نحن اليوم - أيها السادة - مستقبل أمتنا الإسلامية قبل قرون من الزمان، فما نعيشه اليوم هو المستقبل، الذي كان أهل تلك الأزمان يتنبأون به، ويختلفون في تصوره، وكان خلافهم في هيئة وقوعه راجعاً إلى موقفهم مما كانوا يعيشونه؛ تماما مثل ما يحدث الآن بيننا حين يحلو لكل فريق أن يضع أحداث قصة مستقبلية، لن يعيش وقائعها؛ فالجميع يتصور مصائر الأمور وفق موقفه من واقعه، الذي يتقلب في أحداثه، ما يجعلنا جميعاً - وإن اختلفنا في مواقفنا من واقعنا - نؤمن بأمر واحد، وهو أنّ المستقبل يحكمه الحاضر! ومن القسط في النظر، والعدل في التحليل، أن ننظر إلى أسلافنا من خلال قواعد النظر في أنفسنا، وما دمنا نرى مستقبل أجيالنا تحكمه طريقة نظرنا إليهم، ونوعية لغتنا معهم، ومواقفنا منهم، فلننظر إلى ما نحن عليه من حال غير مرضيّة، ومآلٍ غير سويّ، فنعزوهما إلى الماضين منا، فنحن مستقبلهم، وهم مسؤولون عنا، وأولادنا مستقبلنا، وإلينا يرجع كثير من المسؤولية في تحديد قادم أيامهم، ومستقبل مجتمعاتهم. ستبقى علاقتنا بالعقل، والتخطيط لعودته، هي الخطوة الأولى، التي حين تقوم بها الأمة، وتنهض بعبئها، وتحسن بها إدارة معارفها، نكون بدأنا الطريق للدخول إلى نادي الدول المتقدمة، والمجتمعات الحية اليوم، فما فضُلت علينا تلك الأمم بشيء سوى هذه الآلة، التي يسميها الناس اليوم عقلًا كما تكونون يكون مستقبل أبنائكم! المستقبل معنى يحدده سياق الثقافة الراهن، ومن يستطع تحديد ركائز السياق الثقافي، وعوامله النشطة، يسهلْ عليه التنبؤ بما تصير الأحوال في المستقبل إليه، فالحياة البشرية تسير وفق قوانين، لا تختلف كثيرا عن القوانين التي تضبط الجانب المادي من الحياة، وهذا هو الذي يجعلنا نسعد بالحوار، ونفرح بالانفتاح؛ لأننا نستشعر منهما صناعة سياق جديد، ينبني عليه مستقبل مختلف عما نعيشه نحن اليوم، فلسنا نحب أن يعيش أبناؤنا أحداث قصة عشناها! كما نكون يكون مستقبل أبنائنا، وكما كان أسلافنا كان حاضرنا (مستقبلهم)، هذه هي القاعدة الذهبية، التي تناقلتها الركبان، وسرى بخبرها الرعيان؛ لكن كثيراً منا، ممن يقبلونها، ويعقدون العقول عليها، يرفضون مقالة، لا تختلف عنها كثيرا، وهي: كما تكونون يُولّى عليكم، ووجه الغرابة عندي أن نؤمن بأثر سياق، بناه الأجداد، ونرفض أثر سياق، نحن صنّاعه، والمشاركون في بنائه، ما يجعلنا نخرج وفق هذه النظرة بأن الإنسان والأمة يُرهنان بأعمال أسلافهما أكثر من أن يُرْهنا بأعمالهما!! وإذا صدّقنا بالربط التلقائي بين ما كان، وما يكون، وأخضعنا الأمة والمجتمعات لما تخضع له الأسر من قوانين الحياة وقواعدها، أفضى بنا الرأي إلى البحث عن بصمات الأولين فيما نعيشه، ونُجاهد للخروج منه. وهذا يجعلنا نتعامل مع تحديات اليوم على أنها تملك عمقا تأريخيا، لا ينبغي الاستهانة به، ولا التقليل من أثره، فنحن في سعينا اليوم للأمام نُواجه أمماً قبلنا، تُغذي بما تركته فينا هذا الذي لم نرضه، ولم نرتح إليه، وبهذا يظهر أن دعوة غلق باب الاجتهاد لم تكن سوى شجرة، سقيت بماء الأولين، ونبتت تحت رعايتهم، فعلى من يحاول علاجها أن يشعر بمن يقف وراءها، وتستند في قوتها إليه؛ حتى يكون لمعالجته ما يأمله منها. منْ منّا لا يتذكر آسفاً تلك الدعوة الغريبة، والصوت المريب، الذي