يحفظ التاريخ للملك فيصل بن عبدالعزيز طيب الله ثراه من بين أياديه البيضاء وانجازاته العظيمة.. مبادرته بأقامة أول حوار ثقافي.. حضاري بين الاسلام والمسيحية للتعريف بالشريعة الاسلامية.. ونظرة الاسلام الى الانسان.. وتطلع الانسان الى السلام وحقوق الانسان ووضع المرأة.. ووحدة الاسرة البشرية في الاسلام.. وبر الاسلام بالعالم المسيحي.. ومكانة الله سبحانه وتعالى.. والكون في الاسلام.. وكان جلالته يرحمه الله وجه بعقد ندوات علمية في كل من الرياض في 22/3/1972م وباريس في 23/10/1974م و2/11/1974م وحاضرة الفاتيكان في 25/10/1974م ومجلس الكنائس العالمي في جنيف في 29 منه والمجلس الاوروبي في ستراسبورغ في 4/11/1974م لهذه الغاية حيث عقدت ندوات بين فريق من كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.. وبين نخبة من كبار رجال الفكر والقانون في اوروبا.. مثل الجانب السعودي فيها وزير العدل الاسبق الشيخ محمد الحركان رئيسا.. وعضوية المشايخ راشد بن خنين.. عمر بن مترك.. محمد بن جبير.. عبدالعزيز بن مسند.. محمد بن مبارك.. والدكتوران منير العجلاني.. ومعروف الدواليبي.. ومثل الجانب الاوروبي البروفيسور (Sean Mac Bride) وزير الخارجية الاسبق لجمهورية ايرلندا، ورئيس سابق للمجلس الاوروبي.. و(Karl Vasak) استاذ القانون العام في كلية (بوازنسون) بفرنسا.. والمستشرق (Henri Laoust) الاستاذ في (كوليج دوفرانس) و(Jean-LouisAujol) السكرتير العام لجمعية الصداقة السعودية الفرنسية.. وقد ابلى علماؤنا بلاء حسنا وازاحوا الكثير من حجب الجهالة.. وسوء الفهم.. واتاحوا الفرصة لتفاهم وتعاون ايجابيين لخير العالمين الاسلامي والمسيحي والانسانية جمعاء. ويبدو ان المرجعيات الدينية.. والسياسية.. والثقافية في الغرب الاغريقي الذي سيطر على مساحة واسعة من الشرق منذ انتصار الاسكندر الأكبر في موقعة (ابسويس) سنة 333 ق.م وتاليا سيطرة الاغريق والبطالسة والبيزنطيين وسقوط القسطنطينية على يد السلطان العثماني (محمد الفاتح) عام 857ه 1453م بعد أن لعبت كعاصمة للدولة البيزنطية أدوارا هامة في الحروب بينها وبين الدولة العثمانية وبعض ولاياتها التي هيأت مناخا خصبا للحروب الصليبية التي قادتها فيما بعد البابوية المسيحية مع امراء اوروبا بمشاركة معظم شعوبها والتي كانت من نتائجها احتلال وحكم اجزاء من العالم الاسلامي وخاصة فلسطين والشام لفترة امتدت من (489 690ه/ 1096 1291م).. وحقبة الانتداب والاستعمار.. اقول يبدو ان هذه المرجعيات لم تتخلص من رواسب الماضي فاستشعرت خطرا من أي حوار بناء يعكس حقيقة الاسلام الذي لا يخضع لإرادة البشر ولا يمكن وضعه في اطار فلسفي أو فكري وفقا للمفاهيم والمعايير والأهداف الغربية!! وقد كان الأمل أن يحقق هذا الانجاز الفيصلي خطوات ايجابية كبرى على صعيد الحوار بين الثقافتين العربية والغربية.. ويعزز أواصر التفاهم بين العرب والمسلمين من جهة والمجتمع الدولي من جهة أخرى لكن الفاتيكان تخلى عن هذا التوجه وتمادى في تجاهل الدين