تتميز التقليدية الاتباعية ، بأنها المنظومة الأشد تأثيراً في حياتنا اليوم ، ليس بكونها التيار الذي يربط الأمة طوال تاريخها بنقطة الصفر ، أو ما يُسمى بلحظة الانطلاق فحسب ، وإنما بكونها - أيضا - التيار الذي يشد الأمة دائما إلى الوراء ، إلى ماضٍ موهوم ، إلى سلف غابر ، أياً كانت هوية هذا الماضي ، وأياً كانت مبررات هذه العودة المجانية إلى ذلك الوهم الجميل !. وطوال تاريخ الأمة المتقلب سياسيا واجتماعيا وثقافيا ، كانت التقليدية الاتباعية هي التيار الوهم ، أو هي تيار حملة الأوهام ، ولكنها - في الوقت نفسه - هي التيار الأشد تأثيراً في حياة جماهير البسطاء ، أولئك الذين لا يريدون ، أو لا يستطيعون ، الخروج من عباءات الآباء، ولا من أسمال الأجداد البالية بفعل تقادم السنين . ولأنها كانت كذلك ؛ كانت هي العقبة التي وقفت ، وتقف ، ضد كل حراك ثقافي أو سياسي أو اجتماعي ذي نفس تقدمي ، بدعوى الأصالة والخصوصية والاصطفاء . وعندما تتأمل تاريخنا ، منذ انبعاث الأمة على يد الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تجد أن هذا التيار الاتباعي الجمودي ، هو مرض الأمة العضال . دائما ما كانت الأمة ، وخاصة في فترات التحول السياسي الكبير ، تتفلت - فكرا وعملا- نحو آفاق تقدمية ، تتمرد ، أو تحاول أن تتمرد على واقعها ، ولكن ، دائما ما كان هذا التيار الماضوي الاجتراري يشدها بكل ما يمتلكه من مكونات النكوض إلى الوراء . وبصورة أوضح ، نقول : لقد كانت كل نبضة انبعاث في تاريخنا ، منذ كان وإلى اليوم ، يقف لها هذا التيار بالمرصاد . ودائما ما كان هذا التيار ، وطوال تاريخنا المجيد !، يُمثّل أيديولوجيا انكفاء وانطفاء، وعودة جنونية إلى وهم مستحيل . دائما ما كان هذا التيار مصدر تأزم في الفكر ، كما هو في الواقع ، دائما ما كان هذا التيار يصنع الإشكاليات الوهمية ، ليجعل منها إشكاليات واقعية ، وكأنّ مهمته خلق واقع مأزوم على الدوام . كثيرون يعتقدون أن هذا التيار الاتباعي يشكل أزمة في الحاضر ؛ لأنه لا يفهم العصر ، أو لا يستطيع فهم العصر ، بينما هو في الحقيقة تيار لايفهم الماضي أيضا ، أو - على نحو أدق - أزمته الأولى هي في عجزه عن فهم الماضي ، الماضي الذي يحاول إعادة إنتاجه ، أزمته في اغترابه معرفيا عن الماضي الذي يحاول تمثله بالتطابق التام ، وليست أزمته ابتداء في اغترابه عن واقعه المعاش. إشكالية هذا التيار الاتباعي الارتكاسي ، تكمن في أنه يصنع الأوهام النظرية عن الماضي ، يصنع الماضي كما يحب أن يراه ، يخلق تاريخه من أوهامه وهواجسه ومخاوفه وطموحاته ، وليس من المكونات الحقيقية لهذا الماضي ، إنه يمارس نقل الماضي من وقائعيته ، من بشريته ، من إطاره الإنساني ، إلى مستويات من التصعيد نحو المتعالي ؛ دونما حدود تُقنن وتُنظم (على ضوء المعقول الواقعي) هذا التصعيد المكتنز بطوفان الأوهام . لا يتصور التقليدي الاتباعي الذي التهمته أوهام التقليدية الاتباعية ، والذي يحاول فرض أوهامه على واقعه المعاصر ، أن مرجعية الاتباع (= قاعدته النظرية المتوهم وجودها عمليا) لم تكن على تلك الصورة التي يتوهمها أو يتخيلها . التقليدي الاتباعي لا يتصور أن كثيرا من المبادئ والتعاليم ، التي يؤكد لنفسه ولغيره أنه على استعداد للتضحية بروحه ؛ كي يراها ماثلة في الواقع ، هي مبادئ وتعاليم تم اختراقها ، بل واستغلالها ، حتى في ذلك العصر الأنموذج ، في ذلك العصر الذهبي الجميل المضيء في المخيال ، في ذلك العصر الذي تم تلوينه بكل أوهام الكمال ، بينما هو (عصر بشري) محكوم بالقانون الأقوى في الواقع ، الذي هو : قانون الإنسان . إن أشد ما يُؤزم التقليدي الاتباعي ، ومن ثم يؤزم مجتمعه الحاضن له معه ، أنه يمتلك تصورا مغلوطا عن الماضي ، إنه يتصور المبادئ النظرية التي صاغتها الأحلام والطموحات وعذابات الانتظار عبر مسيرة أجيال وأجيال ، وكأنها كانت مبادئ تحكم الواقع وتتحكم فيه بأقصى درجات الانضباط ، وبأنصع صور المثالية التي يحتملها التوق الإنساني إلى الكمال . من هنا ، نجد أن التقليدي الاتباعي لا يحاول استعادة ماض غير مطابق للحاضر ، لا يحاول قسر واقع ماض على واقع راهن فحسب ؛ كما يتوهم كثير من مُحللي خطاب الاتباعية ، وإنما هو - أيضا - يحاول استعادة (وهم كبير) ، وهم يستحيل أن يوجد في الماضي ؛ بقدر ما هو مستحيل في أزمنة تجاوزت ذلك الماضي بأكثر من عشرة قرون . لهذا السبب ، تجد أن التقليدية الاتباعية تغضب من إعادة قراءة الماضي على ضوء آخر ما أنتجته المعرفة الإنسانية من آليات قرائية (= مناهج تحليلة) ؛ لأن هذه القراءات ستعيد فهم الماضي على نحو أدق ، ستحطم الأوهام ، ستقترب من العالم البشري ، ستجعل الإنسان في سياق الإنسان . وهذا بلا شك ، من شأنه أن يفسد الموقع النظري للتقليدية الاتباعية (وهو المُشرّع للمكانة الاعتبارية) ، بأكثر مما تفسده سلسلة الخسائر التي تطاولها في الواقع الراهن . أي أن التقليدية الاتباعية تغضب من أولئك الذين يقفون ضد بنائها الوهمي عن الماضي ، بأشد مما تغضب من أولئك الذين يقفون ضد محاولاتها الحالية التي تتعمد الاستيلاء على الواقع ، الاستيلاء على الواقع بما تمتلكه من مبادئ ونظريات ورؤى متخمة بمعسول الأحلام . أقسى ما يؤلم التقليدية الاتباعية ، ليس أن تنفضح في الواقع ، ليس أن يكتشف الناس زيفها أو حتى تزييفها ، ليس أن يرى الناس بعيون العقل لامعقوليتها ، وإنما هو (= أقسى ما يؤلم) متحدد في الخوف من افتضاح ذلك الماضي ، في الخوف من الكشف عن الطبيعي / البشري فيما هو مصنوع من وهم التجاوز للطبيعي / البشري . أي أن التقليدية الاتباعية تخاف على (الصورة الموهومة) عن الماضي ، وهي الصورة التي تتشرعن بها اليوم ، وتعيش على ذيولها ، أشد مما تخاف على واقعها المباشر ؛ لأنها تدرك أن سقوط المرجعية الوهم ، سينقض بنيانها من الأساس . من هنا ، نجد أن التقليدية الاتباعية تشكل خطراً على نظرية المعرفة ، قبل أن تكون خطرا مباشرا على واقع الإنسان . التقليدية الاتباعية أينما وجدت ، خلقت أزمة في الوعي ، صنعت حالة تخلف مُمَنهَج ، ومن ثَمَّ ، تخلق سلسلة من الأزمات الواقعية التي لا تقف إلا في مستنقع التخلف والتطرف والإرهاب . إن من يتأمل مسيرة التقليدية الاتباعية عبر التاريخ ، وعلى امتداد الفضاء الجغرافي الإسلامي ، يتأكد له أنها أيديولوجيا تدمير ، لا أيديولوجيا تعمير ، مشروع نكوص وتراجع وموات ، لا مشروع تقدم وتطور وحياة . التقليدية الاتباعية عبر تاريخها الطويل ، ذلك التاريخ الذي يكشف عن هويتها بأفضل مما تكشف عنه حزمة المبادئ النظرية التي تتبجح بها ، كانت العدو الأول لكل تقدم ، لكل تنمية ، لكل انفتاح ، لكل وعيّ مدني محايد ، لكل توافق شعبي يتغيا