يذكّر اللبنانيون أنفسهم دائماً بارتباط قديم بين بلدهم والكتاب، فقد حمل الكتاب منذ قدماء اليونان اسم المدينة اللبنانية الساحلية بيبلوس (جبيل)، ومنها ومن أخواتها في العصر الفينيقي، كصيدا وصور، ظهرت الأبجدية الأولى ناقلة الكتابة من الصور المعقدة إلى الرموز الصوتية السهلة أو الأقل تعقيداً. وأدى انتشار اللغة اليونانية في الغرب الأوروبي إلى انتشار الاسم اللبناني الفينيقي للكتاب، وما زالت باقية كلمات مثل بيبلوغرافي (فهرسة) وبيبليوتاك (مكتبة) وبيبليوماني (الولع بالكتب) وغيرها. ولأن الكتاب ابن المطبعة، فالحديث عنه يبدأ بالحديث عنها، وهي بدأت في لبنان في كنف رجال دين مسيحيين عام 1713 في دير الشوير. واستعان هؤلاء بالحرف العربي الذي استخدمته مطابع في إيطاليا أصدرت كتباً دينية مسيحية باللغة العربية، كما اعتمدوا حروفاً عربية استخدمها رهبان الروم الكاثوليك في مدينة حلب بدءاً من العام 1704. نذكر هنا أن السلطنة العثمانية انتظرت حتى العام 1726 لتقيم مطبعتها الأولى، منهية تحريماً للطباعة اعتمده بايزيد الثاني عام 1485. ومثل أي بداية في الطباعة بدأ العثمانيون إنتاج مطابعهم بكتب إسلامية مع مؤلفات تعنى بتاريخ السلاطين. لكن الطباعة خارج مطالب المؤسسة الدينية انتظرت نخباً مدنية تخرجت من المدارس الحديثة الأولى في لبنان ومصر (مع محمد علي، الذي أوعز بإنشاء مطابع تلت المطبعة التي حملها نابليون أثناء غزوه مصر). ففي لبنان أواسط القرن التاسع عشر، أنشئت ست مطابع مستقلة عن تأثير رجال الدين، أشهرها المطبعة الأدبية لبطرس البستاني وزوج ابنته خليل سركيس منشئ جريدة «لسان الحال». واشتهرت هذه المطبعة بالحرف الأكثر أناقة حتى تاريخه، فقد أنشأت أول مسبك للحروف العربية في العالم العربي سُمي حرف سركيس، وهو من تصميم إبراهيم اليازجي، الذي كان خطاطاً مجيداً، فضلاً عن كونه لغوياً وشاعراً وأديباً. وتنامى عدد المطابع، التي بدأت أيضاً تصدر جرائد، كانت أولاها «حديقة الأخبار» سنة 1854، ونذكر منها جريدة «ثمرات الفنون» عام 1874. لكن الطفرة في الطباعة ونشر الجرائد والكتب حدثت بعد الانقلاب العثماني سنة 1908 وتولي جماعة «تركيا الفتاة» الحكم، فهي سمحت في مستهل حكمها بقدر ملحوظ من حرية التعبير قبل أن تنغلق على نفسها وتنزع إلى الطورانية والتتريك والاصطدام بالعنصر العربي. ونذكر من باب الفولكلور الطائفي اللبناني، أن المسيحيين سبقوا في إنشاء المطابع والجرائد، ثم تبعهم المسلمون بدءاً من «ثمرات الفنون» عام 1874. واعتنت المطابع اللبنانية بإصدار كتب مدرسية كانت رافعة اقتصادية لمنتجيها، فهي تعدت السوق اللبنانية إلى أسواق عربية قريبة وبعيدة، واعتمدتها مدارس وجامعات في سورية والعراق وتونس، بما في ذلك كتب اللغة والأدب. ونشير هنا إلى منافسة بين كتابين لتدريس النحو، هما «النحو الواضح» لعلي الجارم ومصطفى أمين، وهو صادر فى مصر، و «مبادئ العربية» لرشيد الشرتوني الصادر في لبنان، ولا بد من الاعتراف بأن الكتاب العربي في لبنان عمم إلى حد بعيد السرد الحديث القائم على الجملة القصيرة وحذف الزوائد والنزعة الجمالية والاقتصاد اللفظي. وقام النشر اللبناني على جهود القطاع الخاص، فلم تكن للدولة تدخلات إلا ما يمليه القانون من عدم التجريح بالأشخاص والعقائد الدينية. ولأن القطاع الخاص يبحث عن الربح، فهو يعتبر الكتاب سلعة معرفية إذا صح التعبير، فيحرص على إتقان شكله ومضمونه، لذلك امتاز الكتاب اللبناني غالباً بالجودة، وساعدت على ذلك المنافسة بين الناشرين والطبيعة التعددية للمجتمع التي سمحت بقدر كاف من الحريات استفاد منها الكتاب، مستجيباً طلبات سوق المعرفة في نقل الأفكار النهضوية إبداعاً وترجمة، فصدرت كتب في الإحياء اللغوي والأدبي لتأكيد نزعة العروبة ضد التتريك. وتواصل التركيز على العروبة في كنف السلطات الأوروبية المنتدبة أو المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت النزعة