لو أخذنا مصر مثالاً على فشل الأصوليات، لن نجد أن ثمة تغييراً يذكر إلا على مستوى الشعارات الفارغة. لا تغيير في أي شيء، سوى في تردي الأوضاع الأمنية، وضمور الخدمات الحكومية، وارتفاع الأسعار، وتراجع مؤشرات الاقتصاد، وفقدان الثقة في مستقبل واعد، مما نتج عنه حالة عامة من الفوضى ومن اللامبالاة. كان الأديب العالمي: نجيب محفوظ، يخالف الأغلبية الساحقة من مُثقفي عصره، ويدعو إلى تمكين الأصوليين من الحكم؛ حتى يكتشف الناس حقيقتهم من خلال الواقع؛ لأن الجماهير ستبقى مخدوعة بهذا الكم الهائل من الأحلام الوردية التي يضخها الإعلام الأصولي الدعائي، ستبقى مشدودة إلى الوعود المُضمّخة بهالات القداسة التي تأسر قلوب عامة الجماهير؛ فيتصورون أن هؤلاء الناطقين بلسان الحقيقة الخالدة (كما يدّعون) قادرون على اجتراح المعجزات في عالم الواقع الذي استعصى على كل محاولات الإصلاح. الذين يخالفون نجيب محفوظ، وهم الأغلبية الساحقة من المثقفين، كانوا يرون أن السم لا يؤكل تجربة، وأن هؤلاء متى ما تمكنوا بعد تمسكن فسيكون من المستحيل التخلص منهم إلا بعد عدة أجيال. مما يعني أن التضحية ستكون رهيبة، وأن ثمة أزمنة استثنائية مشحونة بالفرص الضائعة لن يتم استدراكها بحال. ربما كان نجيب محفوظ أكثر وعيا بطبيعة الإنسان العربي من غيره؛ لأنه هو الذي كتب عنه، واستطاع استبطان عوالمه اللامرئية؛ كما لم يستطع ذلك أي كاتب آخر. فالإنسان العربي بعيد عن نمط التفكير العقلاني المجرد القادر على ربط الأشياء من خلال منظومة العلامات (= اللغة) في عالم الفكر، قبل رؤيتها متمثلة حيّة في عالم الواقع. إنه إنسان البساطة المتناهية، إنسان الحس المباشر، إنسان اللحظة الراهنة، إنسان اللافكر، ومن ثم يستحيل أن تقنعه بالمحتوى العبثي للأصوليات من خلال وقائع فكرية لم تتعين في واقعه المعاش. الإنسان العربي (ولأكثر من سبب) لم يتعود التفكير، تعوّد أن يعيش بحواسه المباشرة التي تربطه بعالم اللحظة الراهنة. لا بد أن نتذكّر واقع التقليدية الاتباعية لدينا. لم يكن أحد قبل الأحداث الإرهابية الأخيرة التي وقعت في بلادنا بعد الحادي عشر من سبتمبر يُدرك مستوى التدمير الذي تنطوي عليه. الجميع كان يتحدث عنها وكأنها حزمة من المقولات العقائدية التي لا تتعدى مستوى أن تربط الإنسان بربه على النحو الصحيح. وعندما كان بعض الباحثين يشير إلى تلك المقولات التكفيرية التي تنضح بها أدبيات هذه التقليدية الاتباعية، ويؤكد أن متتالياتها ستصل إلى القتل والتفجير وتكفير المجتمعات لا محالة، كان قوله دائما ما يُقابل باللاّمبالاة، بل وأحيانا يُتهم بالتجني على هذه التقليدية البريئة التي كثيرا ما تتبرأ من التكفير، وتدعي أنها حمامة سلام! لم يفق الناس هنا إلا بعد أن مسهم الإرهاب على نحو مباشر، لم يكتشفوا بعض معالم الحقيقة إلا بعد أن رأوا بأعينهم القتل والتفجير، وسمعوا التبريرات التكفيرية التي صدرت عن رموز التكفير، وأكدوا من خلال الإحالات الاستدلالية أين يكمن منبع التكفير. أذكر أن أحدهم