«في عام 1419ه أمضت الإذاعة نصف قرن من عمرها، بلا ضجة ولا ضوضاء، إذ لم يشأ القائمون عليها أن يذكِّروا الناس كيف كانت هذه الإذاعة؟ وكيف أضحت؟ أو كيف تطورت رسالتها؟ ولا عرّفتهم على جيل الرواد، الذين أسهموا بجهد بارز في تثبيت دعائمها». هذا ما كتبه في مذكراته الإعلامي الرائد الدكتور بدر أحمد كريم، في كتابه «أتذكر»، الذي يتذكر فيه كيف كانت بدايته مع الإذاعة، وكيف بدأ كفاحه من نقطة الصفر، وهو كتاب يُعدُّ مرجعاً مهماً في مسيرة الإذاعة، ويُشكِّل رصداً شاملاً لحياة أحد رواد الإعلام وصُنّاع التجارب في الزمن الصعب. كم هو عجيب حقل الإعلام هذا؟! فهو يصنع نجومية كثيرين، ويشتهر بواسطة وسائله المختلفة نجومٌ، وأشخاصٌ، لكن الذين يصنعونه، والذين أسهموا في تطوره من رواده المبدعين، وكانوا جزءاً من تاريخه، يتجاهلهم الإعلام، ولا يتذكرهم القائمون عليه، وفاءً لهم، وتكريماً لعطائهم. حزنت كثيراً حين سمعت نبأ وفاته، فرحيله يُعدُّ خسارة للإعلام بكل قنواته، حيث أفنى حياته في مجالاته المختلفة مذيعاً، ومسؤولاً، وصحفياً، وأستاذاً أكاديمياً في الإعلام، وكان حزني أكبر لأن الإعلام تجاهله، وقد عانى طويلاً من مرضه. بدر كريم.. الإعلامي العصامي الكبير. علامة بارزة في مشوار الإذاعة، وفي إعلامنا عموماً، بل هو مثال فريد في الكفاح والإبداع، ومواصلة العطاء، لم تثنِه الحواجز والعوائق عن تحقيق طموحاته الكبيرة، بدءاً من الشهادة الابتدائية، التي توظف بها حتى حصوله على شهادة الدكتوراة، التي هيَّأته ليكون أستاذاً جامعياً محنكاً، وخبيراً في مجاله. لم يكن يدرك وزير الإعلام وقتها، معالي الشيخ جميل الحجيلان، أن مَنْ وجهه مؤكداً أنه لا يمكن لأي إنسان لا مؤهل دراسياً له، ولا يملك خلفية ثقافية، أن يصبح مذيعاً، كان مخطئاً لأن بدر كريم، حين التحق بالإذاعة كان مؤهله الدراسي الابتدائية، وبرهن له بعصاميته وعزيمته أنه سيكون من الكفاءات، وذوي الخبرة في الإعلام، ممَّن يفخر بهم الوطن، وأستاذاً جامعياً في أكبر جامعاتنا، كما اختير ليكون عضواً في مجلس الشورى. بدر كريم الإعلامي الرائد، رحمه الله، شق طريقه بكفاحه، وبعصامية متناهية، كان حظه أن سطع نجمه، وتجلَّت مواهبه مع نخبة من رواد الإعلام، الذين تعلم منهم، وتأثر بهم، أمثال: عباس غزاوي، مطلق الذيابي وعبدالله راجح. وتعلم من الأدباء الذين لم يبخلوا عليه بتوجيهاتهم، الأساتذة: محمد حسين زيدان، أبو تراب، عزيز ضياء، وضياء الدين رجب. من خلال معرفتي له، وتعاوني مع الإذاعة عندما كان مديراً للبرامج، أستطيع أن أقول إنه كان لديه، رحمه الله، حس عالٍ نحو واجباته، وإنصافه المخلصين ممَّن عملوا معه، وأدوا واجبهم على أفضل ما يكون الأداء بكل إخلاص وإتقان، وقد مارس عمله الإذاعي، ليس بصفته موظفاً له مسؤولياته وواجباته، ولا باعتباره مسؤولاً يتولى مهام الإدارة والإشراف على مرفق إعلامي له حساسيته وأهميته مثل الإذاعة، بل مارس عطاءه بإبداع وحرفية، لذلك كانت إذاعة جدة في أزهى عهود تألقها ونجاحاتها وتفوقها في الفترة التي كان فيها مديراً لها، ومطوراً لهيكل برامجها، في وقت كانت فيه المعايير أكثر صرامة وقيوداً، والتنافس بين الإذاعات على أشده، ولم يأخذ التلفاز دوره في المنافسة، لذلك كان يوحي للجميع بأن العمل في الإذاعة ملهم ومحفِّز على العطاء. للمقال تتمة.