حين أنظر إلى خارطة تكوّن الأفكار وقيام المذاهب في تأريخ الإسلام، وأجوب من بعيد تلك الحقب، التي كان من قدرها أن ينشأ المبدعون في جنباتها، ويترعرع في أحضانها منتجو الفكرة، أجد بين يدي البرهان التأريخي على أنّ غلق باب التفكير كان دعوى نظرية، لا يقوم لها سند، تأريخي ولا نصي، وهذا ما يجعلني أجزم أنها وسيلة للدفاع عن المذهبيات، ومحاماة عنها يقول أبو عمرو بن العلاء، أحد أئمة القراءة المذكورين، وأشهر رجالات اللغة،:" ما نحن فيمن مضى إلا كبقلٍ في أصول نخل طوال". هذه العبارة وغيرها يختلف معناها جذريا حسب الأفق الثقافي، الذي يُنظر إليها منه، والجو المعرفي الذي يتفهّمها الإنسان فيه؛ فإذا كان المرء يعيش في بيئة معرفية، تعيش على التقليد، وتقتات منه، سيراها حجة له في الاستسلام لغيره، والانقياد له، ويضعها أمامه كتعويذة، تُذكره دوما حين تهم نفسه بالتفكير خارج إلفه، وينزع به عقله بعيدا عن معهوده! هكذا يفعل هذا الإنسان، وثمة إنسان آخر، اعتاد على التفكير، وألف ممارسته، وطالت صحبته له، وصار كل يوم يبدو له من الأفكار ما لم يكن يحتسب، ويرى نفسه في تغير دائم، وإنتاج معرفي متدفق، فمثل هذا الإنسان سيتفهّم تلك المقالة من خلال ظرف مختلف، وينظر إليها من باب آخر، فيراها كلمة، قَصَدَ منها قائلها التواضع، وعدم تزكية النفس! لأن من تعوّد الإنتاج، وجرّب التفكير هو وحده من يعرف مراوغة العقل، ويعي بتضليل الحواس، ومثل هذا الإنسان يعيش في عُشّ، يختلف اختلافا بيّنا عمن اعتاد الاجترار، وعاش على التكرار. وأبو عمرو - رحمه الله - لو رام أن يُسلم عقله لمن تقدمه، ويتنازل عن حقه في التفكير أمامه، لما كان لأمثالنا في هذه العصور أي معنى! ثم إذا كان هو وأمثاله من أسلافنا كالبقلة في حياض مليئة بنخل طوال؛ فماذا سنكون نحن حينئذ بعد هذه الأعصار الطويلة، والآماد البعيدة؟ الإنسان المقلد، الذي اعتاد أن يفكر عنه الآخرون، يعرف مهديه تماما! وهو لهذا يجد سلوته في مثل هذه المقولات، وتأنس نفسه بها، وتزيد من يقينه بأن توكيل الآخرين بالتفكير عنه أمر كان المتقدم يؤمن به، ويستجير به من رمضاء الحياة، وهكذا يجد هذا الإنسان أجواءه، المحيطة به، والداعية له إلى الاستقالة، تحكمه في فهم مثل هذه العبارات، وتحدد له المعنى، الذي ينتشله منها، وهذا ما يجعل العقل في تصوراته صدى للمكان، الذي كُتِب على الإنسان أن يشغله، ويسكن فيه. وينقاد هذا الإنسان المقلد، رغماً عنه، إلى استبدال فكرة المنقذ المنتظر بمنقذ قديم أو حديث! فوَفق تصوراته للماضي ورجالاته تلتغي فكرة المهدي المنتظر، الذي تُحمّله طوائف المسلمين اليوم مسؤولية إنقاذها، وإخراجها مما هي فيها من ضعة وضعف وهوان! هذا إذا كنا نفهم من الإنقاذ المهدوي أنه إنقاذ عقلي ومنهجي، إنقاذ لعقول الأمة من حال الارتهان للماضي، رجاله وتصوراته، إنقاذ يعيد الأمة إلى رشدها، ويبعث فيها القناعة بعقول أبنائها! أيها السادة الكرام، إذا كان المهدي سيُطلق حركة التفكير، ويبدأ رحلة جديدة لعقل الأمة، فما الجديد الذي سيأتي به حينها؟ ما الذي سيأتي به المهدي إلينا؛ ونحن الذين أسلمنا عقولنا لأسلافنا؛ لأنهم أهل الحقيقة، وملاك الصواب دوننا، وفهمنا من مثل عبارة أبي عمرو أنها تدعونا إلى ذلك، وتلحّ علينا فيه؟ من الخير لنا أن نكون حكماء، فنفكر بمنطق سديد، وعقل عن التقليد بعيد؛ فالمهدي تحكم وجوده، وتستدعي حضوره، حاجةٌ فينا، وضرورة تصيبنا؛ فما الحاجة إلى المهدي اليوم، وكل شيء في الماضي حاجاتنا وضروراتنا؟ إننا أمة، إن كان لها مهدي، فمهديها حسب تصوراتها للماضي ورجاله في ماضيها؛ فما بالها تنتظره في مستقبلها؟! إنّ فكرة المهدي المنتظر، إذا صحت، تهدم تماما الانقياد للماضي، والاستسلام لرجاله، وتمنح المسلم أفقا أوسع في البحث، وميدانا أفسح للنظر؛ ففكرة المهدي تجعلنا نقنع بأن القرب من الصواب أمامنا، وليس خلفنا، وهذا ما يملأ نفوسنا بجدوى البحث، وفائدة النظر، وعوائد التفكير! وربما كانت فكرة المهدي في منشئها مراداً منها أن يتخفف المسلم من النظر خلفه، ومن البحث عن الصواب عند أسلافه، فيستشعر أن ما سيأتي خير مما مضى، فيشغل نفسه بالتفكير فيه، والبحث عنه، ومتى اشتغلت الأمة بشيء، كما يقال، وجدته، وآن لها أن تحظى به. وإذا كانت الأمة، بطوائفها الكثيرة، قد شغلها منذ أزمان الانتظار للمتحدث الرسمي عن الدين، والمتكلم بلسانه عن الله - عز وجل - فكان المنتظر منها، والمتوقع من أمثالها، أن تدع التفكير، وتنتحي جانبا؛ لكن أطوار الأمة، مع عظيم الأسف، تُكذّب هذا، وتدحض القول به، فليس شيء في تأريخنا أظهر من كثرة الحديث، وتواتر الكلام، فاعجب، ما شاء لك العجب سيدي القارئ، من أمة تبحث عن المتحدث عنها، والهادي لركبها؛ لكنها لا تفتر عن الحديث، ولا تتوقف عن الكلام؛ حتى ملأت الصحف، وسوّدت الأوراق بالحديث عن كل شيء! فما بالها تدعونا إلى الاستسلام للماضي وأهله، وهي التي لم تقم بهذا الدور يوما ما؟ وكيف تطلب من أمثالنا شيئا، لم يستطع أكثرنا إيمانا، وأحسننا إسلاما، وأقربنا من الصحابة، أن يتقيّد به، فيتنازل عن رأيه لمن تقدّمه من الصحابة الأخيار؟ لماذا وجدنا المذاهب بعد الصحابة تتزايد، والأقاويل بعدهم تتكاثر؟ أكان منتظرا أن يجري في تأريخ الإسلام ما جرى من تعدد، واختلاف، وتنوع، لو كان المسلمون اقتنعوا بمن تقدمهم، وآثروا رأيه على رأيهم؟ حين أنظر إلى خارطة تكوّن الأفكار وقيام المذاهب في تأريخ الإسلام، وأجوب من بعيد تلك الحقب، التي كان من قدرها أن ينشأ المبدعون في جنباتها، ويترعرع في أحضانها منتجو الفكرة، أجد بين يدي البرهان التأريخي على أنّ غلق باب التفكير كان دعوى نظرية، لا يقوم لها سند، تأريخي ولا نصي، وهذا ما يجعلني أجزم أنها وسيلة للدفاع عن المذهبيات، ومحاماة عنها، وحينها أقول في وجه هذه المذهبيات متسائلا، وحق السؤال مباح للقديم والحديث،: لماذا كان حق بناء المذاهب، وتدشين النظريات، وتأسيس المعرفة في الإسلام، حكراً على أسلافنا، وحقاً لهم وحدهم، وحُرمنا، نحن المتأخرين، من حق كان يُمارسه الناس في تلك العصور المتقدمة، وينهضون