سعى أن يجعل العقل سمة للمتقدم وحده، وكأن الله - تعالى - لم يمنح العقل إلا أهل تلك الأزمان! من منا لم تزعجه تلك الأصوات، التي كان من غايتها أن تشطب المتأخر شطباً من قائمة الإنسان، وتُصيّره بُوقاً لأسلافه، والماضين من أمته! من منّا لم يسمع بدعوة أنّ الأمة الإسلامية عقمت أن تنجب المجتهدين، وتجود بالحكماء العارفين!.. من منا لم يسمع بأنّ المسلمين بعد القرنين السادس والسابع كتب عليهم بعض رجال الدين منهم أن يعيشوا بقية عصورهم بلا حكماء، ويقضوا سائر أزمانهم بلا فُهماء!. لقد كانت غاية تلك الدعوة أن يُجْهَزَ على المسلمين، وتُراق بقيةُ رمق، كانت لهم في الحياة، وهكذا كان. لقد كان مشهدا مكارثيا! أن ينادي بعض قادة الخطاب الديني بغلق باب الاجتهاد، وإيقاف سبيل النظر، وحرمان متأخري المسلمين من أن ينفردوا عن أسلافهم برأي، ويخالفوهم في وجهة! وكانت تلك الدعوة إنهاءً لوجود العقل في الفضاء الإسلامي، وإدخالًا للمسلمين في كهف، لا يملكون وسيلة الخروج منه، ولا يدرون سبيل التطلع خارجه.. إنّ الحالة التي تصيب الإنسان حين يُجرّد من عقله، ويُزهّد فيه، كحالته حين يفقد بصره، فيضطر إلى من يدله لدروب الحياة، ويعينه على قضاء حوائجه فيها. هذه هي صورة الأمة الإسلامية، وهي نهاية، كان لرموز الفصائل الدينية دور كبير في رتوع الأمة فيها، ودخول أجيالها في فضائها. وقد قُوبلت تلك الدعوة بكثير من النقد، ووفير من الاعتراض، وكان من نقدتها الشوكاني (1250ه) الذي لام أولئك الذاهبين إلى أنّ الأمة يتعذر أن يكون فيها مجتهدون بعد ذينك القرنين، فاستجدبوا الأمة، واستهانوا بها؛ لكن الشوكاني، ومن نهج نهجه، واقتفى أثره، غفلوا عن أنّ هذه الدعوة كانت منذ قرون لسان الجميع، وتناسوا أن المسلك الذي كانت تقوم عليه الفرق الإسلامية في النظر إلى مخالفها، كان يدعو إلى ذلك، ومن غير المنتظر أن تنتهي الحال بالأمة إلى غير ما خرجت به تلك الدعوة. لقد كانت تلك الدعوة - مع كرهنا النظري لها - ذكية، وأكثر إنسانية؛ ذكية؛ لأن الدعاة إليها رأوا أنّ الواقع الفعلي للحياة الإسلامية منذ القدم كان قائماً على أنّ كل جماعة إسلامية، تُغلق باب الرأي، وأفق الاجتهاد، عن غيرها، وتذره مشرعا لها، ولرموزها، فكان من العدل حينئذ أن يتمّ إغلاق الباب أمام الجميع، فاجتهاد جعل الأمة أحزاباً، وفرقها أشتاتاً، من الخير للأمة أن يغلق بابه، ويُمنع المختلفون من دخوله، فخير للأمة أن تعيش بلا عقل حياتها من أن تعيشها بعقل يُفرقها، ويزرع السعدان في سبل أفرادها! وكانت الدعوة أكثر إنسانية؛ لأنها رأفت بالمسلم، الذي تتوق نفسه أن يخرج عن مألوفه، ويغرّد بعيدا عن سربه، أن تطأه أخفاف ثقافة، رسمت للوعي العام نموذج الكمال الفكري، والمثال العقلي، الذي لا يجود الزمان بمثله، ولا تُسعد الأيام بشبهه. ولم تخل تلك الدعوة من المنطق أيضا؛ إذ يصعب على من صارت به الأمور إلى مثل حال أمتنا أن يقبل بغير ما ورثه، ويتفهّم غير ما وجده، فكان عبثاً أن تُدعى الأفراد إلى مواجهة كتائب، لا أول لها ولا آخر، فكان أخف الضررين أن يُغلق باب الاجتهاد؛ لعل الناس أن يخلص بعضهم من بعض حين ذاك؛ لكن المشكلة أن الإنسان الذي بقي مقلدا، مؤمنا بغلق باب الاجتهاد، ما زال يمارس دور المجتهد