من المؤكد أنّ مسلمي الأندلس كانوا أول من عرف ومارس طباعة الكتب على الحجر والخشب. وبسبب رواج طباعة الكتب بواسطتهم هناك أمكن لصناعة الطباعة أن تبصر النور في أوروبا وبالتحديد في إيطاليا، وذلك من طريق الاتصالات والعلاقات التي قامت بين سكان الأندلس وسائر الشعوب الأوروبية. وتعتبر مدينة «نانو» الإيطالية من أولى المدن التي ظهرت فيها المطابع العربية بأمر من البابا يوليوس الثاني والتي دشّنها البابا ليون العاشر عام 1514. وأول كتاب عربي طبع منها في تلك السنة هو كتاب ديني بعنوان «صلاة السواعي» ثم سفر الزبور عام 1516، وبعدهما بقليل طبع القرآن الكريم في مدينة البندقية، كما طبعت ترجمته الإيطالية الأولى عام 1547. ثم تعددت المطابع العربية في أوروبا، فطبعت منها مئات الكتب العربية وغيرها وأكثرها في لندن وباريس وليبسك وليون وفينا وبرلين وغيرهما. أما عن تاريخ نشوء المطابع العربية فنعود إلى السوريين الذين كانوا أسبق المشارقة إلى الطبع بالأحرف العربية. وقد أمكن لمدينة حلب السورية أن تسبق سائر المدن العربية والعثمانية إلى مباشرة هذه الطباعة في أوائل القرن الثامن عشر، فطبع أول كتاب كنسي باليونانية والعربية عام 1702 ثم طبع الإنجيل فيها عام 1706. هذا في حلب أما في دمشق فقد تأخر ظهورها إلى عام 1855 حيث استقدم حنا الدوماني مطبعة حروف عرفت باسم «مطبعة الدوماني» قامت بطباعة كتب دينية وأدبية قبل أن تتوقف عام 1885. والمطبعة الثانية في دمشق تعود إلى عام 1864 حيث عمدت الدولة العثمانية الى إنشاء أول مطابعها بالعربية باسم « مطبعة ولاية سورية» وذلك لطبع جريدتها الأولى «سورية» ترويجاً لسياستها والتفافاً على المصلحين الناقمين الذين كانوا ينعتون سياستها بالتجهيل. ثم أسست مطبعة أخرى عرفت بالمطبعة العسكرية اهتمت بمطبوعات الجيش ونشر التقاويم واللوائح العسكرية، ولكنها لم تستمر طويلاً إذ توقفت عن العمل. وحولت أعمالها إلى مطبعة «ولاية سورية». ثم ظهرت المطابع في لبنان، ومن أقدم مطابعه مطبعة قزحيا التي تأسست في دير قزحيا شمال إهدن وطبعت كتاب المزامير بالسريانية والعربية المكتوبة بالحرف الكرشوني وعدداً من المؤلفات القديمة، وهي لا تزال موجودة حتى اليوم. ويبدو أنّ لبنان الذي عرف أولى المطابع في أراضيه على يد رجال الدين الأجانب سرعان ما أدرك أبناؤه أهمية هذه الأداة في نشر الأفكار وإرشاد الناشئة فأقدموا على تأسيس مطابعهم، كالشماس السوري عبدالله زاخر الذي درس العلوم الكنسية على كبار القساوسة، وأخذ العربية على الشيخ سليمان النحوي فأنشأ مطبعته عام 1733 في دير مار يوحنا إثر لجوئه إلى لبنان عام 1728. فبعد الخلاف الذي حدث عام 1720م بين المذهب الكاثوليكي والمذهب الأرثوذوكسي أمكن للشماس أن ينشر تعاليمه ويدعو إلى معتقده من خلال مطبعته فأصدر عن هذه المطبعة ما يقرب من أربعة وثلاثين مؤلفاً دينياً وحقّق لديه شهرة واسعة. وقد أتى الرحالة الفرنسي فرنسوا دي فولني على ذكر مطبعة « دير مار يوحنا» وأشار إلى أنّ أهمية الدير ترجع إلى المطبعة العربية