تتعرض الحكومة الأفغانية برئاسة حامد قرضاي في الآونة الأخيرة، لضغوط غربية تهدف إلى توقيع اتفاقية أمنية مع واشنطن ومنح قواتها حصانة قضائية وعدم انتقاد الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية من قبل المسؤولين في الحكومة الأفغانية. فالولاياتالمتحدة وحلفاؤها كانوا يتغنون في الأيام الأولى من حربهم على أفغانستان قبل أكثر من 12 عاماً، بأنهم سيدفعون بأفغانستان إلى وضع معيشي يتحسر عليه خصومها من دول المنطقة لما ستحرزه من تقدم في مجالات مختلفة، ولكن ما تنامى وازدهر في بلاد الأفغان في الوقت الحالي هو العنف والإرهاب والتوتر الأمني والصراعات الإقليمية والعالمية عليها، وتزايد المخدرات التي أبقت أفغانستان في قمة الدول المصدرة لها في العالم. وبعد مرور أكثر من 12 عاماً على الإطاحة بنظام طالبان بدعوى تحالفها مع القاعدة وإيوائها زعيم التنظيم أسامة بن لادن، فإن تلك الوعود الغربية لم تحقق بل ولا يزال الفقر والبطالة والتوتر الأمني محدقا بالبلاد. والحقيقة أن الحلف الأطلسي خاصة الولاياتالمتحدة، فشل في تحقيق وعوده المعسولة في الأيام الأولى من حربه على أفغانستان وقبل عقد من الزمن بالرغم من إنفاق المليارات. "اللويا جيرغا" وأخيراً وبعد عقد جولات مباحثات بين المسؤولين في الحكومة الأفغانية والمسؤولين الأميركيين حول الاتفاقية الأمنية بين الطرفين التي كانت واشنطن تتسرع في توقيعها وعلى عجل مع حكومة كابول التي تدعمها، ولكن الأخيرة حوّلت اتخاذ القرار النهائي لتوقيعها واعتماد بنودها الحساسة إلى مجلس أعيان أفغانستان "اللويا جيرغا"، التي بدأت حكومة كابول استعداداتها لانعقادها بمشاركة حوالي 3 آلاف من أعيان جميع أفغانستان. وكان الرئيس الأفغاني حامد قرضاي المقرب من واشنطن قال سابقاً: إن الأخيرة لا تريد الانسحاب الكامل من أفغانستان وتطلب منا إنشاء 9 قواعد عسكرية دائمة في البلاد، ولوّح في رد أفغانستان على مطالبة واشنطن بهذا الشأن. وقال: إنه سيسعى في طي هذه الاتفاقية عدم الإضرار بالحاكمية الوطنية للبلاد، مشيراً إلى أنه يخالف واشنطن في بندين من الاتفاقية الأمنية هما: التعريف بالاعتداء واليد المفتوحة للقوات الأميركية في عملياتها العسكرية في بلاد الأفغان بعد عام 2014. سرية البنود وحاول الأميركيون توقيع الاتفاقية الأمنية مع حكومة كابول في أسرع وقت ممكن وقبل الحملات الانتخابية المقرر بدؤها في غضون شهور قليلة مقبلة، بهدف عدم إعلامية مجريات هذه الاتفاقية، ولهذا السبب لا تزال وسائل الإعلام الإقليمية والغربية وحتى المقربة من الحكومة الأميركية لا تملك متن هذه الاتفاقية بحذافيرها حتى الآن، إضافة إلى تأكيد الولاياتالمتحدة على توقيع هذه الاتفاقية قبل تاريخ 30 أكتوبر الماضي من جانب، ومن جانب آخر مجهولية المواد الواردة في متن هذه الاتفاقية من وسائل الإعلام المتزامنة مع العجلة الكاتمة لكثير من الحقائق. تعريف الاعتداء ولا يزال قرضاي يؤكد على وضع تعريف خاص للاعتداء والعمل عليه في حين أن الولاياتالمتحدة تتقاعس من التعريفات الخاصة الملزمة لها. وأبلغت الحكومة الأفغانية سابقاً أن حربها في أفغانستان ستتحول بعد عام 2014 من الحرب على الشغب إلى الحرب على الإرهاب، منطقة القبائل وتؤكد الحكومة الأفغانية وعلى رأسها حامد قرضاي على أن مراكز الإرهاب خارج الحدود الأفغانية في إشارته إلى منطقة القبائل الباكستانية المحاذية للحدود مع أفغانستان، وليس في قرى ومدن أفغانستان وأن مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وبقية قادة التنظيم في باكستان دليل على ذلك. ولكن