النحرير، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه من العلم غائبة! ويُخيّل إلي أن أصحاب تلك الدعوة قادهم إليها يأسهم الممضّ من الأمة، ودفعهم إليها فقدان الأمل فيها، فرأوا أن من الظلم الكبير أن تُهدر أرواح، أقلقها ما تراه، وأزعجها ما تعيشه الأمة - كما أهدرت غيرها حسيا ومعنويا في الماضي - إنهم كانوا يمثلون دور الآباء الواعين، والمربين الرُّحماء، أو هكذا أظن. لقد كان ما حدث للأمة خطة قديمة، وعى بها المتقدم أم لم يعِ، لكننا اصطلينا بها اليوم وحدنا، فلم يكن مستقبل أمة، تعاون على تجريدها من عقلها، الحريصون عليها، والواقفون في خندق دينها، خفياً على الناس، فقد كان المستقبل في ضوء المعطيات التأريخية مكشوفاً جدا، والقادم في رحم الغيب ظاهراً كالشمس، فما بخافٍ على منْ وعى بحال الأولين، واطّلع على شيء من طريقتهم في محاسبة المخالفين، أنّ مصير هذه الأمة المحتوم، ومستقبلها الذي لا يلوح في الأفق غيره، أن تتداعى جميعا إلى إقصاء العقل، ومحاربته، والتحذير منه. الهروب من العقل كان هو الملاذ الأخير للإنسان المسلم؛ حتى يطمئن على نفسه، ويأمن في أهل بيته، لقد رضي المسلم بأن يتخلى عن عقله، ويذر التفكير لغيره؛ حفاظاً على أبسط حقوق الإنسان، وهي أن يعيش آمناً في سِربه، معافى في جسده، هذا هو المصير الذي يدركه العارف بأحوال المذاهب الإسلامية، والواعي بذلكم الاحتراب بينها، فلم تلد - مع كثرة ادعائها - غير أن أضحى المسلم لا يجد له ملجأ يأوي إليه، ومُلْتَحَداً يطمئن حين الجلوس فيه، إلا أن يجلس بعيداً عن عقله، في مكان قصيّ عن أخطاره، وآثار اللجوء إليه. وهكذا نصل إلى أنّ غلق باب الاجتهاد، وإصمات العقل، وترويع أصحابه، كان ثمرة، تؤدي إليها المنظومات الفكرية كلها، ولم يكن بدعة، دعا إليها بعض أهل القرنين السادس أو السابع، فلم يكن في تلك المنظومات نصير للعقل، ولا مؤمن به، مع أن الجميع كانوا عليه يعتمدون، وبه في تقرير مذاهبهم يستعينون، فلله ثقافة تقوم على العقل، وتتكئ عليه، ثم تجحد فضله، وتتبرأ منه! وإذا كنتُ حاميت عن دعاة تلك البدعة، ورأيت المثالية في دعوة الشوكاني، فأنا اليوم لا أرى لنا طريقاً غير ما دعا إليه، وكافح من أجله، فعصرنا الذي نعيش فيه، يختلف كثيرا عن عصر الشوكاني، ومن كان قبله، عصرنا اليوم تباينت فيه أقدار الأمم، فمنها من يعيش مع الثريا، ومنها من يعيش مع الثرى، والفاصل الوحيد بينهما هو هذا العقل، فعلى قدْر إفادتك منه يكون قربك وبُعدك من الثريا والثرى. وفي الأخير ستبقى علاقتنا بالعقل، والتخطيط لعودته، هي الخطوة الأولى، التي حين تقوم بها الأمة، وتنهض بعبئها، وتحسن بها إدارة معارفها، نكون بدأنا الطريق للدخول إلى نادي الدول المتقدمة، والمجتمعات الحية اليوم، فما فضُلت علينا تلك الأمم بشيء سوى هذه الآلة، التي يسميها الناس اليوم عقلًا، وجعلناها نحن غُولاً، يلتهم التدين، ويُدخل الريبة في قلوب المسلمين!. فهل نستطيع أن نعود إلى عقولنا، ونعي ما الذي ينبني على هذه العودة؟! إنْ عُدنا، وأدركنا ضرورة إحياء العقل، والإنصات إليه، فأنا واثق تمام الثقة أن الأيام لن تطول بنا؛ حتى نكون أحد صناع ثقافة البشر، والممولين لحركة العقل في عالم، لا يؤمن إلا بالعقل وحده، وأثبتت له الحياة أن من فَقَدَ عقله فَقَدْ فَقَدَ حياته.