انصبت معظم الدراسات الرشدية (التي تناولت ابن رشد)، على تناوله كفيلسوف، انطلاقاً من تصورات، طغى عليها تصور ابن رشد العقلاني الذي يقدس أرسطو، وينتصر للقول بالحقيقة المزدوجة وخلود العقل الهيولاني، ويقول بقدم العالم وما يترتب عنه من قضايا فلسفية. وذهب بعض الباحثين والدارسين إلى القول إن مذهبه العقلاني يتعارض مع روح العقيدة الإسلامية، ويأتي في مقدمة هؤلاء إرنست رينان، صاحب كتاب «ابن رشد والرشدية» الشهير. غير أن بعض الدارسين العرب الجدد اهتم بتناول علاقة الفلسفة بالسياسة عند ابن رشد، وذلك من خلال فحص مقاصد آراء هذا الفيلسوف ومقاربتها مع آراء أفلاطون وآراء الفارابي في السياسة، ومقارنتها أيضاً بآراء ابن باجة الذي كان يسعى إلى تأسيس سياسة للمتوحد في زمانه. ونقطة الانطلاق في هذه المقاربات هي أن الفلاسفة في الأندلس مارسوا تجربة سياسية منبثقة من الواقع، حيث كان ابن باجة وزيراً في الدولة المرابطية، وكان ابن طفيل وزيراً في الدولة الموحدية، أما ابن رشد فقد كان قاضياً للقضاة، أي وزيراً للعدل. وعليه، فإن نظر ابن رشد في كتب أفلاطون وأرسطو كانت تكمن خلفه إرادة سياسية واضحة، لأن الخليفة هو الذي طلب من ابن رشد القيام بتفسير كتب المعلم الأول. ووفق أصحاب هذا الرأي، فإن ابن رشد تجاوز تلك النظرة الميتافيزيقية إلى علم السياسة، كما كان عليه الأمر عند الفارابي، وذلك بفصله عن فلسفة واجب الوجود، لأنه كان يتقاسم مرتبة أشرف العلوم مع علم ما بعد الطبيعة. هذا العلم الذي اعتبره على رأس هرم نظرية العلم، بوصفه العلم المسؤول عن تدبير شؤون المدينة ومصلحة الإنسان وسعادته في هذا العالم، حيث نظر ابن رشد إلى العلوم على أنها وجدت من أجل إسعاد الإنسان وتحقيق كمالاته، لكن ذلك لن يتم في غياب مدينة فاضلة تتسع لأكثر من فرد واحد، شريطة أن يكون رئيسها أو ملكها فيلسوفاً، وهذا موقف يختلف عن موقف ابن باجة، بل إنه أقرب إلى رأي أفلاطون. وسعى ابن رشد إلى تشييد هذه المدينة انطلاقاً من تحريض الإنسان على امتلاك الضروري في العلوم، بخاصة علمي الأخلاق والسياسة، أو ما يُعرف في المتن الرشدي بالعلم المدني الذي يحتل بخصوصيته مكانة مهمة في المتن الرشدي. وقسّم هذا العلم إلى علم الأخلاق وعلم السياسة، حيث يسعى الأول إلى ترسيخ الفضيلة في النفس، وتعليم الإنسان كيف يمكن أن يصبح فاضل الأخلاق، بينما يرغب الثاني في ربط الفضيلة بالمدينة، وتسيير شؤونها من خلال القضاء على سياسة وحداني التسلط، وعلى سياسة المدينة الجاهلة، وبهذه الجهة يكون الإنسان منتمياً إلى مدينته، وإلى أمته أكثر من انتمائه إلى نفسه. وهذا يعني أن معنى الإنسان في المدينة الفاضلة لا يخرج عن كونه خادماً لغاية خارجة عن ذاته وهي غاية المدينة، وكانت غاية الدولة الفاضلة أسمى من غاية الفرد، ولا يستطيع الإنسان أن يحقق سعادته في منأى عن سعادة المدينة. ويكمن خلف استناد ابن رشد إلى نظرية العلم، استناده إلى الصنائع التي تتعاون في ما بينها لتفسير نظريته في توحيد السياسة بالأخلاق والفلسفة، وذلك من أجل أن يوضح أهمية التعاون في إطار وحدة الغاية. لكن رؤية ابن رشد لعلم السياسة كانت رؤية معقدة وغامضة في الوقت نفسه، بخاصة أنها تمتد على مساحة شاسعة من متنه، وسعت إلى توحيد السياسة بالفلسفة، وبما يجعل العلم خادماً للنظر وللأخلاق. وعليه يحضر التساؤل في ما إذا كانت رؤيته سبباً مباشراً في إبعاد الدراسات الرشدية من الاهتمام بالسياسة المدنية عند هذا الفيلسوف، وعما إذا كانت هناك أسباب أخرى؟ ولعل من يدافع عن هذه الإشكالية، تحكمه مقولة تعتبر أن السياسة توجد في قلب كل فلسفة، وذلك إما من خلال الخاصية السجالية والنقدية لمظاهر الاستبداد والآخر الحضاري والفكري، أو من خلال دعم هيمنة إيديولوجيا الطبقة الحاكمة. وعليه، تعرّف السياسة بوصفها صراعاً للنخب داخل المقاولة السياسية، أي المجتمع، مع التأكيد على أن هدف السياسيين يظل واحداً، ألا وهو الحصول على الثروة والشرف وقتل الفكر المتنور، لأنهم يسمحون لأنفسهم بممارسة الشر العام من أجل تحقيق الخير العام. وهذا يقتضي العودة إلى إشكالية العلاقة التقليدية، أو الأرسطوية، التي كانت قائمة بين الفلسفة والسياسة، والتي كان ابن رشد متأثراً بعمق مفاهيمها وأسئلتها، لأنه كان يفكر في عصره انطلاقاً من المرجعية الأرسطية، باعتبار أن أرسطو أو المعلم الأول، كان هو كمال الفلسفة بالنسبة إليه. في حين أن الفيلسوف هيغل حدد للفلسفة هدفاً واحداً هو الحقيقة، أي الرغبة في عدم الاختفاء، ورفع الحجاب عن الوجه المشرق لحقيقة الأشياء. أما السياسة فإن هدفها ليس البحث عن الحقيقة، بل السعي إلى التدبير، إلى الهيمنة، ولو اقتضى الحال إخفاء الحقيقة. وبعبارة أخرى، إذا كانت الفلسفة تعتمد على السؤال في كشفها عن الحقيقة والإعلان عنها، على الرغم من أن الحقيقة تقتل، كما قال نيتشه، بل إنها تقتل نفسها حين تتعرف على الوهم كأساس لها، فإن السياسة تقدم باستمرار أجوبة عن الممكن والمستحيل؛ إنها إقامة في المستحيل كما يقول مكيافيلي. وعليه، تكون الهيمنة هي الوجه الآخر للحقيقة السياسية، ذلك أن الذي يهيمن يفرض بالقوة حقيقته، التي هي عبارة عن آراء سياسية تعبر عن موقف مبدعيها، وبعبارة أدق إنها تهمّ الهيمنة الإيديولوجية للطبقة الحاكمة، سواء تعلق الأمر بدعمها أم بنقدها ورفضها. ولعل ابن رشد كان يمثل هذا الوجه المشرق للفيلسوف الذي يفكر سياسياً وفلسفياً في مجتمعه وحاضره، وينتقد الطبقة الحاكمة، على الرغم من أنه كان يعيش تحت جناحها. من جهة أخرى، هناك من الدارسين من يأخذ على الدراسات الرشدية، التي درجت على تناول فلسفته، أنها غيّبت صورة ابن رشد الفقيه، بخاصة مُدشني الدرس الفلسفي الرشدي ومن لحقهم من بعد. ويرجعون اهتمام ابن رشد بالفقه إلى الوسط الفقهي الذي نشأ فيه، وتميز باشتداد التقليد وغياب الاجتهاد، فكانت الدعوة إلى التأمل عنده فرصة لإيقاظ همّه الفقيه، فألّف كتابه «بداية المجتهد»، الذي جمع فيه بين الفقه والحديث، وهو الجمع الذي دعا إليه جده وابن عبد البرّ. وأجرى ابن رشد الفقه في كتابه هذا على المعاني، وقدم فيه مادةً أصوليةً متنوعةً وغزيرةً، كما قدم فيه طرائق غنيةً من النظر الفقهي تجمع بين الأصول والفروع، بين المنطوق به والمسكوت عنه، بين الجمع والترجيح والنسخ والعموم والخصوص وغيرها من المقاربات المنهجية التي يحفل بها الكتاب، كما ترك كثيراً من المسائل الفقهية مفتوحة، وهي المسائل التي تُضطر الفقيه اضطراراً إلى إعمال الفكر وتقليب أوجه النظر. غير أن أصحاب هذا الطرح يعتبرون أن ابن رشد أنتج، على هامش نصوص فلسفية