟ فكان جوابه: كان الناس بسطاء لم تدخلهم الوسوسة، عندما قرأت مقالاته، ولم أكن أعرفه، وجدت رجلا مخلصا شجاعاً في طرح رأيه، واستشففت من ذلك أنه رجل يعيش حرية الفكر وعبقرية المغامر الذي يحسب لمغامرته ألف حساب، كانت مقالاته التي جمعها في كتب ثلاثة من أجمل ما يقرأ، وهذه عناوينها: (دخان ولهب، وآراء فرد من الشعب، وأين الطريق)، ومن مقالاته التي كان ينشرها في اليمامة (الوزارة التي لا تقرأ، والوزارة التي لا تسمع، والوزارة التي لا تعمل)، كان الجهيمان، ممن اهتموا بأدب الطفل وألف فيه الكتب والمقالات، فعندما ترك مدرسة الخرج، بطلب من الأمير سعود بن عبدالعزيز ليكون مديراً لمعهد العاصمة النموذجي (معهد الأنجال) بقيت ذكريات المدرسة في ذهنه، فزارها، بعد مضي ستة عقود، فوجدها في حالة سيئة، فتبرع ببنائها على نفقته الخاصة، ولم يكن الجهيمان من الأثرياء، ولا يوجد له اسم في قائمة رجال الأعمال، لكن دافعه التربوي جعله يقدم على هذا العمل الخيري الفريد، كان أمام منزله مدرسة مستأجرة يحشر فيها الطلاب كل يوم من الصباح إلى الظهر، فكان يجلس ينظر إليها وهو يقول: أتخيل هؤلاء الأطفال طيوراً محبوسة في قفص، فأين الترفيه واللعب، والجهيمان ليس محروماً من الأطفال، فقد أنعم الله عليه ببنين وبنات، لكنها روح المربي، مع أسرته الصغيرة ومع المجتمع. كان يسعد كلما يرى شاباً أو شابة ينجز عملاً أدبياً أو ثقافيا، وأكبر سعادته في تعلم المرأة التي أصبحت تحوز على أعلى الشهادات في العلوم والآداب، ويجد أن ذلك من ثمرة جهاد التنويريين، من أماله، وأمال، عبدالله ابن خميس، الذي خاطب الأمير فهد عندما كان وزيراً للمعارف بقصيدته المشهورة، التي يقول فيها: يا أمير العلم هل من شرعة تمنع التعليم عن ذات الخبأ وكذلك أحمد السباعي، وغيرهم ممن دعوا إلى تعليم المرأة،وتثقيفها، فلازماً على كل امرأة تعلمت أن تترحم على الجهيمان وأمثاله. كان قنوعاً، يردد دائما: لقد أنعم الله علي بنعم كثيرة، وكان يتمتع بروح مرحة، ونكتة حاضرة، وابتسامة لا تفارق محياه، حسن المعشر، ما ذكر في مكان إلا دار الثناء عليه، حتى الذين لا يعرفونه. رحم الله عبدالكريم الجهيمان، واسكنه فسيح جناته، مع الشهداء والصديقين، وحسن أولائك رفيقا. وإن غاب عنا جسده فروحه وعلمه وأدبه سيبقيان معنا ما حيينا. ونختتم كلمات الوفاء عن الراحل الشيخ الجهيمان بما كتبه الأديب الدكتور محمد العوين فقال: يعد عبدالكريم الجهيمان من أوائل المتعلمين في المعهد العلمي السعودي الذي تخرج فيه عام 1351ه، وكان يشارك في مرحلة الطلب تلك بمقالات متفرقة في صوت الحجاز وظهر في مقالاته إذ ذاك الأثر الديني القوي في الدعوة إلى المحافظة على القديم وبث اللائمة في حق الذين يسرفون في قبولهم التجديد ومرد ذلك كان لنشأته الدينية ولمعارفة في المعهد العلمي السعودي بمكة أثر كبير. ويمضي العوين موضحاً صور الراحل الجهيمان: ومن المقالات الطريفة ما كتبه عن هذه الأحاسيس الدينية الغامرة التي تعتوره فقد كتب رسالة صغيرة سماها (محاورة طريقة بين ذي لحية ومحلوقها) وذلك في الستينات الهجرية ناصر فيها أرباب اللحى وأنحى باللائمة على حالقيها. وقد التزم الجهيمان في كثير من نقده الظاهرات الاجتماعية ولم يبتعد كثيراً عن الاعتدال في نظرته إلى نقائص المجتمع وتقصير الأمنيات وتأخر الانجاز، ومما عرف عن الشيخ الجهيمان - رحمه الله - دعوته في جرأة إلى تعليم المرأة والارتفاع بمفهوماتها في الحياة لكيلا يلجأ الشباب إلى طلب يد امرأة أجنبية، لأنها إن كانت متعلمة استطاعت أن توجه النشء توجيهاً صحيحاً. واختتم هنا بالتحول الذي مر بالجهيمان في معالجته النقدية وأنه أسهم في النقد الاجتماعي بنصيب وافر ولولا انصرافه في الثمانينات الهجرية إلى دراسة التراث الشعبي من الأساطير والأمثال.