ربما عنت يد العازف مدلول الفحولة وعنت تموجات نغمات الموسيقى مدلول الأنوثة في حاصل الالتقاء بينهما.. علاقة المطر بالتربة.. السماء بالأرض.. القلم وشاعرية الحروف.. وأخيرا الرجل والمرأة.. لذا حين أريد القول بأن مقاييس الأنوثة والفحولة وما بينهما من علاقة قد اختلفت في الحاضر عما هي عليه في الأمس فإنني لا أقصد بالتحديد الرجل والمرأة ولكن أعني كل ما هو شبيه بما سبق وبالذات فيما حدث من اختلال للتوازنات بينهما.. الشواهد تقول إنه كلما تكاثرت مظاهر رقة الأنوثة دل ذلك على نمو واتساق حضاري وكلما تكاثرت مظاهر الفحولة دل ذلك على التزام دقيق بضوابط مجتمع القرية أو القبيلة.. لعل المشكلة القائمة وبحدة عنيفة في ذهن الشرقي الواعي.. هنا أحدد الواعي.. هي كيف يمكنه توفير التوازن بينهما.. فحولة وأنوثة.. نموا واتساقا حضاريا مع التزام أخلاقي واضح..؟.. هنا لابد أن ننزلق الى هذا السؤال: أيهما أكثر إغراقا في نسبة أنوثة أكثر مايكل جاكسون نجم موسيقى البوب الأمريكي أم المجتمع الحضاري الغربي المعاصر.. وبشكل أوضح أيهما يستهويه في الآخر ما هو عليه من تزايد في نسب الأنوثة..؟.. أرجو أن يكون الجواب قاصرا على المطرب فهو فرد أما لو شمل المجموع الأكبر فالأمر كارثة على الأقل فيما يخصنا نحن الذين مازالت النسب لدينا متباعدة.. وبشكل عكسي مع أولئك.. نستطيع الحصول على الأمثلة عبر نماذج متباعدة من تاريخنا العربي العام أو مجتمعنا الخاص ففي حدود البيئة المحلية أستعيد ذلك الاستدلال اللم اح لسمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي سبق أن أشرت اليه في موضوع سابق في فهم كيف كانت المرأة في مجتمع القبيلة السابق تبادر الى استقبال السيارة الغريبة القادمة مستطلعة سبب مجيئها في حين تهرب الماشية التي لم تألف ذلك بينما الآن في مجتمع المدينة المعاصرة تختبئ المرأة وتشرئب الماشية مستطلعة في قدوم السيارة وصول الماء والأعشاب التي ألفتها منها أما المرأة التي طرأ بالنسبة لها اهتمام أنثوي غير سوي لدى الرجل فإنها قد اختبأت.. في تاريخنا العربي نجد أن قصص الحب التي تناقلها الرواة عن العصر الجاهلي ثم عن العصر الأموي لم تكن بها المرأة مبتذلة ولم تكن مرغوبة في غير عاطفة الحب المجردة.. لقد تمثل ذلك في علاقة المرقش الأكبر بأسماء وعبدالله بن عجلان بهند بنت كعب وكذا مسافر بن ابي عمرو بهند بنت عتبة التي لم تستنكر السفر علانية لإعلان براءتها من وجود علاقة مشبوهة.. العصر الأموي عرف ما سماه المؤرخون والرواة بالحب العذري في قصص حب عتبة بن الحباب وريا ومرة النهدي وليلى بنت زهير وعبدالله بن علقمة وفتاته حبيش ومالك بن الصمصامة وفتاته جنوب ثم المشاهير من أمثال عروة وتعلقه بعفراء وجميل مع بثينة وكذا قيس مع لبنى.. لكن كيف انقلب الوضع في العصر العباسي..؟.. كيف غابت المرأة المعروفة اسما ونسبا المقصودة بعاطفة عشق مجردة.. لقد اختفت هذه وراء جدار البيت .. بعبارة أوضح لقد كانت موجودة خارج البيت لكن المستجد في التمدن الاجتماعي أدخلها البيت بينما أعلنت الجواري عن حضورهن واللاتي لم يكن مقصودات بعواطف ذاتية مجردة لكنهن مارسن الغناء والرقص حتى وصلن في تنعيم الأنوثة إلى مرحلة ما عرف بالغلاميات اللاتي تعني هذه التسمية لهن اجتماعيا أن الأنوثة ليست امرأة فقط .. والغانيات اللاتي يطرزن أبيات العشق على جباههن ومآزر الوسط من أجسادهن.. من هي عريب.. من هي حبابة أو عنان.. وقبيحة التي أخذت هذا الاسم لفرط ما كانت عليه من جمال.. اسماء عديدة لعبن أدوارا مؤثرة في تطوير حياة اللهو ونشرها وفي إشاعة الفنون وسهولة تناولها بدءا بالقصور وانتهاء بأصحاب القدرة على الامتلاك والشعراء والمغنين.. لقد دخلت المرأة العربية في العصر العباسي إلى أسوار البيت وتركت الساحة لذلك النوع من الجواري الذي لم يؤثر فقط في مسار الحياة الاجتماعية ولكنه أث ر أيضا في مسار الحياة السياسية حين لعب بعضهن أدوارا في تغيير بعض وجوه السلطة والسبب هو أن الممارسات الجديدة للعلاقة بين الفحولة والأنوثة قد اخترقت أسوار مفاهيم القبيلة وقيمها وطفت على السطح مفاهيم وقيم العناصر الكثيرة التي استوعبتها الدولة العباسية وبقيت زبيدة الرشيد وبوران المأمون ورميكية الأندلس مجرد إضاءات محدودة في سماء نجوم الجواري مع اعتراف بالرقي الحضاري للعصر العباسي وتدن أخلاقي واجتماعي في ذلك العصر..