إن الأمم - ومثلها الأفراد - تُقاس جهودها، وتعرف مكانتها، فتُحمد وتذم، بمقدرتها على مواجهة التحديات، وحلّ المعضلات، التي تُحيط بها، وتعوقها عن تحقيق أهدافها، فالوقوف في وجه التحديات، يكشف عن الأمة، ويُسفر عن عظمتها، لقد بُنيت ثقافتنا، وشُيّدت أبنيتها - باختلاف نماذجها - على فكرة الحد الجامع المانع، فكان الفرد يتلقّى من رموزه أنّ ما بين يديه جامع لكل خير وصواب، ومانع لكل شر وخطأ؛ وأنّى لفرد تتكالب عليه رموزه بمثل هذه المعاني، وتجتمع عليه ألسنة الثقافة بالحديث عنها، أن ينفلت من هذا البناء المحكم، ويجد له منفذا إلى حرية الرأي، واستقلال التفكير. وأنّى لفرد تعرّض لمثل هذا في بيئته أن يتصالح مع الناس حين اختلافهم عنه، وينفتح عليهم مع سلوكهم غير سبيله. لقد كان امتلاك الحد الجامع المانع قائداً إلى إغلاق باب التفكير، وإيصاد سبيل الاستقلال العقلي، فصارت مهمة الإنسان المسلم محصورة في فكرة الاحتساب، فهو يحتسب على غيره في سلوكه، ويحتسب عليه في اختلاف عقله! لم يكن التحدي الأكبر، والمشكلة العظمى في تأريخ الوعي العربي والإسلامي أن يسمع الناس من ينادي بغلق باب الاجتهاد، وسدّ سبيل التفكير، وإعلان موت العقل؛ فمثل تلك الدعوات، لا تُشكّل هاجسا، ما دامت في حدود التنوع، الذي يسمح بخلق جو صراعي، بين ممثلي القديم، وسدنة الحديث، فتلك - قد علم الناس - مادة دولاب الثقافات، في دورانه، وحركته عبر العصور؛ لكن المزعج في ثقافتنا الإسلامية أن تحوّل معظم أعمال أهلها إلى مناقشة قضية الفرد؛ أيحق له التفكير أم لا يحق؟! وكان المعنى الوحيد لهذا التحول أنّ غلق دروب التفكير بدأ يحتلّ الإنسان، ويشرعن لنفسه عبر مجموعة من المداخل المعرفية!! التي انتهت بنا إلى مصادرة رأي كبار رجالات المذاهب الأخرى، وأضحى المسلم، عالماً وغير عالم، سواء في هذه النظرة الجائرة. لقد تحوّل مفهوم الغلق في الثقافة من حيز الدعاوى الكلامية إلى حيز الفعل الثقافي، وصار ما يتبادله الناس من أوصاف صادرا من ذلكم الفعل؛ ما يومئ إلى رسوخه، وتقدم درجة توطنه في الجو الثقافي. إن الانشغال الكبير بحقوق الفرد العقلية، وسعي الثقافة إلى تأطير ذهنه، وجَعْلِه مسيرا في شأن، له به كبير اهتمام، وعظيم عناية، نَقَل الثقافة نفسها، بكل ما فيها، إلى الوقوف في وجه هذا الإنسان، وتجريدِه من حق التفكير، فأسرت الثقافة الناسَ في علاقة بعضهم ببعض، وشغلت فريقا منهم بالآخر، وصار غاية تفكيرنا أن نحدد انتماء هذا، وميل ذاك، فدفعتنا هذه الثقافة المسيطرة إلى ترك الفعل الفكري، وإهمال العلاقة بالواقع والحياة، وانهمكنا في الصراع حول الإنسان وحقوقه، ومنها حق التفكير، وما كان لهذا الانشغال بالفرد من معنى سوى أن الثقافة ورجالها تسعى جاهدة لأن تُجرّده من عقله، الذي لا يستطيع، مع بقاء إيمانه بإنسانيته، أن يتخلّى عنه، أو يفكر في تركه، وهكذا صار تأريخ ثقافتنا في كل مذهبية مجموعة من الأحكام على الأفراد والجماعات، وأصبحنا نعرف الناس أكثر من معرفتنا بالنص، وما فيه، ونسبر أغوار الأفراد أكثر من سبرنا الحياة وما فيها، والواقع وما يجول فيه. لقد تخلّينا عن العناية بالنص والواقع، فلم نضف إلى علومهما الموروثة شيئا، وقضينا أعمارنا فيما يقوله الناس، ويدعون إليه! ولو أننا آمنا بحق الناس في التفكير، وتركنا العقل تصرع منتجاته بعضها بعضاً، لكان