يعدُّ نص الشاعرالعربي السوري نزار قباني (1923 - 1998م) من أكثر التجارب المعاصرة إثارة للجدل والفضول والالتباس، لما يحمله من معين هائل من الرؤى والأطياف والجمالات، ولما يحيل إليه من عوالم شديدة الثراء والاتساع، فهو نص يستعصي على التصنيف والانتماء، وأكبر من أن تستوعبه مدرسة شعرية واحدة أو اتجاه فني بعينه، ف «كونه الشعري مازال يحفل بكل عجيب وغريب» وشعره ظلّ يخاطب قارئاً ظاهراً، وينشد قارئاً مضمراً، ومختلفاً ما فتئ يتكاثر ويتعدد، ولكأن هذا الشعر متعال عن الزمان يجري غير آبه بتعاقبه وتراخيه، ولكأنه موصول بكل المراحل يحتضن داثرها وباقيها، فمنذ خمسين عاماً ونيف وهو يعفّ عن المؤسسة النقدية تسنده وتزكيه، بل ظل على امتداد هذا الزمن يحتكم إلى أفق تقبل أوسع يحوز فيه الجمهور غير المختص الصدارة. وإذا كانت الحداثة modrenaistion قد زعزعت المفاهيم، ونفضت عنها غبار عصور خلت، رافضة الإرث، فإن ما بعد الحداثة postmodernaistion قادرة على خلق الاشكاليات ضمن المسلمات حتى يتسنى لها خلخلة الثقة بما لم يكن سابقاً يقبل الشك. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن القباني يعدّ بحق رائداً لفهم جديد للانوثة على المستويات جميعها: الفكري والفلسفي والأدبي وذلك عبر مشروعه الشعري النهضوي الذي اضطلع به على مدى نصف قرن ونيّف من الزمان. فما الذي فعله القباني؟ إن القباني عمل منذ البداية على إثارة الشك في الكثير من الرواسي القديمة، وزعزع مصداقيتها، وأعاد اختبار مجموعة المسلمات والبديهيات القائمة حول الأنوثة، وذلك لانجاز مستوى آخر لفهمها من جديد. لقد فتح القباني الباب على مصراعيه أمام عمليات تحليل جذري لكل البنى الرمزية المترسبة من الماضي، والمنتقلة باستاتيكية عجيبة إلى عصرنا هذا. فأظهر سلبياتها إلى السطح، من خلال عبوره إلى داخلها، وتحليلها تحليلاً حاذقاً يفضي إلى السخرية والتهكم حيناً وإلى الالتفات إلى النفس والنظر في الأعماق المعرّاة بشيء من الخجل حيناً آخر. وقد استخدم القباني النقد المرتد أو العكسي هو ما يمكن تسميته بالميتا تكست metatextuality، ونعني هنا النقد الموجه من داخل نص القباني إلى خطابات المجتمع بأكملها، عبر التفاعل النصي intertextuality لنصه مع نصوص أخرى سابقة أو معاصرة، يسائل من خلال هذا التفاعل نظماً واعتقادات مبنية على أسس مفككة أصلاً، تم تركيبها تعسفياً، وأحكم النطاق حولها، لترتقي إلى مصافي المقدسات، وتكتسب بذلك شرعية التحريم. ولعل العمل الأكثر وضوحاً لنص القباني هو تعرية مرتكزات الفكر الرجعي والكشف عن هشاشة هذا الفكر عبر توجيه ضربات من الداخل إلى المراكز التي اعتمدها النظام المتحكم عبر أزمانه، فنتج عن مركزية الخطاب الأحادي السلطوي الذكوري تهميش الخطاب الأنثوي، الأمر الذي حدّ من الفعل الخلاق للعقل، وأغلق باب الاجتهاد، وعمل على تأكيد ثوابت طالها العطب، وتأويلات تشهّت الوصول إلى حدّ النص. إن عمل القباني المبكر هذا كان له دور هام في تنويع مسارات حركية الشعر أولاً، وفي تغيير حركية الحياة وتجديدها وتنشيطها ثانياً، فعبر إعادة تعريفه للحقائق المتغيرة، أبطل القباني المقولات المتعالية لهذه الحقائق، وسعى جاهداً إلى الغاء التحيزات الهرمية عن طريق استبعاد وجودها، فاحتفل باليومي