وكان من أشد الناس مناصرة لمقولات التقليدية، لم يفق من غيبوبة جهله إلا على وقع مصيبة خاصة، تمثلت في وقوع ابنه في قبضة التكفير، إلى درجة أنه تجرأ على تكفيره هو بالذات. من قبل كان يقرأ مقولات التكفير بوصفها مقولات خاصة لا تتنزل إلا على الكفار صراحة، كان يتعاطى معها وكأنها مقولات للتصدر، لا يمكن أن تقع إلا على الآخرين، على المخالفين، على المتهاونين.. إلخ، ولم يعلم أنها حلقة جهنمية ستلتهمه بالضرورة، أو على الأقل ستلتهم المجتمع الذي يعيش فيه. احتاج إلى صدمة كبرى، صدمة واقعية يراها بعينه، ويسمعها بأذنه، ويعيش مرارتها في بيته؛ كي يفيق، ولم يكن من قبل مستعدا للتصديق بنتائج البحث النظري العقلي الذي يؤكد أن التقليدية تعتقد اعتقادا جازما بكفر كل من لا يؤمن بمقولاتها ويتبعها في كل ما تتبناه من مواقف وآراء، وأن النتيجة لذلك (النتيجة غير المعلنة!) أن كل من خالفها من المسلمين هم كفار حتما، وأن هذا الحكم التكفيري ينتظم العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه. هذا فيما يخص التقليدية. أما الأصوليات الحركية فهي في الأصل نشأت كإرادة نهضة، كرد فعل على الهزيمة الحضارية الساحقة التي أنضجها وعمّقها وأبّدها وقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار التركي لأكثر من أربعة قرون تم فيها نفي العقل، ونفي الضمير، إلى أن وصل الأمر إلى نفي الإنسان؛ فلم يبق من الإنسان بعد كل هذا النفي إلا صورة إنسان. الأصوليات كانت تحاول الإجابة من خلال الواقع عن سؤال النهضة، وليس عن سؤال الدين. الدين في البداية لم يكن هو المشكلة، وإنما المشكلة كانت في الواقع البائس الذي قد ينسب إلى الدين زورا. أي أن الدين في الأصوليات استخدم استخداما ذرائعيا، كان مجرد وسيلة حشد وتجييش؛ لمهمة استنقاذ هذا العالم الإسلامي الذي طحنته رحى التخلف على مدى قرون، إلى أن أصبح على شفير الهلاك. في البداية، عندما تقدمت الأصوليات بمشاريعها لم تكن تحمل أكثر من إرادة صادقة، ولكن ساذجة كأشد ما تكون السذاجة. ولما لم تتمكن من الفعل في الواقع، نتيجة تحديات الداخل والخارج، مُنيت بإحباطات كثيرة، احباطات تراكمت؛ فصنعت حالة يأس، مما جعلها تصطدم على نحو حاد ومؤلم بهذا الواقع المعاند. ولا شك أن هذا الاصطدام جعلها تمتاح من أشد ما في تاريخها من مقولات التشدد والتطرف والتعصب والانغلاق. فهي إذ كرهت الآخرين؛ بحثت عما يبرر لها كراهية هؤلاء الاخرين، وبدأت تستعذب مقولات المفاصلة والانغلاق، وتتبجح بأنها تمتلك منظومة قيمية بل وعلمية، مغايرة لكل هذا الزخم الآتي من الآخرين / الغرب. تمحورت مقولات الأصولية حول مقولة الاستغناء عن الغرب / العالم وحضارته بما عندنا من حضارة! ما عندما يكفي، بل ويفيض عن الحاجة، وسنتمكن في قادم الأيام من تصديره (مقولة سيد قطب ومحمد قطب أن العالم قد أفلس، وهو في أمس الحاجة إلينا، وأننا في انتظار دورنا لقيادة البشرية!)