لنا مع النص والواقع شأن آخر، ولكنّا حللنا التحدي الأكبر بعد إيماننا بضرورته، وصعوبة خلو الحياة منه. لقد استطاعت فكرة غلق باب الاجتهاد أن تهيمن على الثقافة، وتُسلّح الناس في تحقيق مآربها؛ فانتقل المسلم من التمحور حول النص، والتفكر في الآفاق، إلى النظر في أقوال الناس، وتفنيدها، وإبطال حججها؛ ما يعني في نهاية المطاف أن الحقيقة لم يعد بالناس حاجة للبحث عنها، والتفتيش في مظانها، وإنما همهم وسدمهم وجهدهم في الدفاع عنها، وقصف من يسعى للنيل منها، وكل هذا يقود إلى نتيجة واحدة، هي إيمان الإنسان بعدم حاجة الثقافة إلى عقله في البحث، وطرح الأسئلة، فهي تنتظر منه أن يكون جنديا، ذا بأس شديد، في مواجهة من يفكر بالبحث من جديد، أو يطرح أسئلة، ما كان لها أن تحضر في أذهان أسلافه، فصرنا نسمع في ميدان الفكر ومجال النظر مصطلحات، عهدنا بها في ميدان الحرب والقتال، صرنا نسمع بأسود الإسلام وذئاب العقيدة! فما الذي أدخل مثل هذه المصطلحات، التي ميدانها الحروب والاقتتال، إلى ساحة الفكر، وميدان بحث العقل، غير هجران العقل، ومحاربة حضوره؟! حين أرى السمت العام، الذي انتحى إليه الوعي الإسلامي، وانتهت به معظم اهتماماتنا، وهو الوقوف على أرضية منازعة الإنسان المسلم في حق التفكير، والتجادل معه حول استقلاله الذهني، أكاد أجزم أن هذه الحالة، القديمة الجديدة، داخلة في قول الله - عز وجل -:(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) فالمسلمون لم يتجادلوا عبر تأريخهم حول شيء ما تجادلوا حول أحقية فهم النص، والبتّ في مراده، والقول في معناه، وليس شيء في الحياة أكثر اختلافا من العقل، وأعظم تباينا منه، فإذا كان الناس سيتنازعون حول اختلاف الصناعة العقلية بينهم، ويحسبون أن في مقدورهم توحيد نتاجها يوما ما، فمعنى ذلك أن تأريخهم سيحكمه النزاع وثقافته، ومع النزاع تتصدر ثقافة الفشل، وتذهب جهود الأمة فيما لا يغني عنها فتيلا؛ لأن أحدا لن يستطيع توحيد الناس في تفكيرهم (حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط)! تلك هي الحقيقة الغائبة، أو المغيّبة، في ظل هيمنة فكرة إغلاق أبواب التفكير، على سقف الثقافة، وعمقها، فغياب هذه الحقيقة، هو الذي قاد المسلمين إلى النزاع، فالفشل، ذلك لأنهم صادموا إحدى بدهيات استقرار الحياة، وأحد أعظم أسباب تجددها، وهو استقلال الإنسان في تفكيره، وامتلاكه السلطان على عقله، وحين أضحى المسلم يُنازع في شيء، ملّكه الله - تعالى - إياه، وزرعه - دون استشارة له - فيه، صرنا نحاول مُحالًا، وصار حال رجال ثقافتنا كمن يُخطط، ويعصر ذهنه، لإدخال جمل في سم الخياط! ووجه الشبه بين الحالين ضياع الأوقات دون طائل، وذهاب الجهود دون عائد! لست ممن يحبّ تحميل الآيات القرآنية الفكرة، التي تبدو في مخيلته، وتجتاب عقله، فلدي إيمان راسخ بفصل القرآن الكريم عن أوهام البشر، وخطرات عقولهم؛ لكني رأيت هذا المعنى غير بعيد، فأحببت وضعه بين أيدي السادة القراء، وحدا بي إلى ذلك أن النزاع بين الناس - على كثرة صوره وأسبابه - يرجع معظمه، ويؤول غالبه، إلى الخلاف بينهم في نتاج العقل، ومدركات الأفهام، وإذا لم يدخل مثل هذا النزاع في مراد الآية، فقد أخرجنا من دلالتها أكثر أنواع النزاع أثراً على حياة الناس، وأغزرها دوراً في ذهاب ريحهم، واستيلاء الفشل عليهم. وإذا كان الصبر