لا يعرف القراء العرب الكثير عن الشاعر الانكليزي فيليب لاركن "ت 1985" رغم اننا نعثر على مختارات شعرية ترجمها له محمد مصطفى بدوي صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة المصرية نهاية التسعينيات، مع مقدمة تربط بين شعره وحياته. لاركن يقف بين جيلين من الشعراء البريطانيين، إذا ما اعتبرنا إليوت خارج تلك التقسيمات، فقد جاء بعد أودن وسبندر، وجايل تيد هيوز، وسبق شيموس هيني، وهؤلاء هم الأشهر في الترجمات العربية عن الشعر البريطاني الحديث. الشاعر العراقي فاضل السلطاني رأى في لاركن خروجا عن الشعرية البريطانية، فهو يكاد يصبح استثناء في تقاليد هذا الشعر التي ينسب إليها سمة المحافظة قياسا على الشعر الأميركي او الفرنسي. وفي كتابه بالانكليزية الصادر عن دار ميرا "فيليب لاركن : شاعر لامنتمي" يطرح السلطاني خلاصة تصوراته عن ذلك التمايز الذي يخص به لاركن. هذا الكتاب في الأصل اطروحة حاز فيها المؤلف على شهادة الماجستير من كلية بيربك جامعة لندن. يقول أمير طاهري وهو كاتب ايراني في المقدمة التي وضعها للكتاب ان هناك تشابها بين شعر السلطاني الذي اطلّع عليه، وشعر لاركن، الذي رأى في صوته تناسبا مع "موسيقى الحجرة" اي تلك التي لا تذهب بعيدا في جمهورها وعدد عازفيها، فهو شاعر اللمسات الصغيرة واللحظات العابرة وومضات البصيرة. ثم يشير الى ان بريطانيا ما زالت تجلّ الشعر شأنها شأن العراق، وهذا أيضا من أسباب خيارات فاضل للاركن. لعلها معلومة مناسبة ضمن نسق مقدمته الجميلة، رغم ان المقيم في بريطانيا يدرك ان مؤشر دور النشر يسجل كل يوم عزوف القراء عن الشعر. بيد ان خيار فاضل السلطاني يحمل الكثير من الوجاهة، فقصائد لاركن اكتسبت أهمية عند النقاد بعد ديوانه الثاني منتصف الخمسينيات وكان قد نشر اول دواوينه العام 1938 دون ان يحظى باهتمام يذكر. ولكن مجموعته التي صدرت منتصف السبعينات "نوافذ عالية" قد توجت مسيرته الشعرية، حيث نضج شعره وتجاوز فيه ذاته المعذبة بعوق كان يرافقه منذ الطفولة حتى الستينيات. عوق في الكلام وفي النظر والسمع، وبقيت العاهتان الأخيرتان معه الى نهاية العمر. لعل الاغتراب الذي يكمن في الموقف الشعري والشخصي للاركن لم يكن بسبب هذا العوق، بل هو اغتراب جودي قبل كل شيء، كما يقول السلطاني، فهو يذهب الى ان لاركن لا منتمٍ ليس فقط على مستوى الشعر، بل على المستوى الشخصي وبهذا يحقق انسجاما بين ذاته وفنه. يضعنا المؤلف في مفتتح فصله الأول "لاركن وتجاوز العزلة"، أمام صورة عائلية، سبق ان رسمها الشاعر في مراهقته. يجلس فيها على مبعدة من عائلته المكونة من الأب الذي يقرأ الجريدة والأم التي تحوك والأخت التي تنظر الى كليهما، في حين تكون طاولة الصبي وهو يخطط على سطحها قد خرجت من اطار الصورة. يبحث السلطاني في شعر لاركن عن سر هذه العزلة التي جعلت منه شاعرا يخالف الكثير من التقاليد التي