لو أراد أحدنا أن يطلع على الأبحاث والدراسات التي كتبها على مدار القرن العشرين أكاديميون عرب أو غير أكاديميين، لتبين له بعد أن يعود إلى «لائحة مراجع البحث» أن أكثر الكتب الواردة فيها طبعت في بيروت. كما يتبين له أن تاريخ طباعة هذه المراجع لا يعود إلى الماضي القريب فقط، بل إلى الماضي البعيد أيضاً. أي: إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وإلى القرن العشرين كله. وهذا يعني أن الطبعة اللبنانية - العربية لم تتوقف منذ أكثر من مئة سنة، فهي بذلك تنافس «مطبعة بولاق» والمطبعة المصرية عموماً، في خدمة اللغة العربية والتراث العربي، إن لم تكن تتفوق عليها في هذه المباراة المباركة، وهذا أمر عجيب إذ كيف أمكن لبلد صغير مساحته لا تتجاوز العشرة آلاف كيلو متر مربع وعمره أقل من مئة سنة، أن ينافس بلداً عربياً كبيراً مثل مصر له تاريخه العريق في الثقافة والحضارة فيقدم لأمته العربية من الكتب ما لم يقدمه لها حتى هذا البلد الكبير؟. يكمن السبب بنظرنا في مرفأ بيروت وانفتاحه المبكر على الحضارة الحديثة. بدأ هذا المرفأ يستقبل - بدءاً من القرن السادس عشر - بعثات أجنبية قادمة في الأعم الأغلب من إيطاليا وفرنسا، جاءت إلى لبنان لتنشئ فيه مدارس وجامعات. وكان من الطبيعي أن يعرف لبنان لغات هذه البعثات الأجنبية قبل سواه من أشقائه العرب، وأن يقرأ ويتكلم بها مع الوقت وبالتالي أن ينقل بواسطة المطابع التي استقدمتها هذه البعثات معها علوم الأجانب وثقافتهم وآدابهم وأن يعمل على تبيئتها وقيام روابط بينها وبين اللغة العربية عن طريق الترجمة. فما إن مضت عدة عقود على هذا الجسر البحري الحضاري بين مرفأ بيروت ومرافئ مارسيليا وجنوا وسائر المرافق الأوروبية حتى أخذت بيروت تنمو من قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ستة آلاف نسمة إلى مدينة شبه أوروبية تقوم فيها مدارس وجامعات ومراكز أبحاث كثيرة وهو ما لم تعرفه أي مدينة عربية قلبها لا في المشرق ولا في المغرب. ومع أن الباحثين يختلفون في العادة حول أي المطبعتين قدمت من أوروبا إلى الشرق قبل سواها: مطبعة حلب أم مطبعة لبنان، فلا شك أن الازدهار الذي عرفته المطبعة اللبنانية فاق بما لا يقاس الازدهار الذي عرفته مطبعة حلب أو مطبعة بولاق. ولو تساءلنا عن سبب هذا الازدهار لما وجدناه إلا في مناخ الحرية الذي وجدت بيروت نفسها معتادة عليه منذ القديم، بحكم كونها بلد أقليات دينية كثيراً ما لجأت إليه هرباً من حاكم مستبد، والواقع ان طابع لبنان كبلد أقليات، لم يتغير عبر التاريخ إذ لم تسد فيه طائفة على بقية الطوائف وتتحول بقية الطوائف إلى ٍأقلية. فلبنان كان ولا يزال إلى اليوم بلد أقليات لا بلد أكثرية وأقلية، أو أقليات. ويبدو أن لهذا الملمح الاجتماعي فائدته القصوى على الانفتاح والتثاقف بوجه عام. وهذا يعني أن الحرية مغروسة في صميم الكينونة اللبنانية، وبواسطتها حقق لبنان ما حققه على صعيد الانفتاح على الثقافات والحضارات واللغات. ومع أن لبنان حقق كثيراً من الإنجازات الحضارية الحديثة إلا أن المطبعة اللبنانية التي لم تتوقف عن الدوران حتى في زمن الحروب والفتن، تظل في طليعة ما حققه. وإذا كانت مطبعة بولاق قد نافست المطبعة اللبنانية في بعض الحقب، فإن للمطبعة اللبنانية فضائل كثيرة كان من الطبيعي أن تنفرد بها، منها أنها لم تقتصر على مهمة شبه وحيدة هي تحقيق التراث، وقد حققت هذه كثيراً ولا تزال تحقق إلى اليوم، بل أشاعت المناهج والطرائق والأساليب الحديثة في كل العلوم والمعارف. فهي مطبعة تطبع بالعربية وبالأجنبية، أو على الأصح بعدة لغات أجنبية، لذلك فهي حريصة على التوفيق بين تحقيق القديم وطباعته، وبين دراسته ونقده ومراجعته بحسب الطرائق الحديثة. ومع الوقت نشأت لهذه المطبعة سمعة حسنة. فمجرد أن يكون الكتاب مطبوعاً في بيروت يعني أنه «مشغول» بعناية سواء من حيث مضمونه أو من حيث إخراجه، فالمطبعة اللبنانية إذن عنوان للجودة. من البداية حملت المطبعة اللبنانية مشروعاً ورسالة. وإذا كانت مهنة الطباعة قد استوت مع الوقت في عداد المهن التجارية، فإن المطبعة اللبنانية لم تلج عالم التجارة إلا متأخرة. فعندما ولدت لم تتوخ إلا المساهمة في دخول الحضارة الحديثة إلى ربوع الشرق، بعد