الولاياتالمتحدة لم تنظر كثيرا إلى ذلك، بل واصلت الحرب والغارات كما أرادت في قرى ومدن أفغانستان ما تسبب في سقوط عشرات الآلاف من الأفغانيين بين قتيل وجريح إلى جانب اعتقال الآلاف الآخرين دون محاكمة. ويعني تأكيد الرئيس الأفغاني على وضع تعريف خاص للاعتداء أنه يجب أن يعدّ تسلل شخص واحد من المسلحين عبر الحدود إلى داخل البلاد اعتداء، وعلى الولاياتالمتحدة وحلفائها اتخاذ اللازم حيال ذلك، كما يريد الرئيس الأفغاني من وضع تعريف خاص للاعتداء الحصول على وسيلة الضغط على باكستان. من جانب آخر، ردت الولاياتالمتحدة مطالبة الحكومة الأفغانية الدفاع عنها في حال تتعرض لاعتداء من قبل جيرانها في المنطقة، في حين أن الأميركيين قالوا للجانب الأفغاني أثناء مباحثاتهم حول الاتفاق الأمني، إن القسم الكبير من الحدود الأفغانية المشتركة مع باكستان غير محدّدة، لذا فالأميركيون غير مستعدين للتدخل في النزاعات الحدودية غير المحددة بين البلدين الجارين في المنطقة. كما أن الأميركيين طلبوا من الجانب الأفغاني أنه يجب حل أزمة الحدود المشتركة المتنازع عليها بعد توقيع الاتفاقية الأمنية، حيث يرى الأميركيون أن نفوذ الإرهابيين في المنطقة نتيجة عدم تحديد الخط الفاصل بين البلدين. نوعية المهمة العسكرية يدعو الاتفاق الأمني الأميركي- الأفغاني إلى أن تكون القوات الأميركية مفتوحة الأيدي في قتل واعتقال من تريد في حربها على الإرهاب من رعايا أفغانستان. كما يصر الأميركيون على إدماج الاتفاق المشترك لعام 2002، الذي يخول للأميركيين قتل واعتقال سكان أفغانستان في العمليات العسكرية ضمن الاتفاق الأمني المتنازع عليه بين الطرفين. فاليد المفتوحة للأميركيين في العمليات العسكرية إن كانت تعدّ نقض السيادة الوطنية من جانب، فهي تعني من طرف آخر قبول الحصانة القضائية للأميركيين بعد عام 2014، وهذا إلى جانب أن الآلاف من الأفغانيين قتلوا واعتقلوا خلال سنوات الحرب الماضية وأقبع بهم في السجون الأميركية دون محاكمة ومصير مجهول بشبهة علاقتهم بالقاعدة وطالبان. وعود فارغة يقول الأميركيون إن عملياتهم العسكرية في أفغانستان ستكون منسقة مع القوات الأفغانية بعد عام 2014، ولكن الجانب الأفغاني يرى أن تلك وعود فارغة جرِّب مرُّها في السنوات الماضية من الحرب والمواجهات في أفغانستان، الأمر الذي تسبب في فقد ثقة الشعب والمواطن الأفغاني على الحكومة من جانب ودعم صفوف المقاتلين من جانب آخر، وبعد الآن ستتقدم الحكومة الأفغانية بشكواها إلى أية جهة إذا ما تكرر نكث القوات الأميركية لوعودها وتعهداتها مثل السابق؟ حصانة قضائية أما مسألة الحصانة القضائية خارج حدود الولاياتالمتحدة، فهي مسألة لا تستعد واشنطن لقبولها أو حتى مناقشتها مع أحد غيرها. فلو أن أفغانستان ترفض الحصانة القضائية للقوات الأميركية على أراضيها فستسحب واشنطن كافة قواتها من هذا البلد مثل العراق، الأمر الذي سيفسح المجال للإسلاميين مثل نهاية القرن الماضي من جديد، حيث إنهم بانتظار هذا اليوم. وتعد الحصانة القضائية للجنود الأميركيين هي محور المباحثات بين المسؤولين في الحكومتين الأفغانية والأميركية المختلف عليها، ولم يتوصل الطرفان إلى نقطة النهاية حتى الآن رغم عقدهما أكثر من 8 جولات من المباحثات حول الاتفاقية الأمنية التي تعد هذه المسألة من أهم بنودها المختلف حولها. وكان الجانب الأفغاني يصر على أن تخلفات الجنود الأميركيين وارتكابهم جرائم إن كانت داخل القواعد العسكرية التي يستخدمها الأميركيون فيجب محاكمتهم وفق القوانين الأميركية، وأما إن كانت خارج تلك القواعد فيجب محاكمتهم وفق قوانين