، فكل مفردة ابتكرها الغرب في أي حقل معرفي أو في أي مجال حياتي، فلدينا ما يقابلها مما هو أفضل منها بكثير، فكل ما عندهم هو بشري مدنس، وما عندنا هو رباني مقدس معصوم.. إلخ صور الهذيان الأصولي. واضح أن المنظومة الأصولية تنتمي إلى عالم الرغبات وعالم الصدمات. إنها نتاج هزيمة من جهة، ونتيجة حالم طوباوي ضخم من جهة أخرى. أي أنها منظومة لا علاقة لها بالواقع، ومن ثم فهي غير قادرة، لا على فهم الواقع، ولا على إصلاح هذا الواقع. بقاؤها ونجاحها وتألقها مرهون ببقائها في عالم التصورات الذهنية، في عالم الأحلام، وربما في عالم الأفلام؛ لأنها متى ما لامست الواقع تبخرت جمالياتها، ولم يبق منها إلا تلك العظام النخرة التي لا تغني ولا تسمن من جوع. لعشرات السنين، لم يستطع المثقف المدني أن يقنع الجماهير بفشل خطاب الأصوليات. كان يشرح ويُفصّل ويستعرض نماذج من الأدبيات الأصولية التي تعكس رؤية متخلفة، من شأنها أن تخنق الواقع؛ بدل أن تمنحه ترياق حياة. ولكن الجماهيري المسحوق والمقموع والمكبوت كان لا يستطيع رؤية ما هو أبعد من الوعد الأصولي الجميل، الوعد بزمن جديد، بعالم جديد، تسوده إرادة الله على يد المخلصين من عباد الله. هل يستطيع اليائس الذي لا يمتلك إلا فتات الوهم من عالمه الواقعي أن يفلت من قبضة وعد طوباوي عريض، وعد يفتح له أبواب السماء وأبواب الأرض، وعد يفيض بالصدق إذ ينطق بلسان الله ؟! خلال الثلاثين سنة الماضية حكمت الأصوليات في أكثر من بلد إسلامي. تحقق الأمل الأصولي في الوصول إلى الحكم. في إيران، وفي السودان، وفي أفغانستان، وفي غزة، وأخيرا في تونس ومصر، وإلى حد كبير في المغرب واليمن. أصبحت الأصولية على محك التجربة، أصبحت وجها لوجه مع تحديات الواقع الذي كانت تنتقده ليل نهار، ولم يعد اللعب على سيرك الشعارات الفارغة يكفي، حتى وإن حاول بعضهم الهروب من عالم الواقع إلى عالم الشعارات في بعض المناسبات. مَن يصدق أن إيران الثورة، أنجح الأصوليات على مستوى حيوية الفعل، وعلى مستوى العقل التنظيمي، وعلى مستوى توفر الإمكانيات المادية، ستنتهي بعد أكثر من ثلاثين سنة إلى هذا الفشل الذريع، إلى هذا التخلف الذي عاد بإيران عشرات السنين إلى الوراء، إلى وطن معزول ومنبوذ من العالم أجمع، إلى وطن يبحث عن مجرد اعتراف، فلا يجده إلا عند حلفاء التخلف والإرهاب. والسودان الذي حكمته الأصولية لما يناهز العقدين ونصف، عاد أسوأ مما بدا، ولم يجن إلا تشرذما وفقرا وانقساما ونبذا من العالم، حتى تم تصنيفه كبلد راع للإرهاب. وأفغانستان طالبان لم تصمد إلا لسنوات معدودة، فأضاعت نفسها وأضاعت ما بيديها من فرص كان من الممكن أن تكون بداية استقرار على الأقل. وحماس آمنت، ثم كفرت بالديمقراطية، وانقلبت على الحكومة الشرعية، وأحالت غزة إلى سجن كبير، سجن لم تكن تطيقه، فتخلت أول ما تخلت فيه عن مشروعها الأساس (= المقاومة)، ولم تستطع أن تفي حتى بأقل حاجيات الإنسان اليومية المشروعة، والتي أصبحت غير مشروعة؛ فلا يصل إليها إلا عبر قنطرة التهريب. مؤخرا، تونس ومصر، يحكمهما الإخوان، أقدم الأصوليات وأكثرها ثراء في ميدان الفكر، وفي