أن أشاعت القرون الوسطى ثقافة الظلام أو الظلامية. وكان من أول ما اهتمت به هذه المطبعة كتب إحياء التراث وكتب اللغة. ولو أراد أحدنا أن يطّلع على ما أنجزه اللبنانيون في هذا الإطار، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لعثر على نفائس لم يكتب مثلها علماء اللغة العربية، لا من قبل ولا من بعد. فما أن أهل القرن العشرون حتى كانت هناك عائلات لبنانية متخصصة بكامل أفرادها تقريباً في دراسة العربية وتدريسها والتأليف في صرفها ونحوها. ومن هذه العائلات عائلة البستاني واليازجي والمعلوف والشرتوني وهمّام وسواهم، ولأمين نخلة بحث مطول حول ما أنجزه اللبنانيون في هذا الموضوع. لم تتمكن مطبعة حلب، أو المطبعة السورية بوجه عام، من أن تنافس مطبعة بيروت، أو حتى أن تعمل بصورة عادية لأسباب مختلفة، منها أن «الرقيب» مثلاً من والٍ أو متصرف أو حاكم كان يحول بينها وبين أن توصل الفكر الحر إلى القارئ. ومع أن حلب في القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت مدينة حداثة وانفتاح على الحضارة الغربية، إلا أنها عجزت عن اللحاق بمدينة البحر وبمطبعتها على الخصوص. فبيروت، المدينة المزروعة على بحر، والمتفاعلة بصورة شبه يومية مع أوروبا، نشأت فيها مع الوقت تقنيات وكفاءات وتقاليد لا ازدهار لمهنة الطباعة من دونها. ولأن عين الرقيب كانت غائبة إلى حد بعيد عن عالم المطبعة اللبنانية، فقد أنجزت هذه المطبعة فوق ما هو متصور منها. ومن الأمثلة على ذلك ما أوردناه في السابق حول كون أكثر مراجع الأبحاث والدراسات الجامعية العربية قد طُبع في بيروت لا في سواها. فهذا السوى، أيا كان، يأتي بعد بيروت. ولهذا مدلولاته ولاشك منها أن هذه القرية الصغيرة التي كان عدد سكانها ستة آلاف نسمة في بداية القرن العشرين، أي قبل نشوء الدولة اللبنانية الحالية بسنوات قليلة، تحولت في ظرف يقل عن خمسين سنة إلى عاصمة ثقافية عربية كبرى، إن لم يكن إلى عاصمة الثقافة العربية. ألقى الدكتور طه حسين الملقب بعميد الأدب العربي في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي محاضرة في بيروت ذكر فيها أن بيروت، لا القاهرة، هي عاصمة الثقافة العربية. وأثارت هذه العبارة ضجة كبرى يومها، واستنكاراً على الخصوص في مصر. في ظرف زمني لا يتجاوز المئة والخمسين سنة، شكلت مدينة بيروت قلب العربية والعروبة معاً. صدر عن مطبعتها منذ مرحلتها الحديثة التي تبدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى اليوم، الآلاف بل الملايين من العناوين التي ساهمت في نقل العربية وأبنائها من حال إلى حال. لاتزال هذه المطبعة في أوج توهجها، وعنها تصدر كتب في تحقيق التراث ودراسته ونقده، وكتب أخرى تنقل مختلف مناشط العقل العربي والإنساني المعاصر. ومع أن هناك مدناً عربية كثيرة بات لديها مطابع وعنها يصدر ما لا يحصى من الكتب، فإن للكتب الصادرة عن المطبعة اللبنانية نكهتها الخاصة ومذاقها الخاص. فمجرد أن هذه الكتب طُبعت في بيروت يهب هذه الكتب سمعة ومكانة خاصة. أحياناً كثيرة تطبع هذه المطبعة كتباً لا يشار في صفحاتها الأولى إلى أنها طبعت في بيروت. يبقى مكان الطباعة مجهولاً ولهذا سببه، ذلك أن إمكانية طباعتها في بلد مؤلفها أو الجهة التي تقف وراءها تكون متعذرة، والسبب سياسي على الأرجح. وهذا يعني أن للمطبعة اللبنانية دوراً تنويرياً خفياً لا يمكن لسواها من المطابع أن يؤديه. على أنه إذا كان لهذه المطبعة تاريخ حافل بالفضائل والمكرمات، فإن مستقبلها تحيط به مخاطر شتى. ذلك أن الدور الذي اضطلعت به في ماضي أيامها الزاهرات، كان مرتبطاً بمكان هو بيروت أو لبنان. هذا المكان مهدد بأن يفقد اليوم، وغداً وبعد غد، مواصفاته التقليدية كمكان منذور للحرية والكلمة الحرة بوجه خاص. من يهدد لبنان مثل هذا التهديد الخطير؟ إنه الحركات الرجعية ذات النظرة الأحادية التي تدعي أنها تمتلك اليقين والحقيقة وحدها، في حين يقبع الآخرون في الظلام. ولاشك أن حزب الله في طليعة هذه الحركات، وسيادة نظرته الأحادية إلى أمور الدين والدنيا لا يعني سوى الإجهاز على هذه المطبعة وتصفية تاريخها ودورها، تمهيداً لتحويلها إلى مطبعة الرأي الواحد والصوت الواحد، وهذا يعني انهيار المطبعة وانهيار المكان في آن.