جزاء أفغانستان، لكن الأميركيين قالوا إن هذا خط "قرمز" (أحمر)، حيث إن القانون الأميركي لا يسمح بمحاكمة الجنود وفق قوانين غير القوانين الأميركية في الخارج. وذكر الأميركيون في مسودة الاتفاقية الأمنية - خداعا للأفغانيين - أن هيئة مشتركة من الطرفين ستدرس تخلفات الجنود الأميركيين إذا ارتكبوها في أفغانستان وسيحاكمون، بفارق أن الجانب الأميركي سيتخذ القرار بشأن مكان محاكمتهم. مجلس الأعيان وأخيراً قام وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بزيارة خاطفة إلى أفغانستان وأجرى مباحثات مكثفة لساعات مع الرئيس الأفغاني خلف الأبواب المغلقة في القصر الرئاسي بكابول، وباحتفاظ كثير من تفاصيلها ودون حضور الصحفيين. ويقال إن كيري حاول خلال مباحثاته الأخيرة في كابول إرغام الرئيس الأفغاني على قبول منح القوات الأميركية المقرر بقاؤها في أفغانستان "الحصانة القضائية" بعد عام 2014 ولفترة غير معلومة، ولكن الرئيس الأفغاني يعلم – بحسب المراقبين - أن هذه المسألة تعد له بمثابة الانتحاري السياسي إذا وافق عليها دون التشاور مع شعبه، فاستغل حسن التخلص من هذا الأمر وحوله إلى مجلس أعيان أفغانستان "اللويا جيرغا" الذي سيتخذ القرار المصيري فيه. وأنكر الرئيس الأفغاني في مؤتمره الصحفي المشترك الذي عقده مع كيري، أن يكون قد خاض أو ناقش "الحصانة القضائية للأميركيين في بلاده" على الأقل، وقال: إن هذا الأمر فوق قدرة وصلاحيات حكومته ولمح إلى أن الشعب الأفغاني سيتخذ القرر في هذا الأمر وليست حكومته. وأكد كل من كيري وقرضاي في مؤتمرهما الصحفي المشترك على أن الجانبين أحرزا تقدما في مجال مباحثاتهما حول الاتفاقية الأمنية دون تفاصيل، ولكن كيري حذر في الوقت نفسه من أن الولاياتالمتحدة ستسحب كافة قواتها العسكرية من أفغانستان بعد عام 2014 إذا رفضت الأخيرة منح "الحصانة القضائية" لقواتنا على أراضيها. ضغوط غربية ولا يزال الغربيون يواصلون ضغوطهم على كابول وهم بصدد تهيئة أذهان الأفغانيين لقبول الحصانة القضائية للأميركيين على أراضيهم، فإعلان إغلاق القسم القنصلي في السفارة الألمانية بكابول وإعلان المخابرات البريطانية نشر مزيد من جواسيسها في أفغانستان بذريعة ضعف القوات والسلطات الأفغانية نماذج من جملة هذه الضغوط، ومن المتوقع أن نشهد في المستقبل القريب أمثلة لمثل هذه الضغوط أيضاً. التجربة العراقية ولكن يجب أن نستذكر أن توقيع الاتفاقية الأمنية ومنح الحصانة القضائية للأميركيين في أفغانستان وفق الدستور الأميركي مسؤولية كبيرة، ويدرك الأفغانيون أن هيمنة القوات غير الإسلامية في بلاد المسلمين لا يقبله الدين الإسلامي وهذا عمل خلاف تعاليم وإرشادات دينهم، وهذا الأمر دفع البرلمان العراقي إلى عدم منح الأميركيين حصانة قضائية في بلادهم، ما دفع البنتاجون إلى سحب كافة القوات الأميركية من هذا البلد. ومع كل هذا تتناول الصحافة الأفغانية بأنواعها وأقسامها المختلفة عن مسؤولين ذوي النفوذ والشعبية في الحكومة الأفغانية أن مجلس أعيان أفغانستان الذي يعد أكبر مجلس تشريعي في البلاد سيوافق على الاتفاقية الأمنية مع واشنطن بغض النظر عن الحصانة القضائية لجنودها وسيعتمدها، وهذا ما يؤكد أن المسألة على وشك الانتهاء وأن الدعوة لانعقاد مجلس "اللويا جيرغا" عمل شكلي، وإذا كان الأمر كذلك فيجب على الحكومة الأفغانية ألاّ تتسبب في تنكيس حيثية "الجيرغا" وتشويه سمعتها التاريخية في أذهان العامة في المنطقة والعالم، وهذا إلى جانب عدم صرف وإنفاق الملايين في تدوير هذه "الجيرغا" من خزانة الدولة التي لا تزال تحمل كشكولتها هنا وهناك.