التعايش ، لكل تطور حقيقي في مسألة حقوق الإنسان . بل إن الواقع اليوم يشهد على هذا الدور البائس للتقليدية الاتباعية ، يشهد على دورها المحوري في التدمير . فقبل بضع سنوات ، وعندما قامت قوات التحالف الدولي ، بقيادة الولاياتالمتحدة ، بتحرير العراق من صدام (صدام الشخص والفكرة والنظام) ، كان العراق ، بما فيه من مكونات طبيعية ، يعد بمستقبل باهر مغاير لكل ما سبق ، كان الوجود الغربي قادراً على تشكيل العراق وطنا وإنسانا ، وصياغته ليبدأ من نقطة إنسانية واعدة مرتبطة ارتباطا مباشرا بالعالم المتحضر ، كان كل شيء يعد بالأفضل والأجمل ؛ لولا انبعاث التقليديات الاتباعية ، من سنية وشيعية ، لتكون مصدر دمار للعراق الوطن والإنسان ؛ ولا تزال . اليوم في مصر ، وبعد الانفتاح النسبي للفضاء الديمقراطي ، رأينا كيف تتسلل التقليدية الاتباعية ؛ لتبدأ في ممارسة دورها التدميري . لقد بدأت تصنع الصراعات ، وتحاول زعزعة الوعي المدني الذي لم يترسخ بعد ، وتتعمد محورة الاهتمام حول إشكاليات وهمية ، إشكاليات تخلق الاحتراب الداخلي ، بدل الالتفات إلى الإشكاليات الجوهرية التي ستحدد مصير مصر والمصريين إلى ما بعد عدة أجيال . التقليدية الاتباعية تريد العودة بمصر إلى الوراء ، بدل أن تدفع بها إلى الأمام ، تريد إلغاء كل إنجاز تحقق في العهد السابق على المستوى الإنساني ، بعد أن كان غضب المصريين واحتجاجهم الكبير ناتاًج عن ضمور وتراجع الإنجاز في هذا المضمار على وجه الخصوص.. حتى في سورية التي تعيش اليوم مخاضها الأصعب ؛ حيث الشعب المقهور يبحث عن منافذ للحرية ، نجد التقليدية الاتباعية تحاول تأزيم الوضع أكثر مما هو متأزم ، إنها تريد نقل الصراع من كونه صراعاً على الحرية والكرامة الإنسانية إلى صراع لحساباتها المذهبية والطائفية الخاصة ، تريد نقل الاهتمام من فضائه الإنساني الرحب ، إلى حيث الوهم المعادي للإنسان . وكما تمارس التقليدية الاتباعية دورها المُدمر في العراق ومصر وسورية ...إلخ ، نجدها لدينا قد اكتسبت هويتها (منذ وُجدت لدينا وإلى اليوم) من وقوفها ضد كل مشاريع التنمية ، ومن معارضتها لكل صورالانفتاح ، ومن حشدها الاحتقاني التكفيري التضليلي التفسيقي ؛ لمواجهة كل حق إنساني خالص . إنها لدينا أشد ضرراً مما هي لدى الآخرين ؛ لأنها إن كانت صوتا هامشيا عند الآخرين (وهو خطر مع هامشيته) ، فهي لدينا صوت صاخب ، صوت يستطيع خداع شرائح عريضة من مغفلي الجماهير الذين لا يزالون يعيشون الطور الطفولي من حياة الإنسان ، أقصد ذلك الطور الذي يمتهن فيه الإنسان / الطفل الخضوع والتقليد والاتباع. لكن ، يبقى السؤال الذي يجب أن نواجه به أنفسنا ، أو على الأصح ، نواجه به هذه التقليدية الاتباعية التي هي جزء منا ، أوهي جزء فينا : متى يكبر هذا الإنسان ليتحرر من هذا التقليد ؟ ، متى يستطيع التحرر من أسْر الرؤى التي تجعله نسخة مشوهة عن الغابرين ؟ متى يتحرر من توقه إلى أن يكون نسخة عن الغابرين ، متى يبدأ بالتفكير خارج صندوق التقليدية الاتباعية التي لا تمثل غير أيديولوجيا تدمير ، أيديولوجيا حَجَر ، أيديولوجيا تفترض أن الجميع لم يبلغوا مرحلة الرشد بعد ، ولن يبلغوها أبدا ؛ لأن كل الناس اليوم - في تصورها الاتباعي - لا زالوا أطفالا أو مجانين ؛ مقارنة بنضج وبرُشد وبكمال أولئك السلف الغابرين ؟!. نقلا عن الرياض