يرتبط راهن النظام السوري بمستقبله ؛ بقدر ما يرتبط بماضيه، أكثر من أي نظام آخر يدور في الفلك السياسي لدول العالم الثالث. لا توجد دولة يحكمها إرث زمن التَّشكل، بمقدار ما يحكم هذا الإرث النظام السوري، الذي كانت نشأته خروجاً على نسق التركيبة السياسية الواقعية (بما فيها التوازنات الطائفية في الداخل والخارج، والتاريخ السياسي، ومعادلات القوى) التي حكمت المنطقة لقرون، والتي تمثل السياق العام، أو المتن السياسي، الذي يتحول الاستثناء فيه إلى جسد طارئ مرفوض بقوة مناعة ذاتية لا تسمح بمثل هذا الاختراق. أن بقاء بشار بعدما ذبح الشعب السوري كما لم يفعل أي حاكم آخر يبدو الآن في حكم المستحيل، إلا أن الخيارات الاضطرارية التي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه على المدى القريب، قد لا تستبعد المصالحة ولو باحتساء السم. فتصاعد عدد القتلى بقدر ما يدعم استحالة المصالحة ؛ هو يضغط من وجهة نظر أخرى، يمتزج فيها العاطفي بالواقعي في اتجاه المصالحة اضطرارا لا اختيارا لأن تشكّل هذا النظام المُشوّه لا يعدو أن يكون حالة استثناء، ومن ثم كان مرتبطا باللامعقول السياسي / الواقعي، أي بوضعية التنافر الطبيعي الذي يخلق حالات الاستعصاء ؛ كانت البدايات دموية بل وصادمة في دمويتها. لقد تم تدشين النظام بممارسات عنف استثنائية، تضارع استثنائية الفكرة والطائفة والنظام. هذه الولادة القيصرية، هذا المخاض الاستثنائي، هو الذي حكم لحظة التشكل بأكثر مما حكمها أي شيء آخر. وكل أزمات النظام، الأزمات التي صنعها أو التي اصطدم بها، هي ذات ارتباط عضوي، لا بطبيعة النظام الأمنية الاستثائية في قمعها وقهرها وتسلطها فحسب (وهي الطبيعة التي تستقطب معظم التحليلات الإعلامية اليوم)، وإنما بتلك البدايات المليئة بالاستثناءات التي تخترق المسار السياسي الطبيعي، والتي تسقط شرعية النظام على أكثر من مستوى. فالنظام ليس فاقدا للشرعية من حيث طبيعة بُنيته السياسية فقط، وإنما هو فاقد للشرعية من حيث قيامه على القهر للأغلبية الساحقة من الشعب (أي لا يحظى بالحد الأدنى من التوافق الاجتماعي، باستثناء قلة قليلة من المنتفعين، والذين هم ضحية للقهر، ولكن من زاوية نظر أخرى)، ومن حيث كونه نظاما طائفيا بامتياز، ومن حيث عدم أهلية القائمين عليه كأفراد (سواء على مستوى الكفاءة أو على مستوى النزاهة)، ومن حيث فشله في تحقيق حتى أدنى معدلات التنمية، ومن حيث فشله الذريع في تحقيق أي انتصار فيما هو بصدده، أي فشله في تلك المقاومة التي يُقيم مشروعيته ادعاء عليها. كل هذا يحكم راهن النظام، بقدر ما يحكم مستقبله أيضا، فالنظام يدرك، وربما أكثر من غيره، أن بقاءه على هذا النحو هو بقاء استثنائي، يتعارض مع كل المعادلات السياسية، سواء التي تجد مصدرها في مبررات الشرعية (محليا ودوليا)، أو تلك التي تجد مصدرها في علاقات القوة بكل أنواعها. فباستثناء ما يتعلق بالنفوذ الإيراني، وقدرته على الإمداد الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي، نجد أن كل مسارات الفاعلية السياسية لا تتساوق مع استمرارية النظام، فضلا عن أن تتساوق مع دوره المتضخم الذي مارسه حقيقة في الواقع، أو