بعد الانفصال التام بين عملاقَي الدراما السعودية بطلَي مسلسل طاش ما طاش «القصبي والسدحان»، اتجه كل منهما إلى عالمه الخاص، الذي يؤدي فيه رسالته الفنية على الوجه الذي يراه. في العام الماضي فاجأنا القصبي بحلقات متميزة، قدمها في مسلسل جديد يحمل اسم «سيلفي»، حيث جاءت حلقاته الدرامية متنوعة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً بأسلوب نقدي حضاري جريء، وطريقة جديدة في طرح القضايا، ساهم في ذلك وجود عدد من الكُتَّاب «الجميلين»، الذين وقفوا وراء تلك الحلقات، التي تفوَّق فيها المسلسل على نفسه، بإشراف الكاتب المتميز خلف الحربي، ليثبت القصبي أنه الرقم الصعب في الفن السعودي، بل والمتربع حالياً على رأس الهرم الفني في الخليج العربي. وفي أولى ليالي رمضان الحالي، اتجهت كل الأنظار إلى متابعة الحلقة الأولى من مسلسل «سيلفي» في نسخته الثانية، وأجزم بأن باقي الحلقات تتم متابعتها من قِبل جميع المهتمين بالمجتمع السعودي، وكل المسؤولين في الدولة لما يتمتع به المسلسل من قوة في طرح القضايا الثقافية والاجتماعية، وقضايا الفساد الإداري، ونقدها وتوجيهها بطريقة «عملاقة»، تعاون فيها كوكبة من الفنانين المتميزين، ليقدموا فناً راقياً بعيداً عن الإسفاف والتحجُّر، بمساعدة عدد من الكُتَّاب الذين يحملون مشعل التنوير، ويحرصون على تقديم دروس مجانية لمَنْ يحارب الفن، وينكر أنه يقدم رسائل مهمة للمجتمع، ويحرص على التلاحم الوطني بصفة عامة. لا شك في أن الدراما في البيئة السوية تُحدث نقلة نوعية في فكر المجتمعات بما تكشفه عدساتها المكبِّرة صوتاً وصورة، فكم حلقة في «سيلفي 2» خرج الجمهور بعد نهايتها يشيد بها، وبأبطالها، وبطريقة معالجتها القضية التي طرحتها، وكم حلقة جعلت الجمهور بعد مشاهدتها يلعن الطائفية، ويلعن كل مَنْ يؤجج نارها، وكم حلقة سلطت الأضواء على الفكر الداعشي، ومن أين جاء؟ وكيف وصل الأمر بالشباب من معدومي الإنسانية إلى أن يقتلوا والديهم، وإخوتهم، وأخوالهم وأعمامهم في شهر رمضان المبارك. بعض الحلقات التي اصطدمت بشكل مباشر مع بعض العادات والتقاليد، والآداب والسلوكيات، والتشريعات، وأثارت غضب فئة دون أخرى، بيَّنت أن الأيديولوجيات المختلفة تسبَّبت في صراعات نفسية واجتماعية، وخلقت حالات من الانفصام في الوعي، وكشفت عوار المجتمع المؤدلج بسبب المنبر الوعظي المتشدد الذي خلق فكراً مشوهاً، وأظهرت بعض الحلقات أن الدواعش ليس لهم علاقة بالدين والمتدينين، فهم مجموعة إرهابية مجرمة، تكوَّنت من عدد من العاطلين المأزومين الذين جمعتهم السذاجة، وأوضحت أن الطائفية وبالٌ على كل المجتمعات، ووجَّهت دعوة للتعايش الوطني مع كل الطوائف دون تمييز. الرسائل وصلت، لكن التغيير ليس مسؤولية الدراما وحدها، ما لم تكن مؤهلة تأهيلاً فكرياً وثقافياً حتى تستطيع أن تحدث تغييراً في المجتمع إلى الصورة التي ترضي الجميع، فالأمر صعبٌ في ظل الظروف الاجتماعية الحالية، ولن يتغير شيء ما لم تشترك معها كل المؤسسات الدينية والثقافية والتربوية ومنابرها في المدارس والجامعات.