النهضوية نقطة لقاء النشرين اللبناني والمصري حتى أواخر الخمسينات حين بدأ القطاع العام المصري يمتد إلى سوق الأفكار مع الإمساك بالقطاع الخاص وتأميمه في موجتي التمصير ثم التأميم. هنا تقدم النشر اللبناني على نظيره المصري، وبدأ المؤلفون العرب، بمن فيهم أعلام مصريون، ينشرون مؤلفاتهم في لبنان، خصوصاً تلك المندرجة في الحداثة الفكرية والأدبية، فعلى سبيل المثال، نشرت إبداعات الشعر الحديث في لبنان مستفيدة من أجواء مجلتي «شعر» و «الآداب». وازدهر بالتوازي نشر ترجمات في الرواية والنقد. أما الكتب المعنية بالفكر السياسي والاجتماعي، فقد استجابت متطلبات التحول العربي، ونشر اللبنانيون مؤلفات تواكب التحرر من الاستعمار وحاجات الدولة الحديثة، وترافقت معها مؤلفات طفرة الوجودية فكراً وأدباً التي تداخلت مع نشر أفكار اليسار المحلي والعالمي، إلى أن حدثت هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967 فأطلقت كتب الإسلام السياسي لتوزع بطريقة شرعية في العالم العربي أو يتم تهريبها إليه. كانت المعارضات الأيديولوجية والسياسية العربية تتخذ من النشر اللبناني منبراً، فأصدرت عبره بياناتها وتحليلاتها ورؤيتها للمجتمع والدولة. وفي هذا المجال نذكر أن المكتبة الفلسطينية الأبرز في مواجهة الفكر الصهيوني وسياسات إسرائيل صدرت في بيروت، عبر مؤسستين متخصصتين هما «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بإدارة عربية لبنانية مشتركة (كان أول رئيس لمجلس أمنائها رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو وضم مجلسها شخصيات فكرية وسياسية متنوعة الاتجاهات)، هذه المؤسسة المستقلة لا تزال تعمل إلى اليوم، أما المؤسسة الثانية «مركز الأبحاث الفلسطيني»، فأنشأتها في بيروت منظمة التحرير الفلسطينية مطلع سبعينات القرن الماضي، وقد صادر الجيش الإسرائيلي محتوياتها لدى اجتياحه لبنان صيف 1982، وبعد دعاوى دولية سلم الإسرائيليون محتويات المركز، وهي إلى الآن في مستودعات حكومية في الجزائر في انتظار أن تتسلمها منظمة التحرير. وفي إطار توثيق النهضة الحديثة صدرت في بيروت مذكرات ومؤلفات أساسية لزعماء من مشرق العالم العربي ومغربه. وأصبحت العاصمة اللبنانية مركزاً لنشر أو إعادة نشر كتب ممنوعة أو مؤلفات مرشحة للمنع. نذكر مثالاً رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ التي صدرت في بيروت قبل حوالى 40 سنة من نشرها في القاهرة بعد زوال الأسباب المانعة. وهكذا، يبدو الكتاب اللبناني وسيلة لإيصال معارف تحتاجها مجتمعات تتطور عبر أزماتها. وبدا هذا الكتاب في أحيان كثيرة أداة للترويج الأيديولوجي أو الدفاع الأيديولوجي، منذ ريادته في نشر الفكر القومي العربي ثم الفكر اليساري، إلى استجابته تطلعات الإسلاميين السياسية. وفي إحصاء عن موضوعات النشر اللبناني، ورد أن غالبية العناوين (52 في المئة) كانت دينية حتى العام 1900، وانخفضت عام 1914 إلى 24.5 في المئة. وشغل الأدب 17.9 في المئة من النشر عام 1900 فوصل إلى 32 في المئة سنة 1914. وبالانتقال إلى عام 1986 ارتفعت نسبة الكتب الدينية إلى 23 في المئة بعدما كانت في العام 1977 أقل من 5 في المئة. هذا التغير يعود إلى انقلاب في طبيعة القراء والأحوال اجتماعياً وسياسياً، فالنشر اللبناني يتجاوز أهداف المثقفين إلى تلبية رغبات الجمهور العريض المتغيرة. وعلى العموم، كان النشر اللبناني هو العنصر المحدد والدال على اتجاهات القراءة لدى العرب، نظراً إلى حضوره في معظم أسواق العالم العربي. والكتاب اللبناني يشبه لبنان، متحرك، مغامر، كاشف، طموح، منفتح على بيئته العربية وانشغالات الفكر والثقافة في العالم. وهو يشبه لبنان في قلقه كمؤسسة عمرها من عمر منشئها، تموت بموته، لكن للكتب أعماراً تتجاوز أعمار البشر. * من ورقة مقدمة إلى ندوة «تاريخ الكتاب العربي ودوره الحضاري» التي نظمتها «الاليسكو» في مكتبة الإسكندرية في 26 و27/11/2012