ميدان التجربة، وفي مجال الانفتاح. اليوم في تونس تتوالى الاعتذارات تلو الاعتذارات، بعد أن كانت الوعود بالمجان. بدأ الواقع يتكشف عن تحدياته التي لم تكن في الحسبان، وأهمها وأشرسها تلك التحديات الآتية من الفصائل الأصولية الأخرى، الأشد تطرفا (= التقليدية)، مما يفتح الباب على احتمالات الصراع بين الإخوة الأعداء. أما مصر، فهي تعيش اليوم أزمة طاحنة على أكثر من صعيد. طبعا الأزمة لم يصنعها الإخوان. ولكنها مسؤوليتهم؛ لأن الإخوان هم الذين في الواجهة من خلال موقعهم في السلطة، وهم وحدهم المنوط بهم اجتراح الحلول وتطبيقها. وما حصل إلى اليوم يدل على فشل ذريع حتى في أبسط الأشياء وأتفهها، بل حتى في مستوى الخدمات المباشرة التي كان النظام السابق قد تجاوزها، وأصبحت من البدهيات. أي أن الأمور تسير باطراد إلى الأسوأ، أسوأ مما كان عليه الوضع في النظام السابق، وفي كل مجال. لو أخذنا مصر مثالاً على فشل الأصوليات، لن نجد أن ثمة تغييراً يذكر إلا على مستوى الشعارات الفارغة. لا تغيير في أي شيء، سوى في تردي الأوضاع الأمنية، وضمور الخدمات الحكومية، وارتفاع الأسعار، وتراجع مؤشرات الاقتصاد، وفقدان الثقة في مستقبل واعد، مما نتج عنه حالة عامة من الفوضى ومن اللامبالاة. حتى لقد بدأ كثير من الناس (وهذا ما لاحظته بنفسي) يكرهون كل ما نتج عن تلك الاحتجاجات (= الثورة) من متغيرات، ويتمنون نتيجة مقارنة بالواقع الذي يعيشونه لو كان النظام السابق بقي صامدا ولم يسقط؛ مع تصريحهم بأنه كان سيئا في كل الأحوال. مما يلفت النظر، وله دلالة على قرب نهاية الأصوليات، أن شعار الأصولية العتيد: (الإسلام هو الحل)، لم يعد مطروحا، لا أحد اليوم يستسيغ مثل هذا الشعار الخادع وهو يرى الواقع، بل وهو يصطدم بالواقع البائس كل لحظة. كثيرون من بسطاء الناس يقولون: مللنا الكلام، افعلوا لنا شيئا. هناك خيبة أمل كبيرة بالمشروع الأصولي، بل إن هناك تخوّفا واضحا منه، تخوفا بدأ يظهر حتى على ألسنة المتعاطفين مع الأصولية من خارجها، وخاصة فيما يمس شأن الحريات، حرية الصحافة والإعلام والفن تحديدا. لقد بدا واضحا أن الأصوليات وصلت إلى نهايتها، أسقطها الواقع إذ فشلت في إدارته؛ بعد أن عجزت من قبل كل الخطابات الثقافية المضاد عن إسقاطها. لم تعد شعارات الأصولية تمتلك تلك الجاذبية التي كانت تمتلكها من قبل. أفاق الناس على حقيقة واضحة، ولكنها كانت غائبة أو مغيبة، وهي أن الأصولية (أيا كان دينها أو مذهبها) لم تسهم في تقدم أي بلد في العالم، بل على العكس، هي في كل بلد من عوائق التقدم ومن مقومات النكوص. بقليل من التأمل والتبصّر، وبالمثاقفة التي عززها الانفتاح في وسائل التواصل والإعلام، أدرك الناس أن العالم يتقدم بأفكار الانفتاح لا بأفكار الانغلاق، بقيم الحرية لا بالقيم العنصرية، بالمنطق الليبرالي الذي يحكم العالم الحر اليوم، العالم المتقدم المتسارع في تقدمه، لا بالمنطق الأصولي الانغلاقي الذي يستعبد اليوم إرادة ملايين البؤساء، في عالمنا، عالم البؤس والشقاء.