تعتمد مورث الشعر البريطاني، وخاصة تلك التي تستخدم الأساطير وتفصح عن خلفية الشاعر المعرفية كما الحال مع إليوت وباوند، الذي سخر منهما الشاعر بوصفه ناقدا في كتاباته النثرية. يضع لاركن نفسه مبكرا خارج المكان، خارج الرحم الأول حسبما يصوغ مواصفاته غاستون باشلار، حيث يستشهد السلطاني بكتابه "جماليات المكان"، ولكنه يعتبر كتاب "اللامنتمي" للبريطاني كولن ولسن الذي صدر العام 1956 من بين الكتب التي تحدد للشاعر ملامح هذا اللاانتماء. وعلى رغم ان ولسن لم ينسب سمة اللامنتمي الى كاتب بريطاني مستثنيا لورنس وويلز صاحب رواية الخيال العلمي، كما يقول المؤلف في المقدمة، غير انه يستعين بخطوط كتابه لصياغة مفهوم اللاانتماء في شخص وأدب لاركن الشاعر والروائي : العزلة، الانطواء، التردد، الحيرة، والقلق الوجودي. اما لاركن الروائي، فقد وضع بطلي روايتيه "جيل" و"فتاة في الشتاء" في الموقف ذاته كما يقول السلطاني. بطل الرواية الأولى فتى يدرس في اكسفورد وهو فقير وسط طلبة مرفهين فيعيش في عزلة، وتتحول الجامعة في منلوجه الخاص، الى مكان غير حقيقي مثل الأرض الخراب في قصيدة اليوت. كاثرين بطلة روايته الثانية، لاجئة حرب من بلدها الأصلي إلى بريطانيا. كلاهما لا ينتميان الى اي مكان عدا الغرفة او الحيز الصغير الذي يشغلانه. الشخصية الانهزامية التي تخيلها لاركن في أدبه كانت تسكن داخله، وهو لا يخجل منها، بل يسجلها في رسائله إلى اصدقائه، فهو لم يكن يؤمن بقدرته على تجاوز وضعه كشاعر لا يحظى باهتمام يذكر، ولعله استطاع من هوامش تلك العزلة وذلك التواضع وعدم الثقة بالنفس خلق صوته الخاص. ثلاثة فصول بحث فيها السلطاني مفهوم التجاوز عند لاركن، فعبر مطرح الشعر الرحب، يتجاوز العزلة. كما يتجاوز مشكلته مع المرأة بقصائد الجنس التي تتردد بين اللغة المكشوفة وتوريات القسوة والاحباط. ثم يتجاوز العادي حين يتحول في لمساته الصغيرة إلى ما هو خيالي او ما يتسامى على الواقع ويومياته. في قصيدته "مستر بليني" منلوج لمستأجر جديد يريد ان يحل في غرفة غادرها صاحبها، فهو لايفعل شيئا سوى ان يصف الغرفة: "سرير وكرسي غير مريح ومصباح كهربائي من فئة 6 وات/ لا مشجب لتعليق الملابس خلف الباب/ ولا مكان لكتب او حقائب/ وقال لها "سأخذها"/ وهكذا تراني أنام حيث كان مستر بليني ينام/ رقد على سريره القطن قائلا لنفسه/ مبتسما ان هذا هو بيته/ واقشعر بدنه" يستشهد السلطاني بكتاب الناقد البريطاني تيري ولسن "فيليب لاركن والشعر الانكليزي" حيث يقول "لاركن يقترب من شعراء مثل تيد هيوز وار. اس. توماس بتشاركه معهم ليس فقط بالعمق والتواضع، ولكن بالشك العميق والتوتر والقلق الوجودي، وفي البحث في كل مكان عن الحقيقية المعتمة التي تشكل واقع يومنا هذا" ويؤكد السلطاني ان لاركن يقترب من توماس أكثر من اي شاعر بريطاني كتب الشعر في النصف الثاني من القرن العشرين، رغم