الذي يطمح إلى ممارسته. وهذا يعني أنه نظام يمثل حالة مقطوعة من تاريخ ومن جغرافيا المنطقة، نظام ارتبط وجوده بحالة غير طبيعية سياسيا وعسكريا، ولأنه أدرك ذلك ؛ فقد حرص على بقاء هذه الحالة اللاطبيعية التي تمنحه البقاء اللاطبيعي. إذن، النظام السوري يدرك من بدايات التشكل وإلى اليوم أن بقاءه مرتبط بأفق زمني محدود. هو يعي أن مصيره إلى زوال، ولكنه لا يملك إلا أن يناضل في سبيل البقاء ؛ لعل وعسى !. هو نظام نشأ ليفنى، هو نظام وُلِد ليموت، ولا خيار له إلا الموت، ولكنه لا يريد الاستسلام طواعية لهذا الخيار المحتوم، خاصة بعد أن رَاكَمَ في فترة التشكل كماً هائلا من الجرائم الدموية (التي اضطر إليها بسبب استعصاء الواقع السياسي والاجتماعي) التي باتت تحكم مستقبله بسلسلة من المخاوف الثأرية، بحث أصبح ارتكاب مزيد من الجرائم، بل ومزيد من الإبادات الجماعية، هو الوسيلة الوحيدة للهروب من ذلك التاريخ الإجرامي المليء بما يستعصي على الغفران. اليوم، يقوم النظام السوري بإعلان استسلامه على نحو تدريجي، سواء أكان واعياً بذاك، أم لم يكن واعياً به تمام الوعي. نهاية النظام محتومة، حتى ولو تم تأجيل الضربة الأمريكية التي بات من الواضح أنها تتأرجح في ملاهي (الصفقات القذرة) للدول الكبرى. المسألة لم تعد تدور في محور السؤال الذي تجاوزته الأحداث، وهو : هل يبقى النظام أم يرحل ؟ بل هي تدور في محور السؤال التالي : كيف يرحل النظام، ومتى ؟، وهو السؤال المركزي الذي يقف على هرم مئة وعشرين ألف قتيل، وجريمة إبادة جماعية بأسلحة دمار شامل، لا يمكن أن يتسامح معها الضمير العالمي بأي حال . الموقف الأمريكي المترهل، والعاجز حتى عن توجيه ضربة محدودة باهتة لا تسقط النظام، لا يعني أن النظام (بكل مكوناته الرئيسية) انتصر في معركة البقاء، ولا أن المجال بات مفتوحا أمامه لاكتساح الفضاء السوري والهيمنة عليه كما كان الأمر قبل ثلاث سنوات. فعجلة الأحداث لا تدور إلى الوراء في مثل هذا السياق التحرري المُضمخ بدماء أكثر من مئة وعشرين ألفا من الأبرياء الذين لن ترضى ملايين الأسر التي ينتمون إليها بأن تضيع تضحيات أبنائها أدراج الرياح. مصير الأحداث، وبخاصة بعد التطورات الأخيرة، لا يمكن أن يخرج عن أربعة أحوال / احتمالات : 1 إسقاط الدكتاتور (= بشار) ؛ مع إسقاط النظام. 2 إسقاط الدكتاتور (= بشار) ؛ مع بقاء النظام. 3 إسقاط النظام ؛ مع بقاء الدكتاتور (= بشار). 4 بقاء النظام ؛ مع بقاء الدكتاتور (= بشار). واضح أن الحالة الأولى هي الخيار الأفضل، من حيث هي الأقدر على القطيعة مع مشاريع الاستبداد، مع أن تداعياتها الأمنية قد تكون هي الأخطر. لكن، قد لا يكون استئصال مثل هذا النظام الشيطاني ممكنا إلا بهذا الثمن الباهظ، وهو الثمن الذي قد لا تضمن الخيارات الأخرى تجنّبه، بل قد تؤدي على المدى البعيد إلى تقديم ما هو أكثر من هذا الثمن بكثير. وفي تقديري أن جميع الأطراف المعنية بمكافحة مثل هذا الوباء القمعي الاستبدادي في عالمنا العربي تُفضّل هذا الخيار بالذات ؛ لولا أنها تعتقد أن الإرادة الدولية تحاول تلافيه بقدر ما تستطيع، إذ هو خيار يفتح الجبهات الإسرائيلية على المجهول، بعد أن مكثت