حوار وإعداد - محمد بن عيسى الكنعان: يكاد يكون مصطلح (السلفية) من المصطلحات الفكرية، التي كثر تداولها في السنوات الأخيرة على المستوى الإعلامي والثقافي، خصوصاً بعد ظهور فكر متطرف يزعم الانتساب للخط السلفي، وينفذ عملياته الإرهابية متستراً بعباءة الدين، سواءً داخل المملكة أو خارجها، تجاري ذلك كتابات صحافية وبرامج إعلامية تحاول رصد الظاهرة مع مناقشة عامة للمواقف الفكرية والآراء الدينية، لهذا بدأ يتردد وصف (السلفي) أو مصطلح (السلفية). حول هذا الموضوع تفتح (الجزيرة) نافذة الحوار مع الكاتب الصحافي الأستاذ عبد الله بن فراج الشريف، والأستاذ بندر بن عبد الله الشويقي المحاضر في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. السلفية وجدلية المفهوم هل السلفية منهج فكري يمكن أن يمارسه أي مذهب، أم هي رؤية فقهية خاصة بمذهب سني معين، أم هي دعوة إصلاحية ظهرت حديثاً ؟ الأستاذ عبد الله فراج الشريف يقول إنه لا يستطيع تحديد معنى للسلفية، موضحاً أنه لم يعرفه مستخدماً في العلوم الدينية من قبل، بل يعتبره من عوامل انقسام المسلمين، يقول: (أرى أن المتأخرين اصطنعوه ليزيدوا به انقسامات المسلمين حدة، ولعله لم يظهر ويتردد على الأقلام والألسنة سوى ما قبل قرن أو يزيد قليلاً، وهو حتماً لا يراد به أن يصف منهجاً فكرياً محدد المعالم)، مبرراً بقوله: (فمن يدعونه مختلفي المناهج والمشارب)، كما يؤكد أنه ليس خاصاً بمذهب سني معين، غير أنه يوضح المعنى اللغوي للسلفية: (الذي تكرر وروده في القرآن الكريم كقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين} وغيرها، وقد ورد لفظ السلف في القرآن في مواطن ثماني كلها بمعنى ما مضى، ولم ترد بمعنى أنهم فئة من المسلمين مثنى عليها متخير منهجها)، كما يوضح المعنى الاصطلاحي بقوله: (والذين أرادوا بالسلف من مضى من أهل القرون الثلاثة اضطروا إلى تقييدهم بالسلف الصالح)، وذلك - والحديث لعبد الله الشريف - (أن كل الفرق والطوائف والمذاهب كالسنة والشيعة، والمعتزلة والخوارج، والقدرية والمرجئة وما شابه ذلك، جذورها تعود لتلك القرون)، موضحاً أن السلفية لا تستقيم مع هذا الفهم، لأن مدعي السلفية لا يفهم القرآن والسنة بفهم الصحابة، إنما بفهم من بعدهم، فيقول الشريف: (حتى من يدعون أن جيل الصحابة قدوتهم يعلمون أن الصحابة قد اختلفوا، وأن اختلافهم لم يقسمهم ولم يقسم أحد بعدهم، ومن قلدهم هو آخذ ببعض أقوالهم وتارك بعضها حتماً، وهم كما ادعى سلفه، والقول بأن مدعي السلفية يفهم الكتاب والسنة بفهم الصحابة غير صحيح، فكثير من هذا الفهم أخذه عن غيرهم عبر العصور، واستجد منه فهم لم يكن موجوداً من قبل، والله عز وجل لم يكلفنا أن نأخذ بفهم أحد لا ممن سلف ولا ممن لحق، وهو في الاجتهاد تقليد غير مرغوب). بشكل مقارب يذهب الأستاذ بندر الشويقي بشأن انتشار مفهوم السلفية بين المسلمين، غير أن الشويقي يؤكد أن السلفية هي ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، فيقول في ذلك: (السلفية مفهوم شائع الاستعمال لدى المسلمين وغيرهم، وله معنى عامٌ يقصد به عادةً العودة إلى الأصول التي نبع منها الدين أو المذهب. والسلفية السنية تندرج تحت هذا المعنى الام، فهي ليست تنظيماً حزبياً، ولا جماعةً ذات عقدٍ وبيعة. بل هي منهج يقوم على التمسك بالأصول والقواعد والتصورات الأولى الموروثة عن القرون المفضلة. وبعبارة أخصر: هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسانٍ. والمقصود هنا متابعتهم في أمر الدين. وليس في الشأن الدنيوي الصرف. هذا ما يفترض أن تكون عليه السلفية). تاريخ مصطلح السلفية الجدل حول مفهوم السلفية يقود إلى البحث عن تاريخ ظهور مصطلحها، ومن أي مصدر اشتق هذا اللفظ، وعن أي مذهب أو فرقة يُعبّر ؟ الأستاذ الشويقي يحيل المسألة إلى بداية ظهور الفرق، فيوضح بقوله: (إذا قلنا إن السلفية تعني التمسك بالأصل الأول. فإن ظهور مفهومها ارتبط تاريخياً بظهور الفرق التي ابتعدت عن هذا الأصل. فحين ظهرت في الأمة المسلمة الاختلافات والانشقاقات العقدية، ارتفعت أصوات علمائها تنادي بالتمسك بالأصل الأول السالم من الآراء المحدثة الطارئة. وقد تعددت - أول الأمر - الألفاظُ في التعبير عن هذا المعنى الذي تشكل لاحقاً تحت اسم «مذهب السلف»). في المقابل يجزم الأستاذ الشريف أنه مصطلح حديث جداً، بقوله: (لا يمكن تحديد زمن دقيق لظهور مصطلح السلفية، إلا أن المجزوم به أنه مصطلح حديث، وهو حديث جداً، فهذا مصدر صناعي مشتق من لفظ «سلف»، الذي لا معنى له في اللغة إلا ما ذكرنا، أما في لغة أهل العلم الديني فلا مدلول محدد له، ولا يعبر عن أية فرقة أو طائفة أو مذهب)، كما يؤكد بقوله: (والمدعون لاتباع السلف بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفا لا حصر لهم فهم متعددون، وأن ترددت على ألسنة البعض أنهم أهل الأثر «الحديث». والذين بعضهم ادعى أنهم الفرقة الناجية والمنصورة تأويلاً لحديث الافتراق المشهور والفرقة الناجية، وفي بعض رواياته أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: من هي يا رسول الله فقال، (ما أنا عليه وأصحابي)، وفي رواية هي الجماعة، وهو حديث لم يرد في الصحيحين، والاختلاف على صحة سنده ومتنه وارد قديماً وحديثاً، بل يؤكد الشريف أن السلفية ليست محصورة بأهل السنة، يقول: (وحصر بعضهم أهل السنة فيهم، هو تحجير واسع لا داعي له، إلا الرغبة في حصر الحق في فئة واحدة). كيف يكون المسلم سلفياً ؟ هل السلفية تقوم على أصول خلافاً للمذاهب والفرق الإسلامية، وبتحقيقها يصبح المسلم سلفياً ؟ عبد الله فراج الشريف يتساءل: (إذا قلنا ألا منهج معلوم للسلفية يعلمه الجميع، وأنه مصطلح لم يعرفه السلف المدعي الانتماء إليهم، فكيف يصح لنا أن نقول لهم أصول تخالف المذاهب الفرق الأخرى أو توافقها)، مشيراً إلى أن الذين ادعوا السلفية لا يجتمعون على منهج واحد، والكل مدع الأخذ من الكتاب والسنة هم ومن يخالفونهم. كما يشير إلى مسألة مهمة بقوله: (وقد اختلف السلف، ولم يدع أحد منهم أنه وحده المصيب، أو هو الذي على السنة دون من سواه، أو أنه المتبع وحده لسلف الأمة من الصحابة وأوائل التابعين، الذين دونت العلوم الدينية على أيديهم. وكل ما يقال إن منهج هذا التيار أو ذاك يمثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما سواه قد ضل الطريق عنه، هي دعوى مجردة لا يدعمها دليل، ولا تقوم عليها حجة، ولا نجد لها في الواقع صدى). على النقيض يرى بندر الشويقي أن للسلفية أصولاً، يقول: (أوضح هذه الأصول: التعظيم الحقيقي والتام لنصوص القرآن والسنة، وإخضاع الآراء والأفكار لميزانها. مع التمسك بالإجماع حيثُ يثبت. زيادةً على عناية تامة بالآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين، باعتبارها أداةً يتوصل بها لتحرير مذهب السلف، ومعرفة ما كانوا عليه. ومن أصول الدعوة السلفية - أيضاً - البعد عن المحدثات في الدين، والاهتمام بالمفاهيم والتصورات العقدية الكبرى، وجعلها على رأس سلم الأولويات الدعوية). السلفية والمذاهب الأربعة كيف تنظر السلفية إلى المذاهب السنية الأربعة من حيث إجازتها لاتباع أي مذهب، خصوصاً مذهب أبي حنيفة كونه المعُبر الرئيس عن مدرسة الرأي الفقهية في الفكر الإسلامي ؟ الدعوة السلفية سابقة على المذاهب الأربعة. هكذا يقول الشويقي، ويضيف: (والأئمة الأربعة أصولهم أصولٌ سلفية. وإن كانت هناك بعض المؤاخذات السلفية القديمة على مدرسة الرأي). كما يوضح العلاقة بين السلفية والمذاهب السنية الأربعة بقوله: (والأئمة الداعين إلى طريقة السلف ينظرون إلى تلك المذاهب باعتبارها مدارس علمية، يحتاجُ إليها المتعلم في البداية قبل أن يستقل ويحرر المسائل، ومتى قصرت همته عن الاستقلال بالنظر، ورضي بالتقليد، فلا حرج عليه في اتباع أي من تلك المذاهبِ، بشرط ألا يبقى متمسكاً بها في مسألة ظهر له مصادمتها للدليل). في ذات السياق يؤكد الأستاذ الشريف علاقة المذاهب السنية بالسلفية وفق فهمه لها بقوله: (اتباع السلف بالمعنى الذي ذكرناه أي الانتماء لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لو تحقق لأحد تاماً غير منقوص، وأمكن حصر ما كانوا عليه، لما كان لأحد ممن اتبعوهم أن يحكم بعدم جواز اتباع أي مذهب من المذاهب الأربعة السنية، فكلها مما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه مقتبس، فمدعي مثل هذا يسقط هذا التراث العظيم لعلماء هذا الدين الأفذاذ، وهو ما لم يجرأ عليه أحد من قبل، ولم نرَ موقفاً كهذا لمن يدعي هؤلاء الذين يقولون بعدم جواز اتباع المذاهب الأربعة اتباعهم من العلماء مثل بن تيمية أو ابن القيم أو الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله جميعاً فكلهم متمذهبون ينتسبون إلى أحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يرون في الانتساب إليها بأساً، وحتماً العاجز عن الاجتهاد لا مندوحة له إلا أن يقلد القادر على الاجتهاد)، ويضيف: (وأبو حنيفة النعمان أول الأئمة الأربعة ظهوراً، وأكثرهم استعمالاً للنظر في النصوص، ومدرسته وإن سميت مدرسة الرأي، فإنما عنوا من سموها بذلك ما ظنوه توسعاً بالأخذ بالقياس، وهو الدليل الرابع من أدلة الأحكام الشرعية باتفاق، ولا شك أن الإمام مالك أيضاً ممن انتمى إلى هذه المدرسة فشيخه ربيعة الرأي أيضاً)، كما يوضح أيضاً: (نشأة القول إن هذه المدرسة تقدم الرأي على الحديث مرجعه تعصب من غلاة الأخذ بل بظواهر النصوص)، مضيفاً: (ومثل هذا القول طال آخرين أئمة المسلمين المعتبرين كالإمام الأشعري فقيل إنه يقدم العقل على الوحي، بل ادعوانه يتلقى عن العقل لا الشرع، وهذه أقوال مرسلة لن نجد ما يسندها من أقوال أولئك الأئمة أو اجتهاداتهم يرحمهم الله). مبدأ السلفية العقائدي في ضوء ما سبق سواءً على مستوى علاقة السلفية بالمذاهب السنية أو الفرق الأخرى.. هل للسلفية موقف عقائدي خاص تجاه المذاهب غير السنية والتيارات الفكرية ؟، وما القواسم المشتركة التي يمكن أن تحقق التعايش بين السلفية وتلك المذاهب داخل الوطن الواحد ؟ الأستاذ عبد الله فراج الشريف لا يرى للسلفية أتباعاً حقيقيين لهم موقف من المذاهب إذا كانت بمعنى المذهب المستقل، ولكنه يشير إلى فئة تدعي السلفية حصراً وهي موجودة تاريخياً، يقول في ذلك: (أما أن هناك فئة تدعي أنها السلفية حصراً، وتدعي أن التمذهب بدعة ومحرم، وتحمل على جل علماء الأمة باعتبارهم مبتدعة أو مخالفين للسنة، فإن الواقع ينبئ عن وجودها، وآثارها ظاهرة في دروس في المساجد تلقى وخطب تسمع، وكتب تنشر، ظهرت لهم أول مرة أخرى في القرن الثالث الهجري، ثم ضعف دورها حتى توارت، ثم ظهرت مرة أخرى في القرن السادس والسابع الهجري، ولها رموز في ذلك الوقت، ثم ضعفت وتوارت مع ظهور الموسوعات العلمية الكبرى في العلوم الدينية، ثم هي اليوم باسم أهل الأثر)، كما يشير لها واقعاً بقوله: (الغريب أن من يعلن أنه سلفي في هذا الزمان هو متمذهب مقلد حتى النخاع لا في الفروع فقط بل وفي الأصول لمن يقلد فهم للنصوص، وليس هم الصحابة حتماً، بل لمن جاء بعدهم بقرون عدة فالصحابة ما تكلموا في جزئيات المسائل العقدية، كباب الصفات، وإنما خاض فيها من جاءوا بعدهم بقرون)، كما يحدد الإشكال في المبدأ العقائدي قائلاً: (وحتى أصبح الاشتغال بهذه المسائل والاختلاف عليها ديدن فئة من الناس، لا يهمها أمر الأمة وواقعها، بقدر ما يهمها أن تثبت لله صفة بكل لفظ ورد في النصوص كالساق والجنب، وكان من أثر ذلك ترك الاشتغال بمصالح الأمة العظمى لغير من يشتغلون بالعلم الديني. ومثل هؤلاء المسلفة لا قواسم مشتركة لهم مع أصحاب الرؤى الأخرى، سواء أكانت دينية أم دنيوية، لأنهم لا يرون الإسلام يتحقق إلا بفهمهم، وهذا ما قطع صلتهم بكافة المذاهب والطوائف). في المقابل يبدو الأستاذ بندر الشويقي محدداً بشأن المبدأ السلفي العقائدي، حيث يقول بوضوح: (ليست السلفية وحدها التي لها موقف خاص تجاه المذاهب الأخرى المخالفة. بل جميع المذاهب المتباينة لها مواقف خاصة من مخالفيها. وتلك هي طبيعة الاختلافات العقدية. لكن الفرق بين السلفية وغيرها يكمن في درجة الوضوح والصراحة. أما مسألة التعايش فلا إشكال فيها حتى مع غير المسلمين. لكن اذي ترفضه الدعوة السلفية بناء هذا التعايش على مفاهيم منحرفة). السلفية والمنهج العقلي في المقابل لماذا ترفض السلفية علم الكلام أو المنهج العقلي أو الفكر الفلسفي ؟ يُنبه الشويقي أن المنهج السلفي منذ القدم إنما رفض التوجهات الكلامية والنظر الفلسفي في جانبه المتعلق بأمر الديانة. موضحاً بقوله: (بمعنى أن التصورات العقدية تؤخذ من نصوص القرآن والسنة، ولا يصح أن يكون بناؤها على الدليل الكلامي، أو النظر الفلسفي. وتاريخ العقائد والفرق يشهد بصحة هذا الموقف وسلامته. فالذين خلطوا التصورات العقدية بالفلسفة وعلم الكلام أشغلوا الأمة المسلمة بالشقاق والخلاف، وعكروا صفاء المفاهيم الإسلامية، وحولوا دين الفطرة وملة التوحيد إلى مجادلات تزعزع الإيمانَ، وتهدم منه أكثر مما تبني). غير أن الشريف يرجع ذلك إلى موقف مدعي السلفية من الجديد، فيقول: (رفض بعض مدعي السلفية للمنهج العقلي هو ما جعلهم يرفضون علم الكلام والفلسفة، بل لعلهم يرفضون كل جديد أو حديث اعتقادا ًمنهم أن العقل والنقل متعارضان، ولأنهم ظنوا أن مذاهب المسلمين الأخرى اعتمدت على دليل العقل وأهملت دليل النقل أو لم تأخذ به، والحقيقة الناصعة أن كل منتسب لهذا الدين الحنيف معتنق له بيقين لا يمكنه أن يعتمد حكماً شرعياً إلا إن ورد به