اختلاف الأسلوب والمقاربات، فالاثنان كما يكتب صدى لأفكار الفيلسوف الذي وضع أسس الوجودية سورين كيركيجارد. بيد ان لاركن يتمثل هذه الحالة دون وعي منه، في حين توماس كتب قصيدة عن كيركيجارد نفسه. كما يشير السلطاني الى ان صلة شعره بالتجربة الشخصية لايعني ان هذا الشعر صدى للواقع، بل هو يحاول ان يتقصى القباحة والعبث في وجودنا ويعيد اكتشاف جمال الحياة من خارج توقعات الشعر. ان شعر لاركن كما يقول "يبدو بسيطا ويمكن فهمه بسهولة للوهلة الأولى، لأنه يصور العادي على نحو مباشر وبلغة تقترب من لغة رجل الشارع، ولكنه في عمقه لا يقل ثقافة وسموا عن شعر إليوت او باوند. فهو يعالج اسئلة الوجود التي تتعلق بانشغالات الكائن البشري خلال القرن العشرين" . بساطة لاركن في حقيقتها تشكلت ضمن موجة في الثقافة البريطانية ظهرت في الخمسينيات على يد مجموعة "الغضب" التي مثلها اوزبون في المسرح، ومسرحيته المعروفة "انظر الى الماضي بغضب" حيث اطلقوا على انفسهم تجمع "الحركة". فهم رفضوا كل ما اسموه الحذلقات الكلامية، والتقاليد الاجتماعية التي كان الشعر والأدب البريطاني مراياهما المقعرة كما يقولون. وسار لاركن على نحو مستقل ضمن مسارات مختلفة لهذه الموجة، فهو ليس شاعر القضايا الكبرى حتى في مواجهته المجتمع، فصوته لا يعلو وهو ينقب عن أسى الإنسان الذي يحس باستيحاشه وبضآلة قيمته في مجتع الرفاهية والسعادات الفائضة. ولكنه يبتعد عن الحس التراجيدي في تصوير يوميات هذا الإنسان، ليسخر من مفردات ذلك الضعف، على نحو يشعر قارئه بحنان يمتزج بقسوة الفرد الوحيد. استعان السلطاني بآراء النقاد والشعراء الذين كتبوا عن لاركن رغم انه كان شاعرا مقلا، فالكثير من تلك الكتب تحفظ مكانته المهمة. كما لم يغفل المؤلف تصورات الذين اعتبروا لاركن شاعرا ليس له قيمة في مسار الشعر البريطاني. حرص فاضل السلطاني في كتابه هذا على ربط شعر لاركن بتجربته الشخصية، كما حال كتاب سيرته ونقاده، وهذا الموقف ينطوي على يقين يتجاوز مفهوم الإبداع، فالشاعر مهما ارتبط بخصوصية التجربة، يمكن ان تتشكل قصيدته من مادة اللعب الخيالية هي مزيج من الأحلام والتهويمات وترجيعات اللاوعي، او ربما من قراءات ونصوص تعبر مخيلته لحظة تشكلها، لأن اللغة الشعرية بحد ذاتها مزيج من تلك الذاكرات، قبل أن تستوي على ما هي عليه قصيدة تقترب من الواقع او تبتعد عنه. ورغم ان لاركن في مقدمة كتابه النثري عن موسيقى الجاز يرفض مبدأ التناص في الشعر، ولكنه يشير في موقع آخر إلى تأثيرات عدد من الشعراء في قصيدة. وهذا يعني درجة من التسليم بهذا التناص، فالتجربة الشخصية وحدها لا تكفي صنعة الشعر. لعل هذا الكتاب يستكمل اهتمامات فاضل السلطاني بالشعر البريطاني الذي سبق ان أصدر مختاراته المترجمة إلى العربية مع مقدمة تتحدث عن انشغالات هذا الشعر وتياراته، وهو تتويج لجهده الأكاديمي في هذه الاطروحة.