به؟! لماذا قَبِلت الأمة بالتشريق والتغريب في الأقوال والأفكار، وأبت أن تقبل منا نحن أهل هذه الأزمان المتأخرة، مع ما تعتقده من ضعفنا الذهني، وعجزنا العقلي؟! حين تُقلِّب، سيدي القارئ، كتاب "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري سيبهرك اتساع الآفاق، وتعجب من ثراء المعرفة، ويهولك تنوع القول، وإن كنتَ كغيرك ستنكر كثيرا مما أورده، وتثور أسئلتك حول مقبولية بعض تلك المذاهب، وتدهش من أن يكون في الناس من كان يقول بمثل تلك الأقاويل؛ لكن مع كل ما يُتوقع منك فليس يُنتظر منك أن تغفل عن البحبوحة الفكرية، التي رُزقت بها تلك الأجيال، ووُهبت إياها، تلك البحبوحة، التي جعلت كثيرا من الناس تُروى لهم المذاهب، وتُعزى إليهم الأقوال، وتُعرف بأسمائهم. إنك حين تقرأ هذا، وتتأمل فيه، وتتفحص أسماء منتجيه، سيرد في خاطرك سؤالي الغابر قبل قليل، وستجد السؤال يتسرّب عبر تلافيف مخك: فما الذي يمتاز به سُكّان تلك الأزمان؛ حتى يُفتح لهم المجال، ويُهيأ لهم الميدان، وتنقل أقوالهم في تلك الكتب، وتُروى غرائبهم، وتُسوّد بها الصفحات؟! وغير بعيدٍ عن ذلك ما تخرج به من تأمل تأريخ الفقه، ونشأة مذاهبه؛ إذ علِم الناس، وأنت أولهم، أنّ المذاهب الفقهية، التي كُتِب لها أن تعيش، ومُكّنت من البقاء، كانت جزءاً من الإنتاج الفقهي، وبعضاً من حركة العقل داخل النص الديني، فثمة مذاهب فقهية اختفت، ونُسي أصحابها، وقلّت العناية بها؛ حتى صار الناس لا يعرفون حين تذكر المذاهب الفقهية، إلا أربعة منها، وعلى هذا مضى الزمن، وتلاحقت العصور، فانتشرت تلك المذاهب هنا وهناك، وتكاثر عبر الزمن القائلون بها، والمتّبعون لأقوالها. وبعد تأملك هذا التأريخ ستجد نفسك تسألك قائلة: يا هذا، ما الذي وضع في أيدي آبائنا الأولين حق القول، وحرم المتأخرين منه؟ لماذا بقي حق بناء المذاهب، وإنشاء الأقاويل مقصورا على أسلافنا، مع أنّ الساحة التي بُني عليها ذلك كله، وقامت فيها عمارته، ما زالت بين أيدينا، نقرأها ليلا ونهارا؟! حين تقف أمام أسئلتك هذه، لا تجد جوابا، ولا تسمع مجيبا، سوى أنّ المتقدم كان يملك من براعة العقل، ويقظة الذهن، وحدة البصر، واستعداد النفس، وبُعدِ الغور، ما جعله حقيقاً بهذا الشرف دونك، فتعود بعد جهدك الذهني في قراءة تلك الأحداث، ونَصَبِك في استيعابها، إلى أنّ أولئك الآباء - على اختلافهم وغريب أقوالهم - هم وحدهم من خوطب بالقرآن الكريم، وقيلت لهم السنة، ولم يبق لمن بعدهم من أمثالنا سوى أن يتخيّروا مما قالوه، ويترسموا ما رسموه، وحينها سترى تفكيرك يقودك إلى غلق باب التفكير عن نفسك، وتبصر عقلك يُقنعك بمواربة بوابة النظر عنك، وستشعر حينها، بعد معرفتك بتأريخ العلوم، أنك الوحيد في تأريخ الأمة، الذي يُطلب منه أن يستقيل مبكرا، ويُنتظر منه أن يدع الكلام لغيره!! وستدرك تماما وقتها أن المهدي خلفك، وليس أمامك! فكل هذه المعاني من الاستكانة للماضي ورجاله، والإذعان لهم لا تكون إلا لمن خوّله الله - تعالى - بالحديث عنه، وضمن له الإصابة دون غيره..