دليل النقل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة، أو ما لحق بذلك من أدلة كالإجماع والقياس)، بل يرى الشريف أن السلفية لم تطلع على بعض مسائل المعتزلة بقوله: (حتى المعتزلة المدعى عليهم زوراً أنهم يقدمون دليل العقل على النقل لا يثبتون الحكم الشرعي إلا بالدليل النقلي، وكذا الأشاعرة أيضاً). ثم يحدد: (وأما أنهم يرون أن دليل العقل ودليل النقل يستحيل أن يتعارضا، ولو افترض أنهما تعارضا فالمقدم منهما القطعي، والمؤخر منهما الظني، ولعل الكثيرين من مدعي السلفية لم يطلعوا على هذه والمسألة عند المعتزلة وعند الأشاعرة فنسبوا إليهم ما لم يكن لهم برأي ولا صدر عنهم). موقف السلفية من المدنية ليس خافياً اتهام السلفية بالجمود والتشدد أو رفض التقدم الحضاري وأنها تتمحور حول الماضي وإعادة إنتاج تراثه دون التجديد فيه، ولكن هل يبدو ذلك صحيحاً ويشهد به الواقع ؟ يرى الأستاذ الشريف أن فيه تعميم لا يليق بمن يحترم المعرفة الإنسانية، ففي هؤلاء من ينحو نحو الاعتدال ويتجاوب مع تطورات العصر، موضحاً: (قطع الصلة مع الماضي أمر مستحيل أصلاً، فالماضي حتماً مؤثر في الحاضر والمستقبل، فمن ليس له ماضٍ لا حاضر له ولا مستقبل، والثقافة بطبيعتها كذا الفكر والعلم، كلها تراكمية يبين ما ولد في الحاضر ما كان في الماضي، ويبنى على ما سيكون في المستقبل على ما وجد في الحاضر، والمذموم من العودة إلى الماضي إنما هو الاستغراق فيه حتى يسد الآفاق إلى الحاضر والمستقبل، لا يتأتى إلا في حالة واحدة من البشر، ولو كانوا يشاركونها الدين، وهو أمر نادر الحدوث). الأستاذ الشويقي يرى العكس فالسلفية ليست جامدة أو ضد التجديد، يقول: (الدعوة السلفية هي التي أخرجت الناس من ضيق المذاهب إلى سعة الدليل الشرعي. وهي التي حاربت الانغلاق المذهبي، وفرشت لعلماء الأمة بساطاً رحباً يجتمعون عليه بعيداً عن التمذهب بصورته المذمومة. لكنها في الوقت نفسه تقف في وجه العبث والاجتهاد الفوضوي الذي يلبس لبوس التجديد. والتمسك بالماضي إنما يعاب إذا كان تعلقاً بقول فلانٍ أو فلانٍ. لكن لا يجوز أن يعاب التمسك بالماضي، حين يكون هذا الماضي نصوص القرآن والسنة النبوية وإجماع الأمة. نعم، لا أحد ينكر وجود اجتهاداتٍ غير موفقة تنطلق من أصول سلفيةٍ. لكني أتحدث من حيث الجملة. فأصول السلف في النظر والاستدلال هي أفضل قاعدة للتقدم الحضاري بالنسبة للأمة المسلمة). السلفية وقضية التكفير كذلك تتهم السلفية أو أتباعها بالتساهل في قضايا التبديع والتفسيق والتكفير، ما نتج عنه ظهور سلفيات متعددة كالسلفية الجهادية أو السلفية المقاتلة وغيرها في بعض الأقطار العربية.. فإلى أي مدى يبدو ذلك صحيحاً ؟ الشريف يؤكد ذلك بقوله: (بعض من يتسمون في عصرنا بالسلفية فعلاً يتساهلون في التبديع والتفسيق والتكفير، بل ويتساهلون في اتهام مخالفيهم بغير هذا أيضاً كالإلحاد والنفاق والعمالة للغرب، وحلقات التهم لا حصر لها، وهؤلاء لم يدركوا بعد أن سلوكهم هذا ينافي الدين ذاته، كما يتنافى مع سلوك السلف الذين يدعون الانتماء إليهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم). كما يضيف: (أما ظهور السلفيات المتعددة فهو قديم لا حديث، فمنذ ظهور هذا المسمى ولدينا سلفيات تتفاوت، منهم من تضيق مناهجه حتى تكاد ترفض الحياة ذاتها، ومنها دون ذلك، ومنها من نلمس في أطروحاته