تلك الجبهات أربعين عاما مقفلة على المضمون، وكل ذلك بفضل الأسد وآل الأسد وحلفاء الأسد، وخاصة (الحزب الإلهي!) الذي طالما تبجح بقتال إسرائيل، ولكنه اليوم يقتل من السوريين في اليوم الواحد أكثر مما قتل من الإسرائيليين في كل سنوات (المقاومة !) التي كانت مجرد خداع انتهى بقتال الأهل من أبناء الوطن وأبناء القومية وأبناء الدين. من هنا، فالحالة الأولى، ورغم كونها الأفضل، تبقى مُسْتَبعدة إلى حد ما من باقي الخيارات. ولا تفوق هذه الحالة صعوبة إلا الحالة الرابعة التي يطمح إليها الإيرانيون والروس، وهي بقاء الأسد مع بقاء النظام . وهذا من الواضح أنه بات في حكم المستحيل، بل إن السياسة الروسية اليوم باتت (لمن يحاول مقاربة ما ترمي إليه على المدى البعيد) تحاول انتشال النظام عن طريق ضمان خروج سلس لحليفها : بشار.. وطبعا، ليس من أجل بشار كشخص، فهي تعي أنه في حكم المنتهي، وإنما من أجل الحفاظ على تماسك النظام، ومن ثم ضمان مصالحها في التعديلات المطروحة على مرحلة : ما بعد بشار. تبقى الحالتان، الثانية والثالثة، وهما الأقرب إلى الممكن الواقعي. فإسقاط النظام مع بقاء بشار مضطلعا بدور ما (ولو ضمن تركيبة فدرالية أو كونفدرالية ) هو ضمان بقاء روح النظام بضمان استمرارية رموزه . وهذه الاستمرارية يُراد منها أن تحفظ مكتسبات الطائفة وما يرتبط بها من علائق طبقية مستنفعة من تركيبة النظام الطائفي، كما يراد منها أن تحفظ مكتسبات الحلفاء ببقاء ذات الرموز التي تدور في فلك الأسرة الأسدية وأصهارها، والتي نسجت على مدى أربعة عقود كاملة شبكة من المصالح المتعاقدة مع الأشخاص أكثر مما هي متعاقدة مع شبكات النظام. صحيح أن بقاء بشار بعدما ذبح الشعب السوري كما لم يفعل أي حاكم آخر يبدو الآن في حكم المستحيل، إلا أن الخيارات الاضطرارية التي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه على المدى القريب، قد لا تستبعد المصالحة ولو باحتساء السم. فتصاعد عدد القتلى بقدر ما يدعم استحالة المصالحة ؛ هو يضغط من وجهة نظر أخرى، يمتزج فيها العاطفي بالواقعي في اتجاه المصالحة اضطرارا لا اختيارا. وهنا، تبقى الحالة الثانية هي الأقرب إلى الواقعية من بقية الخيارات ؛ لأنها تُبقي على الحدود الدنيا من المطالب / الشروط لجميع الأطراف، سواء تلك الموالية للنظام، أو تلك الثائرة عليه، كما وأنها تحقق شيئا من الانتصار الرمزي بغياب الدكتاتور عن المشهد وهو انتصار رمزي ضروري لتهدئة النفوس بعد كل هذه الجرائم الإنسانية التي اقترفت بأمر الدكتاتور وباسمه وتحت ظلال رمزيته، إلى درجة أصبح فيها أي انتصار لا يحمل شرط غياب الدكتاتور عن كامل المشهد لا يُعدّ نصراً من قبل أولئك الذين تكبدوا عناء تقديم كل هذه التضحيات. وإذا كان النظام أي نظام يصعب أن يختفي بالكامل ؛ لأنه ليس مجرد هيكلة مؤسساتية متعينة في الواقع فحسب، وإنما هو متصور ذهني في بنية الوعي أيضا، فإن التعامل مع (بقاء النظام) أجدى على مستوى السهولة والمرونة، وبالتناسب مع المردود النفعي من التعامل مع (بقاء شخص الدكتاتور) الذي لا يمكن أن يكون حضوره من حيث علاقته المباشرة واللامباشرة بشبكات الفساد والاستبداد محايداً.