والتفصيلي بل وبالعادي والمبتذل والعرضي، وبكل الاشياء المهمشة والمتناهية في الصغر. وبذكاء حاد حول كل هذه الأشياء إلى عناصر شعرية بفضل السياق الجديد لقصيدته التي تقوم على لغة قريبة ومفاجئة، أليفة ومباغتة تطلق طاقتها لتخلق فجوات توتر عديدة في مسافة يتحرر فيها الدال من قيد المدلول فيجتمع لنا دال يعوم floating ومدلول ينزلق sliding على حدّ تعبير جاك، لاكان فلا نقبض على مدلول واحد للدال، بل تتوزع المدلولات في جسد النص القباني، مما يوسع دائرة المعجم فتدخل ملفوظاته في تجريبية دائمة، عبر حشرها في علاقات جديدة وسياقات جديدة تفسح المجال للمتلقي بقراءات عديدة تغذي مخيلته وتدرب حواسه على التذوق وترفع من منسوب الجمال في نظرته إلى الاشياء. وفي هذا المقام نستطيع القول إن القباني كان رائداً ل (قصيدة التفاصيل الصغيرة) أو ما أطلق عليها (قصيدة التفاصيل اليومية)، أو حسب مصطلح بيلنسكي (قصيدة نثريات الحياة) وهي ظاهرة شعرية بدأت بالتكون في سماء شعرنا العربي، وتكاد أن تشكل عنواناً لمرحلة جديدة. ونجح القباني في خلق ملاحم صغيرة كبيرة بأن معاً صغيرة لانها تعرض لحياة الإنسان العادي البسيط ولهمومه ولأحلامه المنكسرة، وكبيرة لأنها استطاعت أن ترقى إلى صفة الملحمي. ولعل نزاراً قد سبق بأسطورياته التفات النقاد إلى هذا الصنيع، فهم لم ينتبهوا إلا في زمن لاحق لنقد الخمسينيات الفرنسي وخاصة بعد (أسطوريات) رولان بارت الذي التفت إلى أسطرة اليومي والجزئي والتافه والآني. فنزار جير كل ما صار اليه وشحنه بكل العطاءات الشعرية الممكنة وأعاد النبض إلى كل الملفوظات وأخرجها من حيز المعمارية. فكل المفردات سبائك يمكن أن تكون شعرية حيث يبطل أو يفسد الحكم على السبائك. ولا ننسى أن التكنولوجي قد أسعف نزاراً ب (قصيدة التلكس) أو (قصيدة الومضة) ويعد رائداً لهذا النوع من القصائد الذي بدأ يزدهر في بداية الألفية الثانية وفي أكثر من جنس أدبي كالرسائل والقصة القصيرة والشعر. وإن اجتمعت للقباني كل هذه الريادات فهي لا توازي ريادته للحركة النسوية العربية، والأمر لا يخلو من طرافة أن يقود حركة تحرير المرأة رجل، ولكن القباني أفرد المساحة الأكبر من شعره إن لم نقل كله للمرأة يخاطبها أو يتكلم على لسانها. فنزار ومنذ البداية سلط الضوء على المرأة وبقوة ومشى بخطى حثيثة تنويرية راح يفكك البنى التي ارتكز اليها الفكر العربي والتي رسخها متجاوزاً بذلك يقظة الوجدان الرومانسي الرخو راسماً أمامه الكثير من الأهداف ساعياً لمستقبل تكون فيه الأنوثة بخير. اجتهد القباني منذ باكورة أعماله في هذا الاتجاه فحاول تنقية مفهوم الأنوثة من رواسب العلاقات الاجتماعية، وأراد له ألا يخضع لمنظومة الفكر التقليدي وسلطة الأب وتجليات التهميش marginality بل أن يتحرر من التراتبية في نظام التصنيف وفي نظام العلاقات الرمزي، الذي أحكمت حلقته سلطة الذكر، الذي تمدد بدوره على مساحة واسعة من العقد المكبوتة وانتهى أمره إلى وضع المرأة على الهامش بحيث لا يراعى أي عامل آخر في التصنيف حتى ولو كان هذا العامل بيولوجياً أو نفسياً أو طبيعياً. ونزار يكشف عبر خطابه الشعري عن كل التحيزات التي همشت فيها المرأة لصالح الرجل، فقصائده تعري التحيزات اللغوية ضد المرأة، حيث كانت توضع في المفردات في موضع