الذي يؤمن به مليار ومائتا مليون انسان حتى انه تراجع عن الاعتراف بالاسلام كأحد الأديان السماوية الثلاثة كما حدث في مؤتمر للحوار بين الأديان عقد في جمهورية مصر العربية شارك فيه شيخ الأزهر وعلماء مسلمون عندما أصر نائب الأمين العام للمجلس البابوي في الفاتيكان.. وممثل المجلس العالمي للكنائس على حذف عبارة الاديان السماوية والربانية من البيان الختامي لأن (وصف الاسلام كدين سماوي ورباني لا يزال محل خلاف لم يحسم بعد)!! ويعزو البعض عدم اكتراث الفاتيكان للحوار الى تعدد الحضارات وتعذر اقامة حوار مع كل منها.. وان ليس ثمة حاجة الى حوار يقتصر على حضارة واحدة كالحضارة الاسلامية!! وهو عذر أقبح من ذنب لأن جميع الشعوب والحضارات غير الاسلامية مقبولة.. ومرحب بالتعايش بينها وبين الغرب دون حساسية أو تحفظ.. أو تردد.. وليس هناك مشاعر كراهية ضدها ولا من يغذيها كما تفعل اسرائيل ضد العرب والمسلمين!! وهناك من يرى ان البابا غير مقتنع أصلا بالحوار بين الحضارات لتفوق الحضارة الغربية على غيرها من الحضارات ولأن (الأقوى ابقى من الأضعف.. والأغنى يتفوق على الافقر)!! وما دام ان عنصر التكافؤ مفقود فلا مبرر اذن للحوار!! لكن هناك من يرجع السبب الى نظرة الاستعلاء الغربية تجاه الشرق متجاهلين ان الأديان الثلاثة ظهرت بين ربوعه.. ومنه انطلقت الحضارة الاسلامية التي حضرت أوروبا بعد أن كانت غارقة في دياجير الجهل.. وظلام التخلف منذ الفتح الاسلامي لجزيرة (ايبريا) ولولا الاحتكاك بالثقافة الاسلامية لتأخر كثيرا ظهور نهضة أوروبية الى الوجود!! ورأي آخر يؤكد ان الغرب يفضل الحوار بين الأديان للوصول الى ارضية مشتركة ترضي الجميع وتحد من انتشار الاسلام على حساب المسيحية، لذلك دعا البابا للوحدة بين الأديان وهي دعوة مرفوضة اسلاميا فعقدت لقاءات وندوات كالمؤتمر الابراهيمي بقرطبة بأسبانيا عام 1987م.. على ألا يقدم الاسلام للغرب من منطلق (العالمية والهيمنة على الزمان والمكان وعدم الارتباط بالزمان والمكان) أي تحجيمه واضعافه وتحويله الى دين اقليمي!! ولما كانت هذه المؤتمرات لغاية دينية جاءت حوارات أخرى لأهداف سياسية كالحوار العربي الاوروبي.. وحوار الشرق والغرب.. وحوار الشمال والجنوب تسعى كلها الى فرض الهيمنة الغربية وتأمين مصالح الغرب وتجريد 15 مليون مسلم في أوروبا من ثقافتهم.. وهويتهم وخصوصيتهم بالدمج في الأوساط الأوروبية المرغوب تارة والمرفوض تارة أخرى.. ومن منطلقات مؤدلجة.. وتحليلات غير عقلانية لعب الاعلام الغربي أدوارا خطيرة في تشويه صورة العرب والمسلمين مستغلا حرفيته.. وفنونه وقدراته الايحائية رغم ما يدعيه. من موضوعية وفصل الارهاب عن الاسلام!! وما دام ان العنصر الاسلامي له كل هذا الالحاح في الوعي الغربي العام يتعين التخلص من (الاسلاموفوبيا) عقدة الخوف من الاسلام وتاليا الدعوة الى حوار بمفاهيم محددة مسبقا تؤدي في النهاية الى تأصيل قانوني للثقافة الاسلامية في الغرب وتمهد لتعايش وتعاون بين الحضارات بدل الصدام والصراع.