شيئاً من الاعتدال، وإن كان الغالب منها النوع الأول، وأخطرها ولا شك من انتهج أسلوب العنف). أما الشويقي فيعيد المسألة إلى نقطة مهمة ذكرها سابقاً وهي تتعلق بطبيعة السلفية، فيقول: (هذا السؤال يعيدنا لما ذكرته في بداية كلامي. فالسلفية ليست تنظيماً ولا جماعةً حزبية. هي منهج في النظر والاستدلال. ومن الطبعي أن ينتسبَ لهذا المنهج من لا يحسن فهمه أو تنزيله على الوقائع. تماماً كما أن دين الإسلام ينتسب له من لا يحسن فهمه فيسيء إليه. وانظر لمن يغلو في التفسيق والتبديع والتكفير، أو يتساهل في الدماء، وستجد أن الردود عليه تصدر من المدرسة السلفية نفسها. بل أستطيع القول إن هذه الانحرافات لا يستطيع مواجهتها علمياً إلا صاحب نظرة سلفية أصيلة). أثر السلفية في الأمة في سياق الفقرات السابقة.. ألا تعتبر السلفية عامل تفكيك للأمة بحكم خصوصية منهجها ؟ الأستاذ بندر الشويقي يرى أن تفكك الأمة ليس محصوراً بفئة، يقول موضحاً: (الأمة منذ قرونٍ وهي مفككة ومفرقة ومختلفة في أمر دينها. وتلك حقيقة يبصرها الأعشى. لكن من الناس من يهوى تجاهل الحقائق، فيفضل الحديث العاطفي الحالم عن اجتماع لا حقيقة له، إذا اختلف الناس في أصول دينهم، فلن تجمعهم الأحلام والأماني وتجاهل أسباب الخلاف. الدعوة السلفية تواجه الخلافَ، والآخرون يحاولون التعامي عنه. نعم تحصل المبالغة والتضخيم لخلافات يسيرة، وهذا خلل وانحراف يعالج بقدره وفي موضعه). كذلك الأستاذ عبد الله فراج الشريف يأخذ المسألة بشكل عام مع تحديد موطن الخلل المؤدي للتفكك، فيقول: (كل فكر منغلق على نفسه لا يرى الصواب إلا فيما يرى أو يقول، ويريد أن يسود رأي واحد، أو كما عبر بعضهم الاقتصاد على قول واحد، ويرفض كل رأي أو اجتهاد وسواه، وهو فكر خطر، ضرره على الأمة فادح، ولعله فعلاً يؤدي إلى تفكيك الأمة، بمعنى ضرب وحدتها في الصميم وجعلها فرقاً وأحزاباً متناحرة، وقد ثبت هذا بالتجربة أنه ما شاع التمسك بمثل هذا الفكر إلا نتج عنه عنف وعنف مضاد). علاقة السلفية بالإرهاب الحديث عن تفكك الأمة يقود إلى مناقشة العوامل الفاعلة في هذا التفكك كالإرهاب مثلاً، فما يقول الضيفان بشأن بعض الأطروحات الإعلامية، سواءً عربية وغربية التي تربط السلفية بالإرهاب ؟. إذا كان هناك من يربط السلفية بالإرهاب، فهناك من يربطها بالنقيض فيجعلها علامة ً على السكون وملاينة الظلم والاستبداد - هكذا يقول الأستاذ الشويقي - ويؤكد أن قضية الإرهاب لم تقف عند السلفية بل شملت الإسلام، يقول: (لهذا أعيد وأكرر أن السلفية منهجٌ وليست جماعة منظمة. وأسعد الناس بهذا المنهج من فقهه وأحسن فهمه، وليس من أكثر التمسح به والتزين باسمه. وبالنسبة للغربيين، فهم لم يربطوا السلفية وحدها بالإرهاب، بل ربطوا الإسلام كله. وعلى أي حالٍ فمتى اتفقوا على معنى واضح للإرهاب، فيمكن حينئذٍ مناقشة هذه الدعوى. فالسلفية هي القائمة بجهاد المعتدين في أزماننا هذه، بقطع النظر عما صاحب ذاك الجهاد من انحرافات معلومة). على ذات المنوال يذهب الأستاذ الشريف بقوله: (ربط السلفية بالإرهاب كهذا تعميم لا يصح، وأما أن بين من يعلنون الانتماء إلى السلفية، ويتسمون باسمها بينهم من صلته بالإرهاب حقيقة، وهذا أمر لا شك فيه، وقد ثبت بالأدلة، فقد قبض على جماعات منهم يقومون بالعنف، فالسلفية الجهادية والمقاتلة إنما هي إعلان عن مثل هذا السلوك).