يكرّس التصور السائد بتفوق الذكر على الأنثى وتكشف لنا قصائده أن التحيزات ليست كامنة في اللغة ذاتها بل في سياقات إنتاجها واستخدامها، فإن تحصل المرأة على هوية إنسانية أساسية identity essentialhumman في مجتمع ذكوري فكرة بحاجة إلى الكثير من اللغة المراوغة وإلى الكثير من التفكيك. ولم يكتف القباني برد الاعتبار إلى اللغة الأنثوية، بل عمل على توظيف الجانب اللغوي - وبردة فعل عنيفة - ضد الخطاب اللغوي الذكوري، فاستخدم اللغة ذاتها في مواجهة المحرمات المتراكمة فدعا إلى اظهار ما تم السكوت عنه، وإلى اظهار الجسد المغيب إلى السطح والاحتفاء به. وهنا يجب التنبيه إلى أن قصيدة القباني كانت تصدر عن منابع بريئة تنطوي على أنماط من النشوة الجامحة، وتنقض على الجمال الكلاسيكي المتوازن المتناغم والمنقطع عن الحياة، وتهتك المنظومة السلفية المغلقة الصادرة عن عقول رتيبة حافظت على السلفي القاضي بضرورة عدم الفاعلية والصادرة أيضاً عن نظرة أحادية إلى الجسد، هذا الجسد الذي رماه العسف الاجتماعي بالإعاقة، وكبله بالقيد، رامياً من وراء ذلك وبمخاتلة خبيثة تكبيل عقل الأنثى ووصمه بالقصور ليبعدها عن موطن المشاركة، فارضاً عليها الابتعاد القسري منفرداً بساحة الرأي. ومن كل ما سبق نرى أن قصيدة القباني لا تحيل على جسد المرأة مباشرةالضوء، فتتحدث القصيدة عن جسد مغيب مهمّش، قبل حديثها عن جمال أنثوي. فتطلق قصائده صيحة هي صرخة الجسد الانثوي في وجه من قمع المرأة، وكبلها وطوقها، وأدخل في تلافيف عقلها أسطورة القصور، فنزار ومنذ البداية دعا إلى اظهار الأنثى جسداً وروحاً من مقام المكبوت والمسكوت عنه مصدر العار والخجل إلى موضوع مستقطب للتجربة الشعرية. وعمل نزار هذا يوازي عمل الحركة النسوية العالمية في الستينيات والسبعينيات في الفعل ويتجاوزها بالأسبقية في الزمن أولاً وفي الاستمرارية ثانياً. فنزار قباني قاد المرأة لاكتشاف مخابئ هذه الروح وأسرار هذا الجسد فجعلها منذ دواوينه الاولى تتحسس جمالها وذلك من خلال أشيائها، لتدرك فيما بعد ذاتها. تطالعنا قصائد تدلل عتباتها عليها مثل (مذعورة الفستان، غرفتها) من ديوان (قالت لي السمراء - 1944) و(غرفتها إلى ساق إلى رداء أصفر همجية الشفتين) من ديوان (طفولة نهر - 1948) و(الفم الصياد، والمايو الأزرق، وثوب النوم الوردي، وأحمر الشفاه) من ديوان (أنت لي - 1949) و(عودة التنورة المزركشة، والجورب المقطوع والقميص الأبيض، والجورب المقطوع،، وإلى ساذجة) من ديوان (قصائد - 1956)، و(لوليتا) من ديوان (حبيبتي - 1961) ولننتبه إلى زمن كتابة القصيدة وهو العام 1941م، لما لهذا الزمن من إضفاء الجرأة والريادة لنزار قباني فلم تكن المرأة تحوز على شيء من حريتها بعد وكان ذكر أشيائها الخاصة ومستلزمات جمالها أو ثيابها أو ردائها أو تسمية أعضائها شيء من العار والعيب، وموطن للخجل الأشد حساسية عند الرجل فهو من الأمور السرية بالنسبة للرجل، ومحظور عليه ذكرها على العلن بل محظور عليها ذلك أيضاً. أما القصيدة الديوان فهي قصيدة (يوميات امرأة لا مبالية) الديوان الذي تمّ انجازه في العام 1958م ولم ينشر إلا في العام 1968م هذا الديوان يعد بحق مانفيستو manifesto المرأة العربية فهو ثورة على وضع المرأة وطرح حقيقي لقضاياها. ونزار منذ ديوان (قصائد) وقصيدتاه (أوعية الصديد ورسالة من امرأة حاقدة) وهو يموضع المرأة كقضية، ويبحث في مشاكلها فيتصاعد الخط البياني لهذه الثورة فمن وصف لأشياء المرأة الصغيرة جداً إلى وصف لقضاياها الكبيرة حيث نقرأ (حبلى، وأوعية الصديد) ومن وصف زينتها (المانيكور وأحمر الشفاه والثوب الوردي وكم الدانتيل وكريستيان ديور والمايو الأزرق) إلى وصف أحزانها ومشكلاتها في قصائد من مثل: (أنا محرومة، البغي، وامرأة من دخان، ومع جريدة، ورسالة من سيدة حاقدة، وشؤون صغيرة، وكلمات، والرسائل المحترقة، والرجل الثاني، والحب والبترول، وصوت من الخليج) وهذه القصائد تدعو المرأة بقدر ما تشهد ذلك إلى خروج صوت المرأة المقموع في سراديب الكبت والحرمان إلى الهواء الطلق وخروج المرأة من قصور السلاطين وبيوت الحرملك إلى بيوت أكثر نوراً وأكثر حرية. والملاحظ هنا على الخط البياني لشعر القباني والخاص بمشروعه الأنثوي النهضوي يشاهد انه في تصاعد، حيث يدفع القباني تصاعده هذا إلى الذروة حيث تطمئن الأنثى إلى انسانيتها وإلى تسلمها عرشها وامتلاك جسدها. إذ يحيد القباني في هذه المرحلة عن لغته التأنيبية، وتهدأ نبرته شيئاً فشيئاً ويرضى عن علاقة جديدة بين الرجل والمرأة، يغلب عليها الحوار في جانبها الأعظم، ويتراجع فيها مفهوم (الرجل) يعبر عنها القباني في حنينه الدائم إلى امرأة تحتضنه وتحرره وتجعله إنساناً حضارياً، ولعل (كتاب الحب) خير مثال على هذه المرحلة في أوليتها. وتتالى دواوين القباني في السبعينيات، وتتسع مع تتاليها لغة الحوار بين نزار وأنثاه: محبوبته نصفه، فلا حياة إن لم تكن معه، تسير إلى جانبه. فيمطرنا نزار في هذه المرحلة ب (أشعار خارجة على القانون) فهذا الديوان نقرأ لحياة حقيقية وعواطف معاشة. وصور حية يرصد من خلالها نزار هنيهات العلاقة وتشابكاتها وما يصدر عن هذه العلاقات من حرارة أو برودة وتمثل ذلك قصائد من مثل (بيروت والحب والمطر)، وقصيدة التحديات، والاستحالة، ومحاولة لاغتيال امرأة، وحبوب منومة امرأة من خشب). وتتصاعد حركة العمل لبلورة مفهوم الأنوثة في قصائد القباني التي تلي ذلك، ففي ديوان (أحبك أحبك والبقية تأتي) يتطور نوع العلاقة بين الرجل والانثى، ففي هذه القصيدة تصل العلاقة بينهما إلى علاقة حب لا تقتله الرغبات الآنية بل يقويه الدم المتدفق في الزمن. ففي هاتين القصيدتين وفي غيرهما حبّ للانثى النموذج، وسعي للكمال في العلاقة معها فنقرأ (كل عام وأنت حبيبتي 1978)، و(حب استثنائي، وأقرأ جسدك وأتثقف، وأشهد أن لا امرأة إلا أنت 1979) بكل ما في هذه الشهادة من حب وحضارة، حيث تنتقل الانثى لتصبح عضواً فعالاً في كتابة القصيدة، ونزار هنا يصر على تجذير حركة الأنوثة ويصر على انطلاقها بالآن ذاته، فلا يغادر السبعينيات إلا والمرأة تحقق اختلافها عن الرجل، وتصبح موازية له، فتصبغ باختلافها هذا اللغة والحدث وتنقذ الثقافة من مطب الانقياد إلى ثقافة أحادية تتسع لضمير الرجل mankind فقط وتضيق عن ضمير الإنسانية (humankind) ومن القصائد الممثلة لهذه الفترة (قولي أحبك، والوردة والفنجان). ويصل نزار إلى قمة التفكيك في مشروعه الأنثوي فيقرر أن الأنثى كتابة، وأن الكتابة هي الأصل وهو محور عمل التفكيكيين، علماً أن لجاك دريدا رائد الفكر التفكيكي الفلسفة والنقد وصاحب