في روايته الخامسة الصادرة عن منشورات مومنت بالمملكة المتحدة في لندن، يرصد الروائي السوداني عماد البليك التحولات التي شهدها المجتمع المحلي في بلاده خلال العقود الخمسة الماضية، معتمداً على إحياء روح السرد الملتزم والناطق إلى أبعد مدى عبر اللغة الشفافة التي تشبه الشعر أحيانا والموغلة في الدقة، وهي لغة تشبه "حياكة السجاد"، كما سبق أن وصفه الكاتب والشاعر الفلسطيني غازي الذيبة من قبل. تدور أحداث الرواية التي جاءت في 152 صفحة من القطع الكبير حول طفل صغير يهرب من قسوة أسرته في إحدى القرى السودانية، ويصل إلى الخرطوم ليذوب بين ملايين البشر الباحثين عن صناعة مجد ذاتي، فيتعلم من الحياة، والاحتكاك بالبشر، إلى أن يصبح في غضون سنوات قليلة من أمهر وأشهر صناع وملّاك مطاعم الشاورما في الخرطوم بعد أن يرث مجد عائلة تركية تثق فيه وتكسبه خبراتها وتورّثه ثروتها التي يطورها بكده وعرق جبينه. ويشير ناشر الرواية إلى أن الكاتب أراد من خلال قصته سرد التحولات التي مرت على السودان خلال أكثر من نصف قرن، وأن بطل الرواية الفتى الصغير ما هو إلا مرآة صادقة تعكس كثيراً من التغيير الذي مسَّ حياة السودانيين خلال تلك الحقبة، والانهيار المريع الذي وصلت إليه بنى الدولة الحديثة إلى انفصال جنوب البلد. ويركز الكاتب في روايته على مساوئ الانقلابات العسكرية التي وقعت بالسودان، وما آل إليه الحال من حروب داخلية تمزق أواصره وتكاد تعصف بماضيه وتاريخه على حد سواء، مسلطاً الضوء على طبقة الأغنياء الجدد التي أثرت على حساب البسطاء، باستخدام واجهات الانقلاب والتدين الزائف. ويقول البليك في روايته إن السودان عاش قرابة قرن من الزمان تحت الحكم التركي، حتى جاءت الثورة المهدية التي حررت البلاد من الأتراك، لكن الأثر التركي بقي بقوة في السودان عبر العديد من العائلات العريقة التي رفضت مغادرة البلاد، فاستثمرت أموالها وامتلكت العديد من الأراضي الزراعية المميزة، ولا يزال هذا الوجود باقياً حتى الآن. ومما يميز الرواية، ابتعاد الكاتب عن سيطرة الراوي العليم بالأحداث، حيث ترك لأبطاله حرية التعبير عن أزماتهم على الرغم من محاولته إبداء صوت الراوي تعليقا على ما أصاب أبطال الرواية من تمزق وتشتت وانكفاء على الذات، والبحث عن الخلاص الفردي حتى ولو تجاوزوا المجتمع وانفلتوا منه. كما اتكأ البليك في سرده على الأشخاص وما يعانونه من أزمات إنسانية واقتصادية ونفسية ومدى انعكاس ذلك عليهم أخلاقيا وعلى المجتمع بأسره، كما حرص على إخفاء أسماء شخوص الرواية والتدليل عليها بصفاتها داخل المجتمع مثل "الأعرج، والسيدة، والخال" في سياق سردي متكامل، اعتمد فيه على واقعية اجتماعية، مما أعاد الذاكرة إلى المدارس السردية الكلاسيكية. كما لم يبرئ الكاتب بطل روايته من الزلل والأخطاء، بل ركز على التغير الأخلاقي الذي أصابه جراء ثرائه المفاجئ، فانخرط في صفقات مشبوهة مع بعض الأثرياء الجدد، وبنى علاقاته معهم على أساس المنفعة المحضة والمتعة الذاتية المؤقتة.