خلقا، حثّ عليه الله - عز وجل - في ختام الآية، ورغّب فيه، وجعل ثمنه - وما أعظمه من ثمن - معيته للصابرين، فأعظم أنواع الصبر، وأجلها، وأكبرها، أن تصبر على من يخالفك الرأي، وينازعك في الفهم، وتتجلى حفاوة الله - تعالى - بالخلاف، واستقلال عقول الناس، حين جعل ثواب الصبر، وجزاء التصابر بين المسلمين، معيته، وهي مكافأة، لا تكون إلا على فعل كبير، وحدث ضخم، لا يستطيعه كثير من الناس، فجُعل ثمنه عظيما؛ حتى يبذل كل امرئ طاقته لتحقيقه، والفوز به، فعلى قدر الأفعال تكون المكافأة، وربط المعية الإلهية بالصبر في سياق الحديث عن النزاع دليل على استمرار الخلاف بين الناس، وهو من أسباب النزاع، لكن الله - تعالى - جعل الصبر عليه، والحِلم في مداواته، هو السبب في نيل معيته، والتشرف بعنايته، وهكذا يصبح الصبر على المخالف درباً لنيل المعية، ويد الله - كما عُلم - مع الجماعة، وهي الجماعة، التي قال الله - تعالى - فيها :(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). وما يثير الغرابة، ويبعث الكآبة، في الأمة الإسلامية أن أظهر شيء عرفت به هو الخلاف، وكثرة المذاهب وغزارة النحل؛ فكان المنتظر من أمة كهذه، مرت بتجربة ثرية في تنوع الأقوال، وتباين وجهات النظر، أن تمتلك مهارات في التعامل مع المخالف، ويكون لها قدم صدق في سياسة المعرفة، فترسو على شطآنها ثقافة الحوار من زمن بعيد، وتتحلّى بحكمة وروية وحسن سياسة للخلاف؛ لكن الواقع والحياة الثقافية جريا بخلاف ما كان يتوقع؛ فلم يستفد المسلمون من أكثر ما عانوا منه، وتصارعوا بالكلام حوله، لقد أرادت لهم التجارب الحكمة، فأبوها، وقصدت إليهم الوقائع بحسن إدارتها فلم يغتنموها. وكان مما جرى في العرف العقلي، وثبت فيه، أن من يكثر تعرضه لشيء، وتجري معاناته منه يكون أقدر الناس على إدارته، وأمهرهم في مواجهة نتائجه؛ لكننا حين ننظر إلى أمتنا من خلال هذا العرف نستشعر الخسارة الكبرى، أن انقضت القرون، وذهبت العصور، ولم تكن أمتنا من أحسن الأمم إدارة للخلاف، وأوسعها صدرا في تخفيف آثاره؟! إن الأمم - ومثلها الأفراد - تُقاس جهودها، وتعرف مكانتها، فتُحمد وتذم، بمقدرتها على مواجهة التحديات، وحلّ المعضلات، التي تُحيط بها، وتعوقها عن تحقيق أهدافها، فالوقوف في وجه التحديات، يكشف عن الأمة، ويُسفر عن عظمتها، وإذا لم تستطع أمة من الأمم أن تواجه أكثر التحديات حضوراً في حياتها، وأعظمها أثراً عليها، فليس على المرء من حرج أن يصف رحلتها بالفشل، ومشروعها بالإخفاق! لم تستطع الأمة بفرقها الكثيرة، ومذاهبها الغفيرة، أن تواجه التحدي الأكبر، في ذلكم التنوع الفكري، والهدران المعرفي، فاضطرت للتضييق عليه، والحيلولة دونه، ووجدت السبيل إلى ذلك في رفع القلم عن جماهيرها، وحرمان أفرادها، فأصبح الناشئ فينا من أهل الأعذار من أن يلجأ إلى عقله، ويستشير لبّه، وصار مستقبل الأمة يقوم على إنسان مستلب العقل، معذور في استخدامه، ففقدت الأمة بذلك سبب خروجها مما عانت منه، وتكبّدت الخسائر من أجله، وظلّت في حالها تشبه تلك القبائل العربية، التي عاشت في صحراء الجزيرة، يطرد بعضها بعضاً، ويُغير بعضها على بعض! لكن تلك القبائل كانت تصنع ذلك، بحثا وراء لقمة العيش، ونحن نصنعه الآن احتساباً على الإنسان حين استقلّ في فكره، وجرى على فطرته، التي كرّمه الله - تعالى - من أجلها!