وهي الوحيدة التي صادفت نجاحاً في الدولة العثمانية وأنها في لبنان منذ خمسين سنة. إلا أنّ هذه لم تستمر طويلاً أيضا فقد عرّج رحالة آخر على المنطقة بعد سنوات فوجد المطبعة متوقفة لندرة الورق ولانصراف الناس عن القراءة. أما بيروت فإنها لم تعرف الطباعة قبل أواسط القرن الثامن عشر 1751 حين أنشأت طائفة الروم الأرثوذوكس، بمسعى الشيخ يونس نقولا الجبيلي المعروف بأبي عسكر مطبعة القديس جاورجيوس ولم تشهد المدينة من بعد مطبعة ثانية حتى عام 1834 حين نقلت إليها المطبعة الأميركية من مالطا. لكن هذه الحركة المطبعية لم تقتصر على رجال الدين بل استقطبت كبار كتّاب النهضة ومفكريها في ما بعد حتى الذين عملوا في التصحيح والتأليف والترجمة، فكانت الجوائب لأحمد فارس الشدياق عام 1870م والمعارف عام 1867 للمعلم بطرس البستاني وخليل سركيس. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر توالى ظهور المطابع كالمطبعة السورية ومنشئها «خليل خوري» في بيروت عام 1857 «المطبعة الشرقية» عام 1858 لصاحبها جرجس شاهين، ثم خرجت هذه الحركة المطبعية إلى المناطق اللبنانية الأخرى، فعرفت بلدة بيت الدين عام 1852 أولى مطابعها ومنشئها هو حنا الأسعد المعروف آنذاك بأبي مصعب، وتأسست في إهدن عام 1859 مطبعة رومانوس يمين ويوسف الدبس... أما في مصر فعرفت المطبعة للمرة الأولى خلال الحملة الفرنسية. فقد رأى نابليون بونابرت في مطبعة تصدر بالعربية أفكار ومبادىء الثورة الفرنسية، ما يروّج لسياسة فرنسا ويبث دعواها فضلاً عن فائدتها في التقرب من المصريين وشرح أسباب حملته على بلادهم، وفيها مزاعمه بنشر الوعي بين الناس وإنقاذهم من حكم المماليك العثمانيين وقد تحدث من أرخ لهذه الحملة فذهب إلى أنّ هذه المطبعة عرفت إبان نقلها إلى مصر بمطبعة الجيش البحرية ثم بعد أن أنزلت في ثغر الإسكندرية أطلق عليها إسم المطبعة الشرقية، وحين استقرت في القاهرة دعيت بالمطبعة الأهلية. وظهرت مطبعة «بولاق» زمن محمد علي باشا عام 1821 وكان قد مهّد لها بإرساله البعثات العلمية إلى فرنسا للتخصص بهذا القطاع. ومن مرسليه نقولا سابكي الذي درس فن الطباعة متخصصاً في سبك الحروف وعيّن مديراً لمطبعة بولاق المنشأة حديثا، ثم ما لبثت هذه المطبعة أن أصبحت من كبريات المطابع العربية خصوصاً في عهد الخديوي إسماعيل فتعاظمت عدة وعديداً، كما أسس مصنعاً للورق ليكفي حاجتها حتى كاد يوفر للبلاد احتياجاتها. فتستغني عن استيراد هذه المادة من أوروبا. وتلى مطبعة بولاق مطبعة علي مبارك عام 1868 وهو ناظر ديوان المدارس آنذاك وركن من أركان النهضة العلمية والعمرانية في مصر، وأعقبها ظهور مطبعة الأهرام في الإسكندرية عام 1815 للبنانيين سليم وبشارة تقلا. هذه الحركة في لبنان وسورية كان من شأنها اضطلاع المطابع بدور ريادي تنويراً للعقول، بعدما وفرت الكتب للناس متيحة لهم فرص التزود بالمعارف المختلفة طاوية المسافة بين الفكر ومتلقيه، وبين رواد النهضة المصلحين وجموع مؤيديهم في دروب التجديد والحضارة والإشعاع. * كاتب لبناني