وطبية عالمية، مَتناً فلسفياً ضخماً، لم يجد فيه الدارس الغربي، الذي كان له السبق في احتضان ابن رشد، أي رائحة فقهية. وينطلقون من فرضية تتبنى القول بوحدة في شخصية ابن رشد وبوحدة في مشروعه العلمي، حيث تؤسس الأرضية الفقهية لابن رشد لشخصيته الفلسفية، بل أن شخصيته الفقهية ظلت تؤثر في شخصيته الفلسفية بالرغم من استقلالية الأخيرة. والواقع هو أن ابن رشد لم يكتب خطاباً فقهياً مباشراً على غرار ما فعله كثير من الفقهاء الذين صنّفوا في فروع المذاهب الفقهية، وإنما كتب قولاً في الأصول، سواءٌ كانت أصول الفقه، أو أصول الاختلاف الفقهي، أو أصول العقائد. وهي أقوال أو خطابات مؤسسة للخطاب الفقهي أو مفسرة له. واعتبر أن القول الأصولي مؤسس للقول الفقهي، وخطاب الاختلاف «باب من أبواب الفقه»، يفسر ما بين المذاهب والآراء الفقهية من تباين أو توافق، وخطاب العقائد هو أساس كل هذه المعارف، لذلك، فإن اهتمام ابن رشد بهذا القول المُؤسس والمُفسر يرجع إلى كلفِة بالأصول في كل معرفة ممكنة، سواءٌ تعلَّقت بالفقه أم بالفلسفة. غير أن الخطاب الفقهي لا يقتصر على هذه الميادين، فكلمة فقه قبل أن تعرف المعنى الاصطلاحي، الذي جرى التواضع عليه وهو «العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين»، كانت ترادف معاني أساسية مثل العلم والفهم، الأمر الذي جعل الفقه منفتحاً على الفهم والعلم والحكمة، وهي المعاني نفسها التي سيحتفظ بها ابن رشد، حيث يتحدد الخطاب الفقهي عنده في قول في الفهم، فهم النصوص لأغراض عملية بالدرجة الأولى، وهو فهم يتوسل بآليات عدة نظرية توفرها له معارف عدة من أهمها أصول الفقه، وفقه الاختلاف، والنحو وغير ذلك. وعليه، لا يغدو الخطاب الفلسفي، كما فهمه ابن رشد، أن يكون فهماً للوجود، سواءٌ اتخذ هذا الوجود طابعاً مادياً مفارقاً بالقول الطبيعي، أو طابعاً مفارقاً بالقول تهتم به العلوم والتعاليم، أو طابعاً مفارقاً بالقول والوجود تهتم به ما بعد الطبيعة، كما أنه فقه لآليات التفكير التي تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ كما يقدمه المنطق. وركز بعض الباحثين على علاقة الفقه بالفلسفة لدى ابن رشد، والمنزلة التي يحتلها الخطاب الفقهي بالقول الفلسفي في الخطاب الرشدي، حيث تتحدد العلاقة بينهما في علاقة بين فقه نصّ وفقه الكون، بخاصة أن الكون يتخذ شكل نص هو النص الأرسطي، والنتيجة هي فقه للنصّ بمعنى فَهمه؛ الأمر الذي يبيّن انسجام ابن رشد مع نفسه حين يدرس النصوص الفلسفية بوصفها المدخل إلى فقه الكون، وهو الفقه الذي يسمح بعبادة حقيقيّة جعلها ابن رشد «شريعة خاصة بالحكماء»، وفقه يلبي للحكيم حاجاته من المعرفة العقلية ومن التأمل والارتباط الفكري العميق. ويمكن القول إن شخصية ابن رشد الفقيه تحضر في قلب القول الفلسفي الخالص من خلال انتصارها، في ما بعد الطبيعة، للأقاويل العادلة. فضلاً عند ذلك، فالمشروع العلمي عند ابن رشد، يتجسد في صيغة مباحث في العقل، سواءٌ اتخذ مجاله الفلسفة أو السمع، أم كان فقهاً أصغر أو أكبر، فوحدة الاشتغال الرشدي في الفقه والفلسفة، تتأسس على فهم خاص للعقل، عرضه في كتبه التي أنشأها، حيث يغدو العقل إدراك الموجودات بأسبابها، يحضر في قلب الفلسفة ولكنه يحضر، أيضاً، وبقوة، في قلب المعرفة الفقهية.