الدكتور عمر السيف من الأسماء الإعلامية والثقافية التي يبتهج بها مشهدنا الثقافي والأكاديمي كانت لنا معه فرصة هذا اللقاء للتحاور مع تفاصيل كتابه عن شعر المرأة ولأن الحوار ماتع وشائق فسأترككم معه دون وسيط: @ ثقافة اليوم: بودِّنا أن تلقي الضوء على فكرة كتابك "الرجل في شعر المرأة: دراسة تحليلية للشعر النسوي وتمثلات الحضور الذكوري فيه"، وعلى الإطار الزمني لهذا البحث؟ - تتمثل فكرة الكتاب في دراسة إنتاج المرأة الشعري وتمثلات حضور الرجل فيه خلال حقبة شملت العصر الجاهلي بأكمله، والعصور الإسلامية الأولى حتى سنة 200للهجرة. @ ثقافة اليوم: ولم اخترت هذا التاريخ بالتحديد؟ - لأنه يتيح للباحث تتبع التطور الفني للشعر النسوي، كما يتيح له تتبع تطور العلاقة بين المرأة والرجل وتمثلها في الشعر خلال الحقبة المختارة. @ ثقافة اليوم: أليست المدة الزمنية طويلة نوعاً ما؟ - تعرضت المرأة لمعوقات صعبت اقتحامها عالم الشعر الذي ظل مملكة فحولية محرمة على النساء، وافتقرت موضوعات الشعر العربي إلى ما يخص المرأة، إضافة إلى أن المرأة مطالبة - قديماً وحديثاً - بأداء دورها الأمومي الذي لا يقبل المجتمع تنصلها منه. كل هذه الأمور وغيرها جعلت النقاد ينظرون إلى شعر المرأة بدونية، فمثلما كانت الفحولة تعني ذروة التميز الشعري، كانت الأنوثة تمثل المستوى الأدنى، مما جعل بعض الشواعر يفحلن خطابهن الشعري ليتقبل من قبل النقاد ومن قبل المجتمع، تقول نزهون الغرناطية: جازيت شعراً بشعر فقل لعمري من أشعر؟ إن كنت في الخلق أنثى فإن شعري مذكر هذا الوأد الفني للمرأة قلل نتاجها مما جعل دراسة هذا النتاج تتطلب تتبعه خلال حقبة غير قصيرة. @ ثقافة اليوم: إذن كان المرأة غائبة عن المشهد الثقافي العربي آنذاك؟ - من اللافت أن المرأة لم تكن غائبة عن الفعل الثقافي آنذاك، بل كانت موجهة له، فقد تقاسمت الأدوار مع الرجل، فالشاعر في أثناء قوله الشعر كان يستحضر الأنثى ناقدة لشعره، وإن لم يستحضر أنثى بعينها فهو يستحضر الجنس النسوي الناقد. وربما كانت المقدمة الغزلية استعراضاً طاووسياً لفحولة الشاعر وقدرته على تذوق جمال المرأة، ولعل قصة تحكيم أم جندب بين امرئ القيس وعلقمة الفحل ذات دلالة مركزية في طبيعة البناء الثقافي لذلك المجتمع، فانتصار أحدهما اقتضى بأن يمنح لقب "الفحل" ويتزوج الأنثى، وكانت هذه الأنثى القاضية في هذه المسألة. ومع أن المرأة قبل الإسلام عانت - غالباً - من النظرة الدونية من مجتمعها، شفقة من الأقارب واستحقاراً من الأباعد، إلا أنها حضرت بصمت توضحه قصة أم جندب، وتوضحه بنية القصيدة العربية وتكوينها، ويوضحه تحول هذا التوجيه الصامت في العصر الجاهلي إلى توجيه مسموع في العصور الإسلامية عند سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وغيرهما،فتحدثت هؤلاء النسوة بما يعجبهن في الشعر وما لا يعجبهن وقضين بين الشعراء في مجالسهن وربما كان الغزل العذري ثمرة من ثمار النقد النسوي. وعندما دخلت الإماء في آخر العصر الأموي وفي العصر العباسي تعاظم دور المرأة، فقد اقتحمت عالم الإبداع بجرأة، واستطاعت أن تحافظ على مكانتها النقدية ولا سيما أنها أصبحت مغنية توجه الإبداع باختيارها المادة المغناة. @ "ثقافة اليوم": كأنك تقول إن المرأة، وان غيبت إلاّ أنها لم تغب عن المشهد الثقافي؟ - صحيح، فالمرأة التي صورتها الدراسات الحديثة بأنها مجرد دمية نحتها الرجل في شعره، كانت هي الموجه والمحرك لهذا الشعر، وأسهمت في تكوين بنية القصيدة. @ "ثقافة اليوم": في بعض أجزاء الكتاب ذكرت ان المرأة تغزلت بالمرأة وسؤالي من شقين أولهما: ما علاقة أطروحتك بغزل المرأة بالمرأة؟ والآخر أنني استشعرت أنك تتهم بعض الرواة بالجهل، وأنهم نقلوا أخباراً في غزل المرأة دون ان يفهموا محتواها، ما رأيك؟ - إجابة عن الشق الأول أقول: إن دراستي لغزل المرأة ليس مبحثاً مستقلاً وإنما هو امتداد لدراسة تمثل الحضور الذكوري في شعر المرأة، أعني ان صورة الرجل الإنسان في شعر المرأة كان تتصف في العصر الجاهلي بالخشونة والغلظة ولاسيما مع الأعداء وكان تشبيه الرجل بالأنثى وتنعيم صورته لا يرد إلاّ عند الانتقاص والسخرية، بيد ان هذه الصورة بدأت في التغير وبدأ الرجل يوصف بأنه "متمايس" وبأنه "الثقيل الردف الهضيم الحشا" وبأن الحرير يخدش جلده لرقته ونعومته ثم تطورت هذه الصورة إلى ان تتأنث تماماً بأن تتغزل المرأة بالمرأة. أما الشق الآخر، فأنا لا أتهم هؤلاء الرواة بالجهل وإنما عدم فهم طبيعة العلاقة المثلية، فثمة خبر يقول ان هارون الرشيد حلف على أخته عليّة الا تكلم غلاماً لها اسمه "طل" ولا تسميه واستمع إليها يوماً وهي تدرس آخر سورة البقرة حتى إذا بلغت قوله عز وجل: "فإن لم يصبها وابل فطل" وأرادت ان تقول "طل" ولكنها استدركت وقالت: فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين. فدخل فقبل رأسها وقال: قد وهبت لك طلاً ولا أمنعك بعد هذا من شيء تريدينه! فهل يمكن ان تتقبل فكرة ان الرشيد يهب أخته هذا الغلام بعد ان عرف ما بينهما؟ ان "طل" جارية تبين للرشيد تعلق أخته بها، وهذا التعلق لا يعني بالضرورة الممارسة المثلية فالتعلق الشديد أمر تمر به معظم الفتيات وعندما تنظر إلى شعر عليّة بنت المهدي أو خديجة بنت المأمون يتبين ان الأسماء النسوية التي تتغزلان بها ليست كنايات عن أسماء ذكور كما يعتقد الرواة وإنما هي أسماء نسوية حقيقية، ولاسيما ان القصور التي عاشت فيها عليّة وخديجة تعج بالجواري من مختلف بقاع الدنيا وتعاني هؤلاء الجواري - غالباً - من الفراغ العاطفي والجنسي. @ "ثقافة اليوم": معنى ذلك أنه كانت هناك علاقات مثلية في القصور؟ - أولاً لا يمكن لباحث ان يترك البحث ويتحول إلى متهم للناس في سلوكياتهم التي لم يطلع عليها غير الله. ثم ان العلاقة المثلية لا تعني الممارسة فالكثير من الفتيات - غير الشاذات - قد يتعلقن بفتيات أخريات ويعجبن بجمالهن ان لم تتوافر لهن العلاقة الطبيعية المتمثلة في الزواج. ثم ان العلاقة المثلية كانت موجودة بين الجواري داخل القصور، وقد نقلت أخبار غير قليلة عن ذلك وأورد وول ديورانت في "قصة الحضارة" أحد هذه الأخبار نقلاً عن الجاحظ. @ "ثقافة اليوم": هناك سؤال أراه مهماً: ما أبرز الصفات التي أحبتها المرأة في الرجل؟ - لم تصف المرأة في العصر الجاهلي الرجل وصفاً حسياً يجعل للرجل المثال خصائص جسدية محددة وعندما وصفت جسد الرجل في الشعر الجاهلي جعلت صورته معبراً لجماله الأهم عندها وهو الجمال الخلقي، وأضفت عليه بعض القدسية من خلال اللوحة المهيبة التي رسمتها لجماله، وظل الرجل طويلاً جسيماً كأنه البدر، بلا ملامح، وكل امرأة ترى صفاته الثانوية ذماً عندما تكرهه ومدحاً عندما تحبه وعندما تغير المجتمع في العصر العباسي تسللت صورة الأعجمي، فتغزلت المرأة - مثل عريب المأمونية - بالرجل الأشقر، أزرق العينين، أحمر الوجه ! فالرجل الأسمر الجعد الذي كانت صفته الأهم "العطاء"، عطاء الخير لأحبته وعطاء الشر لأعدائه - أصبح أشقر بسبب تزايد مكانة الأعاجم في الدولة آنذاك. @ "ثقافة اليوم": ذكرت ان المرأة لم تتناول المرأة في الشعر إلاّ في مواضع قليلة، أليس كذلك؟ - نعم، واللافت ان هذه المواضع كانت - في معظمها - محصورة في غرض الهجاء! @ "ثقافة اليوم": وذكرت ان الرجل الأخ كان الأكثر حضوراً في شعرها.. فما أسباب ذلك في نظرك؟ - ناقش الكتاب أسباب حظو الأخ بهذه المكانة إذ قد يكون السبب قوة رباط الاخوة عند المجتمعات البدائية ولاسيما عند المجتمعات التي كانت ذات نظام أمومي، وهي قضية متشعبة تشرحها الانثربولوجيا. أو ان الاشادة بالأخ إشادة بالذات نظراً لأن ابن البنت كثيراً ما يشابه خاله ففخر الشاعرة بأخيها والتذكير بمآثره الخلقية والخلقية تلميح مهذب إلى وجود هذه الصفات في الأخت التي تعد الصورة المؤنثة لأخيها، والتي ستلد أبناء مشابهين لخالهم. ولاشك ان انتماء المرأة قبل الإسلام لأسرتها أوثق من انتمائها إلى مؤسسة الزواج إلاّ ان الميل العاطفي بين الزوجين قد يقوي هذه العلاقة ويعظم محبة الزوج في قلب زوجته، ومن ثم يكون انتماؤها لمؤسسة الزواج أقوى. @ "ثقافة اليوم": بمناسبة حديثك عن تشبيه المرأة الرجل بالقمر، استعنت بالمنهج الميثولوجي في الفصل الثالث، فهل ترى أنه منهج مناسب لدراسة شعر المرأة؟ ج - المرأة بطبيعتها اكثر ايماناً بالأمور الغيبية من الرجل، وعاطفتها الدينية ارق، ولكنها في الوقت نفسه اكثر ايماناً بالخرافة، دون تعميم هذا الأمر. والشعر النسوي - مع قلته - استبقى معتقدات اسطورية ودينية؛ فعادية أم أبي جابر تقول: ملك ماجد يقوم له الناس جميعاً قيامهم للهلال فالناس يقومون جميعاً للهلال في مشهد يبدو وكأنه صلاة وابتهال لهذا الإله. ومن الثابت علميا ان عبادة الشمس والقمر كانت موجودة في أجزاء متفرقة من اليمن وشمال الجزيرة والعراق والشام. ومن مظاهر تقديس الشمس قول مية بنت عتيبة: تروحنا من اللعباء عصراً وأعجلنا إلهة ان تؤوبا و"إلهة" اسم قديم للشمس يبين ان كانت مقدسة عند أهل هذه اللغة. فعلى الرغم من قلة شعر المرأة؛ الا ان ثمة رواسب اسطورية ظلت كامنة في هذا الشعر، مما جعل المنهج الميثولوجي مدخلاً مناسباً لدراسة حضور الرجل في شعرها. ثقافة اليوم - من المعروف ان الدراسات النسوية تطورت في الغرب؛ فهل يمكن عد هذه الدراسة صدى للدراسات النسوية الغربية؟ ج - أولاً لا يمكن انكار ان ثمة اهتماماً بكل ماهو نسوي في السياسية والثقافة وغيرهما، وهذا الاهتمام متأثر بالجمعيات النسوية التي اسهمت في الدفاع عن حقوق المرأة، وتوصلت الى نتائج مهمة وخطيرة في هذا الشأن، وكانت احدى نتائج هذا الاهتمام اعادة قراءة انتاج المرأة بعيداً عن الأحكام البطرياركية التي هشمت المرأة. وفي اعتقادي ان الباحث عندما يقبل على نفسه ان ينساق في مثل هذه الأطروحات بدون وعي فإن يفرغ بحثه من قيمته العلمية، ويغدو بحثه مجرد آلية للاستدلال على الظلم الذي وقع على المرأة. وهنا أقول انني لا انكر ان الاهتمام بالدراسات النسوية في السنوات الأخيرة اتاح الكثير من المعارف، وربما المناهج، التي تساعد الباحث في قراءة مكانة المرأة او دراسة ابداعها، والمحك الحقيقي هو آلية البحث والنتائج التي يتوصل اليها الباحث، ولا يعني هذا ان الباحث يخالف او يوافق الآراء النسوية العالمية، ولكن المنوخى ان يسعى الباحث الى كشف الحقيقة التي بحث عنها بدقة وعي. ثقافة اليوم - كيف تنظر الى الإبداع الشعري النسوي السعودي في العصر الحديث؟ ج - لاتزال المعوقات التي تمنع المرأة الجاهلية عن الإبداع تمنع المرأة اليوم، ولايزال الشعر النسوي السعودي يحاول ان يبحث عن ميلاده.. والشاعرة اليوم اقرب الى همومها من ذي قبل، ولكنها الى اليوم تدور كثيراً في فلك الإبداع الذكوري!. اما الرواية؛ فأنا على قناعة ان هذا الفن اقرب الى طبيعة المرأة التي تميل بطبيعتها الى القص والحكي، وتملك لذلك استعداداً فطرياً، وأعتقد ان الروايات السعودية النسوية تمثل محاولات جادة للتميز الروائي. ولكني في الوقت نفسه؛ اخشى ان يكون اقتحام "التابو" غاية في ذاته، مما يؤدي الى زيادة مبيعات الرواية بشكل كبير، فيرتبك النقد وتتخلخل العملية النقدية وترتبك الروائية نفسها، فتكون الرواية مثل الأفلام الضعيفة فنيا التي توشى بمشاهد الجنس لتحقق الانتشار، وهان لا تستطيع الروائية ان تعرف مناطق القوة والضعف في قلمها. ثقافة اليوم - وهل تعتقد ان الروايات النسوية نجحت بسبب اقتحامها "التابو" فقط؟ ج - عندما امر الله سبحانه وتعالى آدم وحواء ان يأكلا من شجر الجنة الا شجرة واحدة؛ اكلا من هذه الشجرة، مع أنه نبي الله! والمجتمع السعودي الذي منع طويلاً من قائمة من المحظورات ترسبت في ذهنية بعض افراده البحث عن المحظور رغبة في الاستكشاف، ولأن الخارج من الغرفة المظلمة بجهره النور حتى لا يميز الجيد من الرديء. هذه الحالة التي يمر بها المجتمع السعودي سوقت الكثير من الروايات الضعيفة فنياص، ونجحت روايات بسبب اقتحامها "التابو"، وهذا الرواج للرواية قد يقنع هذا الروائي او تلك الروائية بأن روايته جيدة، ومن ثم سيتحقق الفشل. لا يعني ذلك ان الروايات النسوية في عمومها سيئة؛ بل ثمة روايات مميزة فنياً اذا قسمنا الرواية بمحدودية تجربة كاتبتها، وهي روايات تبشر بالخير، شرط ان تتنبه الى ان تبني قدرتها الروائية بشكل جيد. طبعاً انا اكره ان انصب نفسي واهباً لصك التميز الإبداعي، ولكن ما قلته رأي متابع لا غير.