مقولة الاختلاف كتاباً بعنوان الكتابة والاختلاف فيه طبعاً يثبت أن الكتابة هي الأصل لأنها ثابتة والشفاهية ليست أصلاً وهو عكس ما يقول به فلاسفة اللغة والمنطق وعلماء اللغة حيث يعود الهامشي ليحتل المركز مكانه الأصل الذي سلب منه لسنوات إن لم يكن لقرون فنزار يعود بالمرأة إلى مكانها الأصل والطبيعي فتعود عنده أصلاً فيكتب (هكذا أكتب تاريخ النساء - 1981) يطلب فيه من المرأة أن تبقى أنثى تحافظ على أنوثتها وتجلوها لأنها عنصر مختلف أصلاً، ولأن كل الحضارة أنثى، والحرية أنثى والقصيدة أنثى، بل كل الأشياء الجميلة في حياتنا هي أشياء أنثوية. ويصل نزار إلى الذروة عندما يقرر أن الأنوثة منتشرة في كل شيء من حولنا، ف (فاطمة) الأنثى متمثلة في كل الموجودات في كل الأشياء هي البدء وهي الختام ففي قصيدة نظرة جديدة لتكوين العالم يقول نزار: في البدء كانت فاطمة وبعدها تكونت عناصر الأشياء النار والتراب والمياه والهواء وبعد عيني فاطمة اكتشف العالم سرّ الوردة السوداء إلى أن يقولك : أشهرك في وجه البشاعة دفتر شعر أرمي جواز سفري في البحر - وأسميك وطني وبعد ديوانه (لا غالب إلا الحب 1990) الذي يعرض لتكافؤ العلاقة بين الذكر والأنثى يطلع علينا نزار بديوانه (هل تسمعين صهيل أحزاني، 1991) وفي هذا الديوان يطمئن القباني إلى ما وصلت اليه المرأة بل إن الديوان يعرض حاجة الرجل الشديدة لها ويصور ضعفه ويناشدها خلاصه من جروحه وعذاباته وأحزانه ويصور نظرة الرجل الناضج للمرأة. أما ديوان (خمسون عاماً في مديح النساء - 1993) فعنوانه يدلّ على مضمونه، فهو يعرض لمشروعه الأنثوي وانجازاته الكثيرة، التي أخذت من عمره نصف قرن، وكيف كانت المرأة قبله، وفي أثناء حياته، وكيف أصبحت بعد كل قصيدة. وكذلك الحال في ديوان (تنويعات نزارية على مقام العشق 1996). وأخيراً منتخبات من قصائده شكلت نقاط ضوء في مسيرته وكان لها بالغ الأثر في الشعر العربي وفي الواقع وفي مشروعه الأنثوي فجاء ديوانه الأخير المطبوع بعد موته (إضاءات - 1999). وفي الدواوين الأخيرة تبلغ الأنثى حدّاً عالياً من التكثيف والقوة والعمق، حتى تكاد تتجلى في مظاهر الوجود كلها، وهكذا يتجاوز القباني الأنثى المحدودة بالزمان والمكان إلى الأنثى ذات الحضور المطلق، مزاوجاً بين اللغوي والأنثوي في قصائد ملحمية، بيد أن ملحميتها تختلف عمّا ألفناه في الملاحم الكلاسيكية، إنها ملحمة الأشياء الصغيرة النثرية البسيطة، ملحمة الإنسان في انشغاله وهشاشته في أحلامه المنكسرة وأشواقه حيث لا مكان في ملاحمه للجليل المجرد ولا موقع للرائع المصقول في عمل نزار هذا. وهكذا نجد أن الأنوثة قد شغلت الحيز الأكبر من حياة القباني وشعره، فلم يغب نزار جسدياً إلا وقد اطمأن لهذا الصنيع، حيث ترك ارثاً عظيماً، سينتقل ليصبح من قبيل المدونات الكبرى في التاريخ كالأغاني وألف ليلة وليلة والسير الشعبية، وستبقى نصوصه تستنفر الذاكرة لتقاوم النسيان والخوف والموت، وتعقد مصالحة بين الإنسان والفرح، ودائماً ستبقى أشعاره تحتكم إلى أفق جماهيري أوسع لأنها شعر ارتقى إلى الجميل وحقق من خلاله شعرية أضفت على النصوص المتعة والمعرفة، وأسهمت في الكشف، وقامت بنزع المقدس عن الرجل والمرأة والحاسة، وهتك الحجب عن فعل الحبّ من حيث هو فعل حياة وإعلان وجود.